الانعكاس الذاتي والميتافكشن في الأدب

ميتافيكشن
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد عطية*

بعد دقائق قليلة من قراءة الروايات غير ذاتية الانعكاس، ينسى القراء أحيانا ما يفعلونه وينتقلون إلى عالم الكتاب. باعتبارهم ذلك تجربة ساذجة، يحبط كُتاب الانعكاس الذاتي هذا التماهي بأدواتٍ كالتعليق على بنية النص والتركيز على الرواة كشخصيات مما يذكر القراء دائمًا أنهم يقرأون عملًا متخيل، وهذا النهج يتحدى تقليد الرواية نفسها، الذي أصر لأكثر من مائتي عام على أن يكون الشكل وصفًا تمثيليًا للأفعال الواقعية في العالم، ويتحدى كذلك النظرية الجمالية المهيمنة منذ أن شرحها صموئيل تايلور كوليريدج لأول مرة في أواخر القرن الثامن عشر، أن يشارك قارئ العمل التخييلي في تعليق عدم التصديق.

مؤلفو الأعمال ذاتية الانعكاس يميلون إلى استخدام لغة مصطنعة بشكل مدهش أو غير رسمية، أو تنحرف عن المواضعات بطرق أخرى لا حصر لها. وهذا الانحراف يسلط الضوء على النص نفسه، مما يجعل تصويرها للعالم يبدو أقل واقعية. هذا التأثير ينتشر في جميع أعمال الانعكاس الذاتي، على الرغم من أنه عادة ما يكون أكثر تطرفا في كل مستوى متتالي. وإلى حد ما يمكن اعتبار أن الوعي الذاتي الأدبي ابتدأ منذ ملحمة جلجامش (3000 ق.م)، والذي يذكر أن الملحمة مسجلة على الصخر، ولكن تلك الإشارة الوحيدة غير كافية لاعتباره يمثل انعكاسا ذاتيا قوي.

تصنيفات المتخيلات السردية ذاتية الانعكاس

المتخيلات السردية ذاتية الانعكاس يمكن أن تقع تحت أربعة مستويات من الاستبطان: الوعي الذاتي المضلل وفيه يفحص الرواة كلماتهم بحثا عن فهم للذات بعيد المنال. ورواية التشكيل (The Künstlerroman) وهي رواية عن تعليم وتشكُل الكاتب أو أي فنان مماثل. ومتخيل سردي ذاتي التوالد، عن كيفية خلق نفسه. ومدراش (1) ممتدة تركز على موضعها في الأدب عن طريق الدمج بين السرد والنقد الأدبي.

الوعي الذاتي المضلل

إن الراوي الذي التهمه الحقد في رواية “مذكرات من العالم السفلى” لفيودور دوستويفسكي بدأ نمطا للوعي الذاتي المضلل للتخييل السردي في القرن العشرين: راوي يحلل نصه، في الواقع غالبا ما يكون فنانا محتملا ولكنه يفتقر إلى البصيرة الكافية. وهكذا تفصل السخرية بين المؤلف والراوي. على سبيل المثال همبرت همبرت بطل رواية “لوليتا” 1955 لفلاديمير نابوكوف، يأمل في تخليد اغتصاب القاصرات كأدب جاد، على الرغم من أنه تم تصنيفه في المقدمة كحالة للدراسة نفسية، والرواية في نهاية المطاف كوميديا سوداء تسخر من همبرت همبرت.

 

وبالمثل “الرواية الأمريكية العظيمة” 1938 لكلايد بريون ديفيس تزعم أنها يوميات صحفي يقضى حياته كلها في التخطيط لرواية لم تكتب أبدا. كذلك صوت الشخص الأول في رواية “جريندل” 1971 لجون جاردنر يصبح مفتونا بشاعر سردي لكنه في النهاية يرفض الأخلاق، والفن وأي نظام آخر. في المتخيلات السردية المرتكزة على الوعي الذاتي المضلل، يكون الراوي الوحشي أو المعتوه فنان غير متحقق.

رواية التشكيل

قرب بدايات رواية “التحولات” (القرن الثاني بعد الميلاد،  المعروفة باسم الحمار الذهبي 1566) تنبأ المؤلف لوكيوس أبوليوس أن بطل الرواية سيواجه مغامرات تستحق أن تُكتب في كتاب. ورغم أن أبوليوس يكتب الكتاب، لكنه يعلن اعتقاده بأن المغامرات نفسها لها الأسبقية على تأليف القصة. فقط في القرن التاسع عشر وصل الكتاب لمكانة تؤهل لظهور نوع أدبي لتمجيدهم وسُمي رواية التشكيل. بعض هذه الأعمال تشمل “سنوات تعلم فلهلم مايستر” 1824 ليوهان فولفغانغ فون غوته، و”هاينريش فون أوفتردينجن” 1842 لنوفاليس.

وكمحاكاة من ضمن الكثير لهذا النوع أعمال مثل “أيها الملاك انظر تجاه البيت” 1929، “عن الوقت والنهر” 1935، “الشبكة والحجر” 1939، و”لا يمكنك العودة للمنزل مرة أخرى” 1940 لتوماس وولف هي أعمال سيرة ذاتية متنكرة، تصور استياء الفنان من المجتمع المعاصر. والأكثر أصالة الكتب التي حاولت تحديث ذلك النمط، مثل “ذئب البوادي” 1929 لهرمان هسه، في البداية تبدو كرواية وعي ذاتي مضلل، هذيان كاتب يوميات مجنون، ولكن هسه يصور تدفق اللاوعي على أنه التعليم الأنسب للفنان. بديل آخر لهذا النمط هو موازنة وجهات نظر العديد من شخصيات الكاتب كما في “نقطة ضد نقطة” 1928 لألدوس هكسلي، و”المزَيفون” 1927 لأندريه جيد، و”رباعية الإسكندرية” 1962 للورانس داريل.

في الولايات المتحدة كثيرا ما عمل المؤلفون على منع الانعكاس الذاتي من التحول إلى الابتذال. وبالتالي كان البديل الشائع لهذا النمط هو التنكر في صورة مغامرة ذكورية. ومثال على ذلك “روايات إندر” لأورسن سكوت كارد. الرواية الأولى “لعبة إندر” 1985 تبدو أنها تدور عن قائد عسكري في مرحلة البلوغ على الرغم من أن إخوته أصبحوا كتابا مشهورين. في الجزء الثاني “المتحدث باسم الموتى” 1986 ظهر أن تعليمه كان يعده لكتابة النصوص المقدسة لدين جديد. في الأجزاء الأخيرة من السلسلة ومنها “ظل العملاق” 2005، وصلت قواه كمؤلف إلى بعد سحري بحيث يمكنه خلق الشخصيات حرفيا بمجرد تخيلهم. في روايات التشكيل كونك كاتبا يعتبر أقصى تعبير عن إمكانات الشخص، في حين أن المستوى التالي الرواية ذاتية التوالد تحتفي بخلق المؤلف لعالم كامل.

