هشام بن الشاوي
إلى صديقي
الكاتب الكبير: إبراهيم عبد المجيد
الحياة ليست عادلة على الإطلاق!
استنتاج قاس فعلا، لكنك كنت تحتاج إلى أن تعيش حياة تفتقد الحياة، لكي تكتب هذه الحكمة البليدة، بيد أن الأكثر قسوة أن تعامل – دوما- كمعتوه.
ليس مهما إن كنت تكتب بأسلوب فاتن، وأنت لم تفلح في الحصول على الشهادة الثانوية! هل كان ذلك المتطاوس في مشيته محقا في استغرابه؟ لعله كان يعتقد أن لغتك مهترئة، تشبه تلك الوزرة الزرقاء، التي ترتديها، كأنما لم يصدق أنك تكتب في الجريدة الأكثر توزيعا في المغرب، لكنه لا يعرف أنك لا تتوصل حتى بكلمة: شكرا.. شكرا هشام على هذا النص الماتع.. شكرا، لأنك تسرق بعض البهاء من فظاظة هذا الواقع.
وحده يوسف، صديقك النادل يحرضك على اقتراف المزيد من الكتابة، نكاية في وعثاء الحياة. ما جدوى هذا الهديل، وقد ارتضيت لنفسك تلك الصورة الخاطئة، التي تكفن اسمك الآن.. هنا؟! لماذا؟ لأنك لا تريد أن تنافق أحدا؛ أن تبتسم في وجوههم، على رغم حزنك الفادح، الإحباطات التي تفتك بنضالك من أجل حياة حرة كريمة.. أنت غير لطيف، في نظرهم، لأنك لا تمزح مع زبائن هذا المحبس.
ثمة من حالفه الحظ، ويسدد أقساط الدين، بكامل امتنانه لدويلة، انتشلته من الفقر والبطالة، ويتلقى أجر – وليس ثواب- دفاعه المستميت عن إيماننا المشترك، في نهاية كل شهر.. بينما أنت لا تكف عن مراسلة سكرتارية المجلات العربية، للسؤال عن مكافأة مادة، نشرتها قبل أشهر.. تصر على إزعاجهم، لأن الريح تصفر في رصيدك البنكي.
هل جرب أحدكم أن يكاتب شخصا لا يعبأ به، وهو منكسر؟ هل جرب ذل أن يكون متسولا، لبضع دقائق، وهو الشامخ في ضعفه الإنساني، وبكائه !؟ بماذا ستحس حين يرد عليك شاعر ومسرحي سعودي – بكل صفاقة- ويصفك بالمرتزق، متناسيا أنك شاركت في تحرير العدد؟! وعندما حاولت أن تستكتب بعض الأعدقاء من أجل المطالبة بصرف مكافآت متأخرة، خذلوك، لاذوا بصمت القبور، حرصا على سمعتهم الأدبية، قانعين بصفة الشيطان الأخرس.
تمعن في تهورك، تكاتب صديقا مشيرا إلى أن حرفة الأدب قد داهمتك، وأن ثلة من الزملاء الذين لا يغيبون عن المجلات نهائيا، أساتذة، بينما أنت بلا دخل قار، لا تملك أي شيء من حطام الدنيا، ومع ذلك يصرون على تهميشك! ما جدوى أن تكتب بعض تغريداتك بدموعك، وأنت – في نظر الجميع- شخص لا يطاق؟!
كثيرون.. اقترحوا عليك وضع سلم على الرصيف، كما يفعل بقية التجار، لم تجبهم بأنك لست ممن يحتلون الملك العمومي، ولا تحبذ إعاقة المرور. أغلب زبائنك من الحرفيين، يجهلون أنك تكتب في الصحف، ولم تستغرب حين نصحك أحدهم بأن تقرأ القرآن الكريم، حين أجبته على تطفله الوقح بأنك تتصفح رواية، بينما صفعك وغد آخر بقوله إنه يحبذ أن تستغل وقتك في ذكر الله، بدل أن تستمع إلى موسيقى، لا يعرف أنها محض هسيس أحزان تسافر في الدم!!
وهذا أستاذ، يحول أوقات فراغ التلاميذ إلى حصص دروس الدعم، ويحرص – أيضا- على معرفة ثمن الإسمنت، وسعر المتر المربع من هذه الكرة الأرضية، التي يريد الجميع امتلاكها بأية طريقة، ولو بافتعال حروب أو استعمار جديد، بأي شكل.. بينما -أنت – لا تملك منها شبرا واحدا!! سدد كل رصاص استغرابه نحو مطبوع رواية “ليلة عرس” ليوسف أبو رية، أثناء استراحة من القراءة الإلكترونية عبر اللوح الإلكتروني. اعتقد أنك تتصفح مطبوع دعاية لمنتوج ما، وبنبرة استنكار وقح، قال: أنتم أيضا تقرأون!
