أبناء منصور الرحباني يسدلون الستارة على مسرحه

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

sco44

عبده وازن*

يصرّ أبناء الفنان الكبير منصور الرحباني، مروان وغدي وأسامة، على استعادة إرث- والدهم المتمثل في أعماله الأخيرة منفرداً، وهو كان استعاد أصلاً -إرث- الأخوين رحباني المسرحي المتمثل في الأعمال التي كان لها موقعها وصداها في المسرح الغنائي اللبناني. قد يعلم الأبناء الثلاثة أن -الإرث- الأصلي أصبح من-تراث الفن اللبناني وأن ما يقومون به إنما هو مجرّد تقليد للتقليد الذي قام به منصور مع بعض التطوير في الشكل وليس في الجوهر. وليس من الصدفة أن يحضر طيف منصور الأب في العرض الغنائي الجديد -دون كيشوت- الذي أنجزه الأبناء الثلاثة وافتتحوا به مهرجانات جبيل. لم يكن هنري زغيب، المستشار الثقافي للأخوة الجدد، يحتاج الى أن يلمح في التقديم الذي كتبه لهذا العرض الغنائي، الى أن منصور، -رافق طويلاً في نسج النصّ التأليفي وشارك موسيقياً-، فروح منصور تطل بوضوح، سواء في الحوارات أم في بعض المقطوعات الموسيقية والغنائية الجماعية التي تذكّر أصلاً بالمسرح الرحباني، أم في طريقة المعالجة الدراماتورجية القائمة على الكليشيهات والعناوين والتي تفتقر فعلاً الى البناء والسبك.

 

عبده وازن*

يصرّ أبناء الفنان الكبير منصور الرحباني، مروان وغدي وأسامة، على استعادة إرث- والدهم المتمثل في أعماله الأخيرة منفرداً، وهو كان استعاد أصلاً -إرث- الأخوين رحباني المسرحي المتمثل في الأعمال التي كان لها موقعها وصداها في المسرح الغنائي اللبناني. قد يعلم الأبناء الثلاثة أن -الإرث- الأصلي أصبح من-تراث الفن اللبناني وأن ما يقومون به إنما هو مجرّد تقليد للتقليد الذي قام به منصور مع بعض التطوير في الشكل وليس في الجوهر. وليس من الصدفة أن يحضر طيف منصور الأب في العرض الغنائي الجديد -دون كيشوت- الذي أنجزه الأبناء الثلاثة وافتتحوا به مهرجانات جبيل. لم يكن هنري زغيب، المستشار الثقافي للأخوة الجدد، يحتاج الى أن يلمح في التقديم الذي كتبه ل

sco44

هذا العرض الغنائي، الى أن منصور، -رافق طويلاً في نسج النصّ التأليفي وشارك موسيقياً-، فروح منصور تطل بوضوح، سواء في الحوارات أم في بعض المقطوعات الموسيقية والغنائية الجماعية التي تذكّر أصلاً بالمسرح الرحباني، أم في طريقة المعالجة الدراماتورجية القائمة على الكليشيهات والعناوين والتي تفتقر فعلاً الى البناء والسبك.

لا يزال الأبناء الثلاثة يتكئون على أبيهم في غيابه كما كانوا يفعلون في حياته. علماً أن الفرصة متاحة لهم اليوم لينطلقوا في مشروعهم الجديد، مثلما فعل زياد الرحباني قبل ثلاثين عاماً متمرّداً على المدرسة الرحبانية ومؤسساً مدرسته الخاصة التي تشبهه تماماً. مضى على أبناء منصور نحو ثلاثين عاما في العمل الفني وحتى الآن لم يؤسسوا مشروعهم.