الرواية ذاتية التوالد

في محاولة لتعريف كل المتخيلات السردية ذاتية الانعكاس الطويلة، ابتكر ستيفين ج كيلمان مصطلح الرواية “ذاتية التوالد” والذي يعني رواية تبدو وكأنها كُتبت عن طريق شخصية روائية من داخل العمل. رغم أنه يعترف أن ليس هذا في الواقع ما تركز عليه كل أعمال الانعكاس الذاتي، لكن عبارته تناسب المتخيلات السردية المستقلة ذاتيا، على سبيل المثال المتخيلات التي تحيل نهاياتها إلى البدايات.

يرى كيلمان أن الرواية ذاتية التوالد في الغالب فرنسية الأصل، بدأت مع ظهور “البحث عن الزمن المفقود” 1922-1931، 1981 لمارسيل بروست. وهنري ميللر في “مدار السرطان” 1934 و “مدار الجدي” 1939 يصور مقاومة كاتبه بطل الرواية للزمن النهم في عمل بروست. وبالمثل رواية “الغثيان” 1949 لجان بول سارتر تنتهي بالشخصية الرئيسية  أنطوان روكينتين وهو يتمنى أن يكتب رواية تجعل الناس يوما ما يبجلونه كما يبجل هو مغنية يُسمع تسجيلها بشكل متكرر. وكما يلاحظ كيلمان، النادلة التي تدير التسجيل تدعي مادلين، إشارة إلي كعكة مادلين لبروست، التي أثار مذاقها الذكريات الحية الخارقة لبطل الرواية عن ماضيه. وبشكل لافت، ميشيل بوتور المشهور برواية “تغير القلب” 1958، وصمويل بيكيت مؤلف “مالون يموت” 1956 و “اللا مسمى” 1958 لم يكتبا فقط روايات ذاتية التوالد بل كتبا أيضا مقالات رئيسية عن بروست.

الروايات الشبيهة ببروست المذكورة أعلاه مقيدة بشكل متزايد وناقمة على الحياة. عالم ميللر أكثر خزيا ودناءة من عالم بروست. وراهن سارتر أكثر على الدناءة مستلهما “غثيان” روكينتين. وبعدها بعقدين بدلاً من أن يكون كاتبا مثقفا مثل روكينتين ، عمل بطل رواية “تغير القلب” ككاتب على آلة كاتبة في شركة. وروايات بيكيت بالكاد تمس مؤلفين بشريين في عوالم كابوسية. ويجادل كيلمان بأن محاكاة بيكيت الساخرة لهذا التقليد كتبت نهايته.

ومع ذلك فإن كتاب آن رايس الأكثر مبيعا “حكاية سارق الجسد” 1992 يجمع ما بين عناصر من هذا التقليد الفرنسي (مثل السرد البطىء، والعالم المرهق والإحالات المرموقة) مع السرد الأمريكي ذاتي التوالد (المغامرة، المنظور الشبابي، والأسلوب غير المألوف كما في رواية جيروم ديفيد سالينجر “الحارس في حقل الشوفان” 1951). يتناوب ليستات بطل رواية ريس الفرنسي الأمريكي ما بين المنولوجات الشعرية حول اشمئزازه من ذاته الذي دام قرونا والتعبيرات المليئة بالعامية عن شبابه الخالد. واقتبست رايس في مقدمة الكتاب من قصيدة ويليام بتلر ييتس “الإبحار إلى بيزنطة”، عن الحاجة لترك الحياة الزائلة والانتقال إلى خلود الفن أو الخلود الخارق للطبيعة. وحقق ليستات كليهما: كتب كتابا واختار هوية مصاص دماء، وهذا يبدو كخطوة تالية من بعد رواة بيكيت شبه الأموات. في رواية “عالم صوفي” 1996 لجوستاين غاردر البطلة امرأة تخشى أنها قد تكون فقط شخصية في كتاب، وهو قلق شاركه معها لينور ستونكيفير بيدسمان بطل رواية “مكنسة النظام” 1987 لديفيد فوستر والاس.

الشكل الأمريكي الأكثر نقاء هو السوقية المتعمدة لكورت فونيجت في روايته “المسلخ رقم خمسة” وتعرف أيضاً باسم “حروب الأطفال الصليبية: مهمة الرقص مع الموت” 1969، وهي عبارة عن سيرة ذاتية متخيلة افتُتحت وتكرر خلالها مقاطعات الكاتب لمناقشة بنيتها. ولتأكيد الدائرية استهل القصة بتأكيده بدقة أن الكلمة الأخيرة ستكون أغنية لطائرٍ يسمعها للأبد بيلي بيلجريم، بطل الرواية المتنقل زمانياً.

هناك مجاز متكرر في الرواية الأمريكية ذاتية التوالد (بما فيها أعمال رايس) يقارن التوالد الذاتي بالمغامرات الجنسية العقيمة جسديا ولكنها خصبة نفسيا. عملان رائدان من هذا النوع هما “شكوى بورتنوي” 1969 لفيليب روث و”الخوف من الطيران” 1973 لإيريكا جونغ. وهذه الفتوحات حافلة بالعار والقلق. تنتهي شخصية روث بالتساؤل هل سمح لللا عقلانية بالتحكم في كتاباته، وخشيت بطلة جونج على الأقل مرة واحدة أن تعلق داخل كتابها. جلب المحتوى الجنسي الصريح لرواية “الخوف من الطيران” سمعة سيئة، ومع ذلك لديها الكثير من القواسم المشتركة مع الروايات النسوية ذاتية التوالد الأكثر تحفظا مثل رائعة دوريس ليسينغ “الدفتر الذهبي” 1962.