كنت ترتدي الوزرة الزرقاء. لم ترد عليه، بينما كانت أعماقك كمرجل. لم تخبره بأن لديك سبعة كتب، وأن لا أحد من الأدباء يطيق ذلك البناء، الذي كان يكتب قصصا تفوح منها رائحة تزكم الأنوف.
لم تكن تحب السوشيال ميديا. لكن صديقا ألح عليك أن تعود إلى المشهد، حتى لا ينساك الجميع، مثلما نسوا بعض الكتاب الكبار. وللأسف، لم تجد في تويتر إلا التجاهل، أو الحظر بدون سبب، أو أن تكتب لك زميلة: المعذرة، أنت تزعجني..وآخرون، لا يقرأون رسائلك، فقط، لأنهم يعملون في مجلة، ينظرون إليك، كما لو كنت صرصارا…
ومثلما بدأت..
تنتهي منفيا
بين المسامير، البراغي و…الصنابير.
في محل مطموس الوجود، مثلك تماما!
لكن هذه المرة، شبه مفلس… نعم، مفلس الجيب والقلب!
ولأنك نذرت عمرك للهباء، يقترح عليك أحد الأغبياء أن تجتهد قليلا، وهو يرمق الأرفف شبه الفارغة…
من يصدق أنك كنت كاتبا متعاونا مع جريدة مستقلة موؤودة؟!
كنت تتصل برئيس التحرير هاتفيا، حين يتأخر تحويل ذلك المبلغ الرمزي، والذي كنت تعتبره ثروة حقيقية، فلا يرد عليك. لم تكن تعرف أن تلك الثروة سوف تتلاشى إلى الأبد. ترنو إلى زبائن المقهى الفاخر -المحاذي للمصرف- بحقد أسود، وأنت تبصق بلا لعاب على شباك البنك الأوتوماتيكي، تتحسر على عمر ضاع سدى، وتحمد الله على نعمة التسكع.. بجيوب كفؤاد أم موسى.
الآن، لم يعد بإمكانك التسكع في اللامكان، ولا التشرد في الزمان. صرت مثل ثور الساقية، لكنك تدور في حلقة مفرغة..تستيقظ مبكرا، من أجل لا شيء!
الآن، ينظرون إليك في شفقة غير معلنة، ينقصها قليل من التشفي، وتتساوى – اجتماعيا- مع سفيه ضيع إرثه في القمار، الخمر، النساء!
لكن، ما يؤلمك حقا.. أنك لم تتذوق طعم هذا الثالوث الحرام!
هذا كل ما في الأمر، بتعبير شعراء قصيدة النثر.
صديقي يوسف، النادل.. كلما قرأ جديدي، عاتبني بشدة، لأنني أهدر هذه الطاقة في اللاشيء، بينما زوجتي تطلب مني كتابة رواية، بنبرات أليمة، ويقتلني ذلك القهر، الذي يختبئ في عينيها، وتدين دموعها هذا التردي الشامل!
لكن، عماذا تكتب؟
خيالك معطوب بسبب هذا الموت المجاني، المسمى مجازا: حياة، ولأنك لا تحب القروض.. تموت بالتقسيط، وتذوي شمعة الروح بين يدي شيخ ضرير، يسمى مجازا: الواقع المغربي!
هل تكتب عن تقاعس ساعي البريد، منذ سنوات، عن جلب رسائل الفرح من البلاد العربية؟ لم تعد جوارحك تختلج، عند سماع هدير محرك دراجته النارية. لم تعد تعبأ بغيابه ولا بحضوره.. ترى، هل صار كباقي جيرانك الأوغاد؟ أغلبهم طفيليو مآتم، يعتقدون أنفسهم أحياء… وهم لا يجيدون الاستمتاع بهذه الحياة، ولا يقدرون هذه النعمة العظمى، بسبب بخلهم المسلح.
هل تلعن من ابتدع تلك الأماكن، التي تأوي تلك العيون الضالة، مثل كلاب الشوارع، التي تنهش عورات الآخرين، وأنت لا تعلم من أين يأتون بكل هذا الوقت المسفوح على كراسي المقاهي؟!
هل تكتب عن سخطك، الذي يتفاقم، وذلك الشيخ يصر على أن يقف على رأسك – مثل قدر بغيض- في استجداء ذليل، لا يليق بالهاتف الفاخر، الذي رأيته يخرجه من جيبه، بينما هاتفك الحسير، قد ينطفئ أحيانا، حين تباغته رسالة قصيرة من زوجتك تطلب فيها أن تحضر الحليب للأبناء!
كن رحيما، لا تحدثه عن ذلك الزحام الذي لم يره أمام هذا المنفى، وأنت جالس وحدك!..