العمل الجديد الذي وقعه الثلاثة هو عرض مسرحي غنائي أكثر مما هو مسرحية غنائية. فالمسرحية تحتاج الى بنية متينة حتى وإن كانت غنائية. والاخوة هؤلاء لم ينجحوا البتة في شبك اللوحات والاسكتشات والمشاهد التي استقوها من رواية سرفانتس البديعة من غير أن يلتقطوا النفس الملحمي الذي اعتمده الكاتب الاسباني فيبنوا العرض انطلاقاً من بنيته العمــيقة وليس عبر بنائه الأفقي أو السطحي. إنها مشاهد متتابعة، ومبعثرة، لم يعمد الأخوة الى وصل لحمتها وأواصرها ونسج الخيط -الدرامي- الذي يفترض به أن يجمعها بعضاً الى بعض. هكذا بدا كلّ مشهد أشبه بالاسكتش المنفصل عن سياقة العام. مشهد حرق الكتب – على سبيل المثل – جاء نافراً ولم يتّضح لماذا اختار غدي الرحباني (الكاتب) عناوين كتب لا علاقة لها بالعرض الذي اختلط فيه عنصرا الزمان والمكان عشوائيا حتى فقد هويته. هذا المشهد في النص الأصلي يعبّر عن السخط من كتب الفروسية التي أثرت سلباً في دون كيشوت وقادته الى الجنون. أما هنا فحرقت كتب مثل: ديوان عنترة ومذكرات كافكا ومذكرات لينين ورواية -الأحمر والأسود- و -العلاقات الخطرة- و-لوليتا- و -رجوع الشيخ الى صباه- وأعمال فرويد وسواها… لماذا أحرقت هذه الكتب؟ مَن أحرقها؟ ما علاقتها بـ -دون أسعد كيشوت- الشاعر شبه الأمي؟ مشهد السجن في الحانة – السجن كما في الأصل، مرّ بسرعة ولم تتضح وقفة هذا الدون كيشوت وراء -الشباك- الصغير ولم يتبيّن أن هذا الشباك هو السجن. حتى مشهد طواحين الهواء والمعركة مع قطيع الماعز مرّا من دون مغزى مع أن مروان (المخرج) اعتمد اللعبة الصورية – الضوئية المتقنة… أما الحانة فقد حوّلها المخرج الى -بار- حديث جداً مستنسخاً فكرة الوطن – البار التي استهلكت كثيرا وكان زياد الرحباني من أبرع مَن جسّدها في مسرحيته -بالنسبة لبكرا شو-… لكنّ الأخوة الثلاثة سعوا الى إسقاط مسرحية دون كيشوت على الواقع اللبناني (والعربي، يا للهول)، وسقطوا في هذا الإسقاط، السريع، والقائم على الغمز واللمز وعلى القفشات والنكات والكليشيهات التي استنفدها المسرح الرحباني أصلاً ومسرح منصور ومسرح -الشانسونييه-.

لم يعد -الإسقاط- حيلة مقنعة اليوم، بعدما بلغت المسألة اللبنانية ما بلغت من التعقيد والتأزيم إلا إذا وضع هذا الإسقاط في قالب كوميدي صرف أو تهكّمي. حتى -البلطجية- حضروا والطائفية ومعادلة -8 و14 آذار- والملل والأديان والفساد والحاكم وجماعته… وبدت كلّ هذه المفردات والمقولات نافرة وخارج سياق العرض المسرحي الذي فقد هويته وأصبح هجيناً ،هجينا في كل شيء. حتى مفهوم السخرية لم يتمّ توظيفه جيداً وكان في إمكان المخرج أن يمضي في لعبة -البورلسك- و -الغروتسك-، لكنه يجهلهما مسرحياً على ما يبدو. وكانت هذه اللعبة -التضخيــــمية- تليـــــق بدون كيشوت نفسه الذي أدّاه – ويا للأسف – الممثل الكبير رفيق علي أحمد، في أسلوب خطابي حتى كاد صراخه يذكر بصراخ أنطوان كرباج في المسرح الرحباني. ورفيق علي أحمد يعلم جيداً أنّ هذا ليس أسلوبه وهذه الإطلالة ليست إطلالته، هو الممثل الذي طوّع الأساليب ونجح في توظيفها لا سيما في أعماله المونودرامية و -الحكواتية-.

ولئن بدا العرض المسرحي -هجيناً- فإن الأخوة الثلاثة لم يبلوروا فكرة -الهجانة- هذه كي تؤدّي وظيفتها المسرحية، بل هي على العكس حوّلت العرض الى خليط مشهدي عشوائي، عجز عن الملاءمة بين العناصر المتنافرة أو المتناقضة. فالديكور الجميل ظلّ مقسوماً بين طابعيه الحديث والقروسطي(؟)، بنايات حديثة جداً تحيط بعالم منقسم على نفسه. أما المكتبة والمحكمة فكانتا قروسطيتيّن وذكرتا بديكور فيلم -اسم الوردة- المأخوذ عن رواية امبرتو إيكو البديعة. أما البار فبدا نافراً جداً، شكلاً وفكرة أو مضموناً، كما بدا نافراً من الناحية الدرامية أيضاً. ولم يوفّق الثلاثة في هذا الخيار الذي أزاح المسرحية والشخصيات الأصلية عن أهدافها الحقيقية. حتى معالجة شخصية دون كيشوت، الفارس المثالي وشخصية -دولسينايا- حبيبته المتوهّمة كانت ضعيفة. فلم يظهر جيداً الصراع الداخلي الذي عاشه هذا الفارس بين خيبة الواقع وبهجة الحلم. أما هبة طوجي فعجزت أيضاً عن إعطاء شخصية دولسينايا ملامحها الحقيقية، المأسوية والكوميدية، وبدت تمثل بصوتها الصارخ، إضافة الى غنائها الصارخ الذي جعلها تبدو عاجزة أيضاً عن استخدام طاقة هذا الصوت، الذي قال عنه مرّة أسامة أنّه سيبدأ مرحلة جديدة من الغناء. ولعلّ من الواجب على هبة أن تلتحق بمعهد للغناء تتعلم فيه أصول الغناء والأداء الغنائي، فقوة الصوت (السوبرانو) لا تكفي لتصنع منها مغنية ناجحة.