في “الدفتر الذهبي” تكتب بطلة الرواية سلسلة من المذكرات تنتهى بأن تكون الرواية نفسها. وهذا يظهر مدى التشابه في الشكل ما بين المذكرات والرواية ذاتية التوالد. وعلى سبيل المثال في “مذكرات مالتي لوريدس بريجي” والمعروفة أيضا باسم “مذكرات ذاتي الأخرى” 1930 لراينر ماريا ريلكه، بالرغم من أنها ليست دائرية تماما، إلا أنها في كثير من الأحيان تتضاعف ذاتيا، فيستمر بريجي في الإشارة إلى فقرات سابقة، وتتضمن مناقشته الأخيرة عن الابن المبذر فكرة العود الدوري.

وبالمثل البنية الشبيهة باليوميات في “الرجل الصندوق” 1974 لكوبو آبي ربما تكون مرتكزة على الذات ويسودها الاستخدام المجازي للصندوق كرمز للاحتواء الذاتي. وبالرغم من افتتان هذا الشكل بالاستقلالية، فإنه في جميع أنحاء العالم تأخذ متغيرات الرواية ذاتية التوالد الطابع المحلي. كما فعل ان. سكوت موماداى في رواية “منزل من الفجر” 1968 التي تبدأ وتنتهي بترنيمة للأمريكيين الأصليين، مذيبا الكل في الأغنية المتكررة إلى الأبد لبطل الرواية.

 

المدراش الممتدة

بسبب استخدامه من قبل نقاد مثل هارولد بلوم، أصبح مصلح “مدراش” يستخدم للدلالة على التحليل الأدبي في شكل سردي. وقبل أن يوجد مصطلح نقدي للتعبير عن ذلك المدلول. بدأت المدراش الممتدة رواجها عن طريق رواية “عوليس” 1922 لجيمس جويس، باعتمادها على تشابه هائل مع “ملحمة الأوديسة” 800 قبل الميلاد لهومر، مع ارتباطها بعدد كبير من الأعمال الأخرى كذلك. على سبيل المثال، شخصية ستيفن ديدالوس (بطل سلسلة رواية تشكيل الفنان التي نشرها على أجزاء عامي 1914،1915 ونشرت كاملة 1916 باسم “صورة الفنان في شبابه”) تقضي فصلا كاملا في مناقشة مسرحية “هاملت” لوليم شكسبير بطريقة يمكن أن تنطبق على رواية عوليس نفسها.

في نفس العام الذي نشر فيه جويس روايته الأكثر تجريبية “يقظة فينيغان” 1939، أصدر فلان أوبرين على نفس الدرجة من التجريب روايته “سباحة طائرين”، كمحاكاة ساخرة للتقاليد الأدبية الأيرلندية. لم يؤدي ظهور تلك الأعمال إلى بداية فيضان، نظرا لأن “عوليس” -كالمدراش الممتدة- تتطلب قراء قادرين على فهم عرض مثير للدوار من كثرة إحالاته. وبالتالي الأعمال من هذا النوع تتوفر بالكاد. حتى القراء واسعي المعرفة لا يقدرونها دائما. وبتذكر “البحث عن الزمن المفقود” على سبيل المثال، أدان الراوي في رواية بروست التنظير عن الفن داخل الرواية مشبها إياه بوضع ملصق بالسعر على المشتريات.

ظهرت المدراش لأول مرة كشكل قديم من النقد التوراتي اليهودي. ولا تزال بعض المتخيلات السردية تطبق المدراش على النصوص المقدسة. على سبيل المثال تتكرر التأويلات التوراتية مرارا في رواية توماس مان المتعددة الأجزاء “يوسف وإخوته” 1934 والمعروفة أيضا باسم “حكايات يعقوب”. وهذا يؤكد أن إعادة روايته لسفر التكوين هي عبارة عن تكهنات أو حتى خيال. وبطل الرواية نفسه هو راوي القصة ومفسر الأحلام، ومعادل لمان نفسه. وبالمثل، رواية “آيات شيطانية” 1988 لسلمان رشدي تتضمن حلما يشبه المدراش عن شخصية تدعى سلمان يكتشف أن القرآن غير كامل مما يدمر إيمانه بكل شيء. ينتشر هذا الإحساس باللاواقعية في حياة الحالم مما يؤدي به إلى قتل نفسه في النهاية. لقد مثل أدوارا دينية كجزء من أحلام الجماهير الجمعية، التي تختلط بتفسيرهم للنصوص المقدسة. عالقا داخل تخيلاتهم الورعة، يتحول في معظم أجزاء الكتاب إلي ملاك محاطا بهالات التقديس. وساهمت تلك الصورة النمطية في مروره باكتئابه الانتحاري.

على الرغم من أن القصص حول الكتب المقدسة والأساطير والحكايات الخيالية هي أكثر أنواع المدراش الممتدة شيوعا، أدى احتكاك المؤلفين بالأوساط الأكاديمية إلى ظهور استخدامات أخرى. على سبيل المثال في فصله الجامعي، قدم فلاديمير نابوكوف تحليلا للبناء في قصة “المسخ” 1936 لفرانز كافكا. تحول هذا التحليل إلي قصيدة، يسهب فيها بالتحليل مفسر مجنون داخل رواية نابوكوف “نار شاحبة” 1962. ومن مصدر أكثر تجريدية في مؤتمر عن البنيوية استقى إيتالو كالفينو فكرة ترتيب بطاقات التاروت عشوائيا. يربط رواة روايته “قلعة المصائر المتقاطعة” 1976 تلك الترتيبات في آن واحد بشخصيات من الرواية وشخصيات من الأدب العالمي. وفي رواية كالفينو “لو أن مسافرا في ليلة شتاء” 1981 يأخذ الانعكاس الذاتي خطوة أخرى إلى الأمام، فهي رواية عن قارىء يحاول أن يقرأ رواية باسم “لو أن مسافرا في ليلة شتاء”. في رواية “ببغاء فلوبير” 1984 لجوليان بارنز، يجتمع هوس الراوي بالحب وبالمنحة الدراسية عن جوستاف فلوبير (2).

وفي سلسلة صموئيل ر. ديلاني الفانتازية، التي تبدأ برواية “حكايات نيفيرون” 1979، يتجول ما بين همومه الشخصية كأفريقي أمريكي مثلي الجنس، والمحاكاة الساخرة لكونان (3) التي يكتبها، وبين النظريات الأدبية التي ألهمت السرد خاصة التفكيك. في المدراش الممتدة يتلاقى المتخيل والغير متخيل (النقد والسيرة الذاتية) بشكل ملتبس، مما يخلق شعورا بعدم اليقين الذي غالبا ما تخلفه الحياة الواقعية كذلك.