تحرص على ألا تؤذي شيخوخته. تكبح جماح غضبك، تبتلع كلمات تترنح في أعماقك مثل هذا الهديل، الذي لا يريد أن ينتهي، والذي بدأ كتغريدة مهملة، بيد أنها تمددت، مثل جرح استيقظ متأخرا، وبدأ يتمطط في أعماقك. تغريدة تصر على أن تتحول إلى حقل شاسع من البكاء. اللعنة ! تأثير تويتر مرة أخرى.. قصيدة النثر تريد أن تتسرب إلى كتاباتك مجددا، وتحرمك من سياط سخريتك السوداء، التي تلسع بها كل شيء. لكن أجمل هدية من تويتر، كانت صديقك القديم.. الشاعر التونسي، الذي كلما أمعن في هجاء مفردات هذا الوقت الجاحد، وامتدح السكر والبار، كتبت له ضاحكا، غير عابىء بأي شيء: ” اركل يا عبده، هههههههه”.
حقا، لا شيء يستحق أن تكتب عنه.
فقط، حين تسأم تويتر، ويذبحك إصرار الأصدقاء – هناك- على تجاهلك ونفيك، تلج الموقع الأحمر، وأنت تتلفت يمنة ويسرة، كأنما ستندس في مبغى.. نكاية في هذا الماخور الكبير المسمى مجازا: حياة! ربما تجد امرأة بخيلة في إغرائها، تضع قطرة واحدة من فتنتها – واحدة تكفي- في عيون مشاهديها، وهي تتعمد أن تشد ثوبها، بحركة تبدو، كأنها عفوية، وهي تلمس نتوءات جسدها؛ حركة تطيح بعدّاد المشاهدات، وترفع عدد الدولارات في آخر الشهر، بعد أن تحرث حقولا شاسعة من الفضول النهم، الذي ينهش القلوب الأثيمة، وتنكل بما تبقى من رجولة عربية، ترتق في مخيلتها المنهكة بقية القصة، التي لم تكملها الأصابع المدربة…
تلعن عاهرة أربعينية تبيع جسدها المشاع مثل حقول جرداء، وهي تدافع عن دعارتها الضوئية، مدعية الفضيلة، فلا أحد يستطيع أن يلمس جسدها، وهي بيتها، كما أن الأستروجين لا يمرح في عينيها، إلا بين يدي زوجها!
تلعن حظك البائس مع المجلات، تلعن تجارتك الكاسدة في زمن الخيبات.. تلعن كل شيء.. بكل حقد، تعلن في مظاهرة انفرادية أنك فشلت في كل شيء إلا في الخسران، وأنت متخم بصمتك الصاخب، وترانيم عزلتك الفارهة تغنيك عن كل ثرثرات العالم، تتساءل:ما جدوى الكتابة إذا لم تركل كل هذا الهراء الذي يطوقنا، من كل الجهات!؟
كأي شخص غير متزن، وربما غير سوي، تكتب برعونة هذا الهراء.. مثقلا بنشيج الروح وهشيم براءة مسروقة. هذا الهذيان الذي لم يعبأ به أي أحد في تويتر، لأن الكتّاب يفضلون التعاطف مع المصائر التراجيدية بين دفتي كتاب، يتعاطفون مع الأوهام فقط، ويتركون جثتك تتعفن على رصيف هذا الواقع المقيت.. ثم يغتالونك في نميماتهم اليومية، كأنما ينتظرون موتك، وبعد أن يتأكدوا أنك توغلت في الغياب، سيدعون أنك كنت صديقا طيبا، حلو المعشر.
تفكر في ما يشبه النهاية غير السعيدة لهذا النواح الداخلي، وأنت رهين هذا المحبس الموحش، والمتوحش أيضا، لأنه يقضمك من الداخل ببطء.. تفكر في نص قديم، كتبته في البدايات.. ثم، وبكثير من الخزي تتذكر أنه فاتك أن تكتب – قبل سنوات- أن هذا الأخ الأصغر، هو من سيتكفل بأقساط تمدرس ابنك الصغير!!!
باب الخسارات
دائما أهرب من الطرقات!..
لا أحب أن أفتح الباب، ولا أن أعرف من الطارق، وقبل أن يهرع الأخ الصغير مثل عاصفة ليطل من الشباك، أغمغم: إذا سأل عني أي شخص.. فأنا غير موجود! ويعرف من أقصد..
لا أعرف لماذا يصران على طرق باب ارتكن إلى زاوية النسيان؟ فإذا لمحت أحدهما في الشارع – في أيام عطلهما- استدرت بسرعة مغيرا الاتجاه أو ذبت في الزحام… قد يكون الطارق… لكني أمقت “هذا الحب”، لأنه يذكرني بطريق الأشواك…
لم أقبل أن يكون الحب شفقة تختلس… فلم آخذ منهما إجابات امتحان لغة العم سام،
وتركت
الورقة
بيضاء…