أما ألحان أسامة ومقاطعه الموسيقية فتنوّعت واختلفت، بعضها يذكّر باللون الرحباني المخفف وبعضها يغامر بحداثته. لكنّ ما تفتقر إليه الأغنيات هو الدفء والجمال والعذوبة. وهذه الأمور لا تصنعها الخبرة ولا المراس بل الموهبة. والرحابنة الثلاثة هم متمرّسون تقنياً ويملكون قدرة تنفيذية مهمة، لكن ما ينقصهم هو تلك -الشرقطة- التي تحدّث عنها عاصي كثيراً. أما الكوريغرافيا التي تولّتها دوللي صفير وفرقة -أرابيسك- فكانت شبه مدرسية، عادية جداً ولا جديد فيها، لا تخييلاً ولا حركة ولا رقصاً ولا دلالات. وبدا الراقصون على عادتهم في رؤية مروان، يقفزون و -ينطنطون- أكثر مما يرقصون. أما الممثلون فكانوا عاديين كعادتهم في مسرح يديره مخرج لايبالي بما يسمى ادارة الممثل. ويمكن هنا استثناء الممثل بول سليمان الذي أدى دور مرافق دون كيشوت.

لا أدري إن كان الاخوة الثلاثة قرأوا جيداً رواية سرفانتس التي عدّها ميلان كونديرا -أم- الرواية في العالم، وإن كانوا أكملوها ليتحروا شخصية دون كيشوت الإشكالية، التي تضاهي الشخصيات الكبيرة في تاريخ الأدب والمسرح مثل: هاملت شكسبير وفاوست غوته ودون جوان وسواهم… فالنص ليس بسهل، بل هو غاية في الصعوبة عندما يخضع لـ -جراحة- دراماتورجية بغية تحويله الى نصّ مسرحي. وليت الأخوة الثلاثة قرأوا المقالات التي كتبها الأميركي دايل واسرمان حول النصّ المسرحي الذي استخرجه من الرواية وسمّاه -رجل المانشا- وقدمه المخرج ألبيرت مار على مسرح -برودواي- ولقي نجاحاً هائلاً وتواصل عرضه من العام 1965 حتى العام 1971. وليت الأخوة الثلاثة اعتمدوا هذا النص وترجموه مثلما فعل المغني الرائع جاك بريل عام 1968، فكانوا ليتحاشوا هذه الركاكة والهشاشة اللتين وقعوا فيهما.

ليس من السهل التعرّض لرواية -دون كيشوت- مسرحياً وموسيقياً، بعد أن أصبحت أحد الأعمال الباهرة في الريبرتوار العالمي. ومَن يقدم على إخراجها اليوم يجب أن يتذكر أنّ مسرح البولشوي في روسيا قدّمها في صيغ عدة منذ مطلع القرن العشرين وأن موسيقيين كباراً من أمثال شتراوس وموريس رافيل وسواهما عملوا عليها وأنّ مخرجين كباراً أيضاً تصدّوا لها في المسرح والسينما، وأحد هؤلاء المخرج اللبناني ريمون جبارة الذي أوجد لها صيغة درامية – موسيقية – راقصة عام 1985 وسمّاها -صانع الأحلام- وتعاون فيها مع وليد غلمية (موسيقى) وجورجيت جبارة (كوريغرافيا). أما الممثلون فكانوا: رضى خوري، منير معاصري، كميل سلامة، رندة الأسمر. وقد أدّت رندة دور -دولسينايا- ببراعة فائقة وجمال وسحر.

كان على الرحابنة الثلاثة، مروان وغدي وأسامة، أن يعوا خطورة المغامرة التي خاضوها وأن يرجعوا الى الريبرتوار العالمي لهذا النصّ، فيصوّبوا رؤيتهم الى هذه الرواية العظيمة. ترى ألم يحن لهم أن يخرجوا من سجن والدهم، الفنان الكبير منصور الرحباني؟ ترى ألم يحن الوقت ليدركوا أن هذا المسرح الغنائي صار من أعمال الماضي وأنّ حيلة -البلاي باك- لم تعد تقنع الجيل الجديد؟

ـــــــــــــــــــــــ

*كاتب لبناني

مقالات من نفس القسم