بسبب غموضها وتهكماتها وتعقيداتها، لا يمكن أن تُعامل المدراش الممتدة كما لو أنها تعبير بسيط عن آراء المؤلف. فعلي سبيل المثال يعترض ميلان كونديرا بشدة عندما يتعامل النقاد مع المقالات المكتوبة داخل رواياته على أنها تعبر عن وجهة نظره. بدلا من ذلك يصر على أن وظيفة تلك المقالات أن تكشف عن كيفية بناءه لشخصياته. على سبيل المثال في مقالته “فن الرواية” 1988 أدت تأملاته عن الرومانسية إلى ابتكار عضو خيالي يتبع التقليد الرومانسي وهو شخصية بروميل في رواية “الحياة في مكان آخر” 1974. في تلك الرواية، تهدف ملاحظات كونديرا عن الرومانسية إلى خلق الشخصية من الخارج وليس من خلال تقنيات الرواية النفسية.  تعود جذور ممارسته إلى القرن الثامن عشر بناء الشخصيات باستخدام أنماط معروفة. ومع ذلك ، فإن نسخة كونديرا تختلف اختلافا كبيرا عن هذه الصورة النمطية التقليدية. هو لا يكسر فقط الإيهام بالواقع من خلال استغراق الكثير من رواياته في شرح كيفية ابتكاره للشخصيات، ولكن أيضا من خلال تأملاته عن اللغة والأدب، فيبني أنواعا جديدة وسرديات عنها. وهكذا تتكرر بعض الكلمات والمشاهد المعينة كموتيفات.

بعض التكرار المشابه ينتشر في كل أعمال الانعكاس الذاتي. كما يظهر في أعمال مثل “عوليس”  و “يقظة فينيجان”. وعلى الرغم من هذ االتكرار يمكن للتخييل ذاتي الانعكاس أن يكون كبير الحجم من دون أن يكون بالضرورة مملا. ومع ذلك كما يلاحظ روبرت سكولز فإن المتخيلات السردية ذاتية الانعكاس يمكن كذلك أن يظهر تعقيدها بشكل أكثر شيوعا في إطار الرواية القصيرة، والنوفيلا، أو حتى القصة القصيرة، كما هو الحال في الأعمال الميتافيزيقية لخورخي لويس بورخيس. وبالتالي فإنها تميل نحو تكثيف، متكامل، متعدد الطبقات، غير تقليدي يُذكر بالشعر التجريبي.

 

الفصل ما بين الانعكاس الذاتي والميتافكشن

اختلف المنظرون في تعريفهم لمصطلح الميتافكشن فمنهم من وضعه تحت عباءة الانعكاس الذاتي ومنهم من قرر فصله وربطه بآليات ما بعد الحداثة، وبينما تصفه باتريشيا ووه كاهتمام ثقافي عام بمشكلة كيف يعكس وكيف يبني البشر تجاربهم عن العالم، تعود لتستخدم المصطلح للإشارة إلى الأعمال الحديثة التي تنعكس بشكل جذري على الذات وكذلك إلى الأعمال التي تحتوي فقط على لمحات قليلة من الوعي الذاتي. وترى آن جيفرسون بأن تعريف ووه يسبب الغموض، فلا يمكنها دمج التعريفين، فإما أن تعرفه كخاصية متأصلة في السرد أو أن تعرفه كرد فعل على الثقافة المعاصرة.

غالبًا ما يستخدم منظرون آخرون نفس التعريف المزدوج للميتافكشن، مما يجعل من الصعب معرفة ما إذا كان تعريفهم يشير إلى الميتافكشن المعاصر أو إلى جميع الأعمال التي تحتوي على الانعكاس الذاتي. ساهم جون بارث في تعريف شامل قصير للميتافكشن على أنه «رواية تحاكي رواية بدلاً من العالم الحقيقي».

وفي أطروحة للدكتوراة يعرف فلاديمير تربكا الميتافكشن بأنه مصطلح لم يحل محل مفهوم الرواية الواعية بذاتها فحسب، بل قام أيضًا بتكييفها مع تعريف ما بعد الحداثة للأدب. يرتبط مفهوم التخييل في الإطار النظري للميتافكشن ارتباطًا مباشرًا بخطاب ما بعد الحداثة الذي وُلد فيه. وبالتالي توجد علاقة صريحة أو خفية مع الفلسفة البنائية للغة والأدائية (4) والطبيعة اللغوية للواقع موجودة في المناهج القائمة للميتافكشن. وهكذا إذا كان علم السرد المعاصر قد فصل ما بين الميتاناريشن (السرديات الكبرى) والميتافكشن (القص الما ورائي) في التصنيف الحالي للانعكاس الذاتي، فمن الضروري تعديل مفهوم الميتافكشن بحيث لا يتم تقييده بتعريف ما بعد الحداثة للأدب. وبالتالي يتم تعريف الميتافيكيشن على أنه خيال إفشاء ذاتي؛ الخيال الذي يعلق على خياليته من مستوى فوقي. في المقابل، تظل الرواية الواعية بالذات رواية كاسرة للإيهام، لكنها ليست رواية تكشف عن خيالها الخاص.

على الرغم من التباينات بين تعريفاتهم، يتفق معظم المنظرين على أنه لا يمكن تصنيف الميتافكشن كنوع أدبي أو كأسلوب معتمد وحيد لأدب ما بعد الحداثة.

الدافع إلى الميتافكشن

استمد الميتافكشن قوته على الأقل جزئيًا من أوجه الضعف في الرواية التقليدية. وقد برزت تلك الرؤية في عام 1960 عند ظهور جدلية «موت الرواية» حيث اشتكى النقاد من أن الشكل السائد للرواية منذ القرن الثامن عشر عاجز عن التعبير عن الطبيعة المتغيرة للواقع. ففي تلك الفترة ظهرت نظرية النسبية في الفيزياء ومبدأ عدم اليقين في المنهج العلمي وعدد من النظريات الفلسفية التي تحدت قدرة مركزية العقل البشري على تشكيل أحداث العالم. ومع ذلك، فقد كان الروائي، فيليب روث، الذي نظر في الطبيعة الموضوعية للواقع في عصره، هو أول من عبر عن يأسه من قدرة الرواية التقليدية على تمثيل ذلك الواقع. وفي كتابة «قراءة نفسي والآخرين» تحدث عن ندوة موضوعها مستقبل الرواية عام 1960 اشتكى فيها واقعيو عصره من الانزعاج عند مواجهتهم لطبيعة الحياة دائمة التطور حينها. وعبر عن ذلك في كتابه قائلًا “الكاتب الأمريكي في منتصف القرن العشرين غارق تمامًا في محاولة فهم ووصف ثم جعل الكثير من الواقع الأمريكي موثوقًا به” بالنسبة إلى روث، الشاب والنابض بالحياة، كان المشهد وقتها يتفوق على المحاولات التقليدية للتمثيل. «الواقع يتفوق باستمرار على مواهبنا، والثقافة تقذف كل يوم تقريبًا رموزًا هي مثار حسد أي روائي». وكان أكثر ما استفزه هو الطريقة التي أبلغت بها إحدى الصحف المحلية عن قضية قتل، حيث صورت الضحايا مثل شخصيات الشريط الهزلي وتمركز مراسل في الشرفة الأمامية للأم الثكلى، فكُتب العديد من المقالات التي حظيت بالكثير من القراء المخلصين كما حظيت أجزاء روايات تشارلز ديكينز قبل مائة عام. عقدت مؤتمرات صحفية لإبقاء القضية ساخنة، وحولت أغنية شهيرة الحدث إلى ما يشبه الملحمة. تم جمع تبرعات خيرية، ومكن ذلك الأم من شراء أجهزة منزلية جديدة وزوج من الببغاوات المتطابقة وأسمتهما على أسماء الفتيات المقتولات. 

إن كان إنشاء الشخصيات التي تختبر (ولكن لا تتجاوز أبدًا) المصداقية والسرديات المنتشرة التي تلتقط نوعية الحياة كما هو معتاد هي المعايير الضرورية، فقد تكون قدراتها قد تجاوزتها ضخامة الحياة الحالية. كان رد روث نفسه هو المضي قدمًا وتضمين مثل هذا المحتوى غير المعقول على أي حال؛ كان يحاكي مدرسة الكوميديا السوداء في الأدب من أجل أن تصرف القيمة الصادمة لمادته الأدبية الانتباه عن أي مخاوف بشأن الشكل الأدبي. تُرك الشكل نفسه لهواة التجريب، وسرعان ما ظهر بين صفوف الروائيين الجدد من سيوسع حدود التخييل بما يكفي حتى لروائي سائد مثل روث لتقديم تجارب جديدة في التقنية.

وفي أوائل الستينيات انتبه الأمريكيون لأول مرة إلى الممارسة النقدية المعروفة باسم التفكيك، الذي شاع في فرنسا عن طريق مقالات اجتماعية وثقافية كتبها رولان بارت وتحليلات أدبية وضعها جاك ديريدا، يفحص التفكيك الافتراضات غير المعلنة التي تقف وراء المعتقدات التقليدية. كشفت الرواية التقليدية عن ضعفها الشديد أمام التفكيك الذي يعري افتراضاتها المسبقة ويقوض أساس وجودها. الهدف المفضل للتفكيك هو التأثير الشمولي للمتخيل السردي التقليدي، وتأكيده أن العالم الذي يصوره يمكن التحكم فيه بما يكفي ليتم تضمينه في سردية تحت سيطرة المؤلف المطلقة. مثل هذه الظروف ضرورية لكي تقوم الرواية بعملها، لكن هذه هي الافتراضات ذاتها التي يسهل تفكيكها. بالنسبة لبارت على وجه الخصوص، فإن الأدب الكلاسيكي يثبت بشكل خاص قدرة الرواية على الخداع؛ في تحليله لرواية ساراسين لبلزاك أوضح بارت كيف أن هذا العمل يعتمد على افتراضات لم تخضع للمساءلة. لا يعني ذلك أن كتابة الروايات أمر شرير، فقط أن الممارسات التي تصاحب قراءتها تعرض القارىء للتضليل من خلال تلاعبات مماثلة لم تخضع للمساءلة في السياسة والممارسات الاجتماعية. كما يوفر التفكيك طريقة لقراءة جميع الأنشطة البشرية من خلال تفسيرها كعلامات، بالنظر للنظريات اللغوية التي ابتكرها فرديناند دي سوسير، رأي المنظرون أنه كما تتكون اللغة من قواعد للمزج بين الدلالات اللغوية، كذلك يمكن فهم كل النشاط البشري عن طريق نظام العلامات. والمشكلة التي سببها ذلك للرواية التقليدية أن طريقة دي سوسير لا تصف التشابهات بل الاختلافات، على سبيل المثال كلمة cat  لا تشير إلى حيوان معين ولكن الطريقة التي يختلف بها هذا المصطلح عن التراكيب الأبجدية الأخرى مثل bat, hat, sat, dat وهكذا دواليك إلى كل التباديل الممكنة. على الرغم من أن القطة موجودة بالطبع، إلا أن ما يهم النظام الذي يشير إليها هو الطريقة التي تختلف بها عن التراكيب الأخرى أو كيف تكون علامة مختلفة. لذلك إن كان أحدهم بصدد بناء نظام للتمثيل سواء كان في اللغة أو في ممارسة اجتماعية متخيلة فنيًا، فيجب أن يكون تركيزه منصبًا على حيل الاختلافات بدلًا من التركيز على الشيىء في حد ذاته. شكلت مثل هذه النظرية لعنة على عمل الإيهام في الرواية التقليدية. ليس من قبيل الصدفة، إذن، أن الانتشار الطاغي للميتافكشن بدأ في الستينيات، تمامًا حينما وصل التفكيك إلى الشواطئ الأمريكية.

تحدي الميتافكشن

الميتافكشن هو الأدب الذي لا يشير فقط  إلى تركيبته الخاصة، لكنه يجعل فعل التأليف نفسه موضوعًا له. اقتحم المشهد الأدبي مثل العديد من الأحداث الأخرى في الستينيات الأمريكية بصخب وبشكل صادم، ولكن بوفرة نقلت الشعور بالبهجة لا الحقد. نعم، كان ممارسوها يكتسحون أعراف الأدب التقليدي، لكن حدث ذلك غالبًا بروح الدعابة.  كانت إحدى دوافعهم الرئيسية أن الروائيين الأكبر سنًا اتخذوا الشكل على محمل الجد، واستخدموه في التعبير عن موضوعات أخلاقية ثقيلة وأوصاف دقيقة قاتلة للإبداع. يمكن للخيال أن يفعل ذلك بالطبع، ولكن كان هناك الكثير مما يمكن تحقيقه إذا وضع الكُتاب الجدية جانبًا للحظة واستمتعوا بما يوفره الإبداع الفني.

اللهو على الصفحات هو سمة متكررة للميتافكشن، حيث تخدم كتذكار ودي لذهن القارىء بأن هذا النوع الجديد من الروايات ليس تمثيلًا لما يحدث في الواقع بقدر ما هو حدث يحدث على الورق. ويتخذ الكتاب كل الخطوات الممكنة للتأكيد على الطبيعة المصطنعة للسرد، مثل استخدام خطوط طباعة بأحجام مختلفة أو بإضافة هوامش سفلية لدرجة مطاردة القصة خارج الصفحة، أو بتوجيه الناشر لاستخدام ألوان صفحات مختلفة لأجزاء الكتاب المتتابعة، أو عن طريق الأخطاء الإملائية المتعمدة. يقترح ستيف كاتز أن الكلمات لا تحدث بشكل طبيعي، ولكنها تصنع؛ وفي بعض الأحيان يمكن صنعها بشكل غير صحيح. وينطبق الشيء نفسه على الروايات الخيالية: فهي مصنوعة من الكلمات، ولا يحق لسردية واحدة أن تدعي أي سلطة على سردية أخرى.

ومن السمات المهمة لموجة الميتافكشن بهجتها في الكشف للقارىء ما يمكن فعله في شكل الرواية. كان الروائي روبرت كوفر يكتب شبه كتاب الميتافكشن. فاستخدم مبادىء وتقنيات الأسلوب كمواد موضوعية في سردياته الخاصة التي استمدت قوة مساوية من مواد الثقافة الشعبية. وكما ساعدت لعبة البيسبول في تحديد مواضع تجريب كوفر للميتافكشن ضمن التقاليد الشائعة لجماعة محددة، كذلك أمدته السياسة (كرياضة جماهيرية أيضًا) بمشاهد مألوفة تمكن من خلالها تقديم قصص تحتوى على أساسيات الميتافكشن. استخدم الكاتب نفس الأسلوب مرات عديدة سواء للأعمال الطويلة جدًا أو القصيرة نسبيًا (نوفيلا)، وخلق ذلك ما أسمته الناقدة ليندا هوتشيون بالميتاخرافة التاريخية حيث يظهر سجل التاريخ نفسه كأنه بناء مصطنع بشكل تام.

“غضب الجماهير” The Public Burning 1977 هو عمل كوفر الرئيسي في هذا السياق، وقد اقترب فيه من السيمائية التي مهدت الطريق لهذه النظرية الروائية الجديدة من اتجاه آخر، باستخدام الطبيعة النصية للعلامات في ثقافة ما في صلب طبيعتها التخييلية بصورة أساسية. كانت “غضب الجماهير” ضمن الأعلى مبيعًا، كذلك رواية “زمن التفاهة” Ragtime لإي إل دوكتورو 1975، وهي عمل آخر استخدم التاريخ كبناء خيالي من ضمن العديد من الأبنية المتاحة للكاتب. وقد اكتسبت رواية “صيد السلامون في أمريكا” لريتشارد بروتيجان رواجًا في عصر الثورة المضادة وأصبحت عنصرًا أساسيًا في النقد الأكاديمي كذلك، وكلها أمثلة على أعمال الميتافكشن والتي طغت كتوجه عام في الأدب خلال هذه الحقبة الثقافية في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات. بينما الكثير من أعمال الميتافكشن الصرفة الأخرى ستصنف ضمن الأعمال الطليعية، التي لا تجتذب جمهورًا واسعًا من القراء وتحظى بقبول شريحة محدودة من النقاد، ذوي طبيعة أكاديمية بشكل كبير، وحتى حينها عليهم الصراع مع المحافظين الجدد القلقين من الآثار المتوقعة لهذا الشكل الجديد على القيم والأخلاق الاجتماعية. بمرور الوقت ستتطور معركة الكتب، وبعد ذلك ستظهر حلولًا مزعومة للمشكلة في شكل الهجاء “satire” والمحاكاة الساخرة.

الابتكار كعقيدة للتقدم

يقترح سوكينيك رونالد، واصفًا عقيدة لكل أنواع الكتابة (وفي الواقع للفن عمومًا): «لا يمكن الوصول إلى تغييرٍ لائق للحاضر إلا من خلال تبني تصور طازج له دائمًا». وبالنظر لمشروع ولاس ستيفنز وجد أن «الأدب ليس بصياغة أيديولوجية للمعتقدات ولكنه بيان للتعبير عن علاقة إيجابية مع الواقع»، وهذا هو التحدي الذي وصفه في بداية كتابه “والاس ستيفنز – التأمل في الغموض”. التخيل بالنسبة لستيفنز وسوكينيك على حد سواء، هو أكثر قوة شخصية للفرد قادرة على تنظيم أجزاء هائلة من الواقع الخارجي إلى شيء ما جذاب وجديد. وهذه هي ميزة العقل الذي لا يبرز الواقع وبالتأكيد لا يفرض أفكارًا مبينة عليه، ولكنه عوضًا عن ذلك يعمل عن طريق «اكتشاف علاقات مهمة من خلال الواقع». وتصبح الطريقة المناسبة للعالم ليكون له دور في الرواية: ليس كموضوع مدون ولكن كظرف وثيق الصلة بمخاوف الكاتب. وتكون هذه العملية مجزية لأنه “عندما تتمكن الأنا – عن طريق التخيل – من التوفيق ما بين الواقع واحتياجاتها الخاصة، تصبح المشاهد الباهتة السابقة مغموسة في عواطف الأنا، والواقع الآن، بما أنه يبدو الآن وثيق الصلة بالأنا، يبدو فجأة أكثر حقيقية.”

جزء من جاذبية الميتافكشن للجمهور الأكاديمي هو الطريقة التي يظهر بها القلق المنبعث من ظروف محددة في الحياة الأكاديمية، خاصة لأولئك الذين ينضمون للمجال حديثًا. مثل صعوبات الحصول على وظيفة والأجور المتدنية والعمل الشاق وغير الملهم غالبًا، ومستويات المعيشة دون المستوى، وضغط النشر أو التلاشى، وبالطبع الطريقة الوحيدة للكتابة في المجتمع الأمريكي يمكن القول أن لها نفس الهاوية القاتلة. وفي الوقت نفسه، فإن نفس ظروف الحياة تعرض الكاتب لأكثر أشكال الثقافة المضادة التي سادت في الستينات. فأصبح هناك تعزيز للعلاقة ما بين الفن والحياة حينها، وسمح ذلك للإثنين بالإندماج في واحد. وتلك هي الطريقة التي اتبعها سوكينيك في روايته “للأعلى”. حيث قد لا يتساءل المؤلف فحسب، بل حتى القارئ عما إذا كانت التجربة مستمدة من الحياة أو يتم اختراعها على الورق. من آن لآخر، سيلتقي الكاتب وبطل الرواية بشخصيات من روايته. هل هؤلاء الأشخاص خلقهم بالأصل من أجل أعماله، أم أنها جوانب من شخصيات حقيقية؟ ونظرًا لأن طريقة سوكينيك معتمدة على الميتافكشن، فلا أهمية للإجابة، لأن الحقيقة المطلقة هي الكتاب نفسه. لا يهم إن كانت الشخصيات مأخوذة من الحياة أو ولدت فيها؛ المهم هو أن أنشطتهم التي تحدث على الورق هي من إنتاج الكاتب ليقرأها الجمهور. التحدى هو أن تحيا حياة تؤدي لإنتاج العمل، والمعيار الوحيد للنجاح هو هل اكتملت الرواية أم لا. في أعمال الروائي صمويل بيكيت، لا شيء من هذا القبيل يحدث. هنا لا يمكن للخيال أن يمثل الواقع. بدلاً من ذلك، توجد روايات مثل “وات” و”مولوي” كأوهام لا تمس العالم، ولا يقل حدة هذا التأثير سوى للحظات عندما تكون الحياة نفسها وهمية للغاية فلا يمكن التقاطها في الطبيعة الجامدة للأدب.

نماذج عربية

مع رسوخ مكانة الرواية في الأدب العربي بعد سيطرة أنواع أدبية أخرى، كان من الطبيعي أن تدخل الرواية العربية مضمار الميتافكشن، وبين العديد من الأعمال قديما ومع الانفتاح العولمي وما صحبه من انتشار ثقافة الإلحاد وموجات النسوية وقضايا الهوية الجنسية والجندرية، بالإضافة إلى ثورات الربيع العربي التي خلفت حالة من الفوضى والسيولة السياسية وبروز الطائفية التي جعلت سؤال الهوية ملحًا وكردة فعل على ذلك التشظى أحكمت السلطات الحاكمة قبضتها على الحكم بمزيد من العنف، ظهر حديثا العديد من الأعمال التي تبنت الميتافكشن كإطار موجه لشكل الرواية لأسباب عديدة تختلف باختلاف مضمون النص.

طارق إمام – قسطنطين كفافيس

في روايته “الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس”، نجد أنفسنا أمام ثالوث كتابي، الأول هو سينجوبوليس الكاتب الشاب والعشيق السري المزعوم للشاعر السكندري، الذي يحاول أن يكتب رواية عن الشاعر العجوز يقوض بها سيرته، والثاني هو الشاعر نفسه الذي في المقابل يتلصص على مخطوط رواية الشاب، ويقدم له خلسة مذكراته الشخصية في مسعى لتوجيه كتابة الشاب لمحاولة إنقاذ سيرته الشخصية، وثالثا الكاتب نفسه الذي اعتمد في كتابته للعمل الروائي على أشعار كفافيس كأصدق ما يعبر عن سيرته الذاتية، ونجد الكاتب وقد أضاف خطابات متخيلة كتبها الشاعر بدون أي مرجع تاريخي يؤكد وجود تلك الخطابات، والنص في النهاية يحاول التأريخ للشاعر وللمدينة وفي نفس الوقت يناقش إمكانية السرد التاريخي من الأساس.

نورا ناجي – سنوات الجري في المكان

في روايتها تتناول الكاتبة حياة خمس شخصيات مرتبطة بالفن، تبدأ الرواية بسعد الذي تلقى رصاصة أثناء أحداث الثورة، ليلقى موته بظلاله على باقي الشخصيات، وفصل سعد عبارة عن مشروع تفاعلي متعدد الوسائط، أما ياسمين الطبيبة الشرعية التي زيفت تقرير وفاتة ففصلها عبارة عن يوميات معنونة بدفتر يوميات ياسمين السيد، وفصل مصطفى الصديق المقرب لسعد عبارة عن معرض الانتباه للصوت ويُلاحظ وجود جدول مواعيد الزيارة في عنوان الفصل، والفصل الرابع الخاص بيحيى عبارة عن مسرحية من فصلين باسم “الحلاق والملك”، لننتهى بالفصل الأخير وهو فصل نانا الكاتبة المفترضة للرواية بعنوان “كمثل تمثال في شرفة” وتستدرك بعدها أن الاسم مؤقت، وداخل الفصل نجد أنه عبارة عن درافتات غير مكتملة وأحلام وتعليقات عن الطريقة المثلى لكتابة الرواية وتعليقات على الشخصيات وتمارين للكتابة، ويلاحظ أن الفصل لا يحتوي على تكرار للأحداث لكنه بشكل ما متمم للفصول السابقة، وينتهى الفصل بقولها ❞ يبدو أنني سأكتب رواية.. ❝

لوعي الكاتبة بعجز الكتابة عن التأريخ لحدث ضخم كالثورة اختارت التركيز على عدد شخصيات محدد يمثل شريحة معينة لتستكشف آثار الثورة على حياتهم، وما بين ثورة ووباء عاد الجميع فيه لارتداء الكمامات مرة أخرى، التقطت احساس اللاجدوى والجري في المكان المسيطر على جيل الثورة، وسمح لها الشكل الذي اختارته لروايتها بالانفتاخ على التجريب، فتبدأ الرواية بعناصر ميتافكشن قوية، ليتم كسر الإيهام من البداية بعناوين الفصول إلى أن ننتهى بقرار نانا كتابة الرواية التي نكون قد قرأناها بالفعل، ليظل القارىء يقظًا طوال السرد يساءل ما يقرأ ولا يقع في فخ التماهي، ورغم علم القارىء أنه ما بين يديه منتج متخيل، إلا إن الاستعارات من الواقع كشخصية سعد المعادل للشهيد أحمد بسيوني أو أحداث الثورة المعروفة بالفعل أو حادثة غرق العبارة، أو شخصية نانا التي تتشابه حياتها مع الكثير من حياة الكاتبة، تذيب الفروق ما بين الواقع والخيال وتترك تأثيرًا عميقًا لدى القارىء. والرواية هي محاولة للاحتفاء بالفن واستكشاف لحدود ما يمكن أن تقوم به الرواية.

نماذج أخرى لروايات عربية نجد بها الانعكاس الذاتي باختلاف قوته من عمل لآخر، ماكيت القاهرة لطارق إمام، وقارئة نهج الدباغين لسفيان رجب، وساق البامبو لسعود السنعوسي، وآخر رجال الباشا لرشا عدلي  والمشاء العظيم لأحمد الفخراني.

 

استخدامات الميتافيكشن

وُلد الميتافكشن المرتبط بما بعد الحداثة خلال الاضطرابات الثقافية في الستينيات، وأثبت فائدته للكتاب الذين أرادوا التعبير عن امتعاضهم من التقاليد وتصفية الحسابات القديمة. ومع ذلك بعد انقشاع غبار تلك المواجهات، استمرت موجة الميتافكشن كموهبة لاثراء حتى السرد التقليدي بالتقدير للقوة الإبداعية للغة. وفي كل حالة يُترك القارىء بفهم أفضل لتأثير الأدب.

في السنوات التي تلت ظهوره على الساحة في الستينيات، أصبح الميتافكشن أشبه إلى حد كبير بالابتكارات الأخرى في ذلك العقد الذي شهد الكثير من التغييرات الجذرية، لم يعد يحمل تلك القدرة على الإدهاش، وأصبحت تقنياته تمثل تحديًا أقل للتقليدي، بل أصبحت عنصرًا مكملًا له. وهذا طبيعي الحدوث لأنه على مدار التاريخ الأدبي، قليلًا ما تم اعتبار الميتافكشن كموجة هدامة تطيح بالأدب التقليدي (أو أن يتوقف عن الوجود)، لكن تم اعتباره أكثر كموجة تصحيحية لما أصبح ميلًا لدى الروائيين لكتابة الأدب بطريقة واحدة فقط. بحلول مطلع القرن الحادي والعشرين، لم يعد يتم اعتبار الميتافكشن كسياسة صارمة أكثر من كونها تذكير للروائيين بأن لديهم مجموعة واسعة من التقنيات تحت تصرفهم، وأنه يمكن الوثوق بقدرة القراء على تقدير لأنماط أخرى من الكتابة غير الواقعية التقليدية.

حدود التجريب

تمتاز الكتابة بأنها فضاء حر لا يخضع للقيود، وأتاحت ما بعد الحداثة بسيولتها وآلياتها وآلاف التجارب السابقة للأدباء، الكثير من الأدوات التي تكسر الشكل التقليدي للرواية، لكن لا يعني ذلك أن التجريب لأجل التجريب يمكن أن يُقبل بشكل واسع بين القراء، وقد لا يستحق أي تقدير من الأساس، فلا يوجد فعل مجاني في الكتابة، وعن ذلك قال ديفيد فوستر والاس وهو من كتاب الميتافكشن في مقابلة مع لاري ماكافري:

“هو سلاح ذو حدين، وهو إرثنا من رواد ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية، من أحد الجوانب، يمكن القول أنه هناك الكثير مما يسبب الحرج للكتاب الشباب الآن، معظم القيود التي كانت موجودة قديمًا – الرقابة على المحتوى مثال صارخ – لم تعد موجودة الآن. يمكن للكتاب الآن أن يكتبوا ما يشاءون، ومن جانب آخر، نظرًا لأنه يمكن للجميع فعل ما يريدون إلى حد كبير، دون حدود تحدهم أو قيود يناضلون ضدها، تجد ذلك الاندفاع المستمر إلى التجريب دون أن يتكلف أي شخص عناء تخمين الوجهة الأخيرة، أو “الهدف” من الإندفاع إلى الطليعية، على ما أعتقد كسر الحداثيون ورواد ما بعد الحداثة – على طول الطريق من مالارميه إلى كوفر- الكثير من القواعد لنا، لكننا نميل إلى نسيان ما كانوا مجبرين على تذكره: يجب أن يكون خرق القواعد من أجل «شيء ما». عند كسر القواعد ويكون الشكل الطليعي هو الهدف في حد ذاته، تنتهي إلى شعر ردىء اللغة وصدمات “المختل الأمريكي” American Psycho وأليس كوبر يأكل البراز على المسرح، وتتوقف الصدمة عن كونها ناتج ثانوي عن التقدم وتصبح قيمة في حد ذاتها، وهذا هراء.”

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*  المقال مبني على ترجمة مقال لنصر الله مامبرول مع بعض الإضافات من مصادر مختلفة معظمها من موقع أكسفورد لغرض التوضيح، لينك المقال الأصلي: https://literariness.org/2019/03/19/self-reflexive-novels-and-novelists/

(1) المدراش هي سلسلة مجموعة من التعليقات القديمة على كل أجزاء التناخ بتنظيم وتقسيم مختلفين من مجموعة إلى أخرى فكل جزء من كتاب في المدراش يمكن أن يكون قصيرا جدا وبعضه يصل في القصر إلى كلمات قليلة أو جملة واحدة ويوجد بعض من اجزاء من المدراش في التلمود.

(2) جوستاف فلوبير هو روائي فرنسي من أشهر أعماله مدام بوفاري.

(3) كونان هو شخصية أدبية معروفة باسم كونان البربري وأيضا باسم كونان السيميرياني ابتكرها الكاتب روبرت إي هوارد في سلسلة من القصص نشرت في مجلة حكايات غريبة في الثلاثينيات.

(4) يشير مصطلح الأدائية (بالإنجليزية: Performativity)‏ إلى أن اللغة يمكن أن تؤدي شكلاً من أشكال العمل الاجتماعي ويكون لها تأثير في التغيير.

مصادر:

  1. https://prowritingaid.com/metafiction
  2. https://poemanalysis.com/genre/metafiction/
  3. https://www.geneseo.edu/~johannes/Metafiction.html
  4. https://www.studysmarter.co.uk/explanations/english-literature/literary-devices/metafiction/
  5. https://www.studysmarter.co.uk/explanations/english-literature/literary-devices/metafiction/
  6. https://oxfordre.com/literature/display/10.1093/acrefore/9780190201098.001.0001/acrefore-9780190201098-e-546
  7. From Metafiction to Self-reflexive Narration
    (Theory and Practice of Self-disclosing Fiction in Czech Literature (Mgr. Vladimír Trpka

 

 

مقالات من نفس القسم