قشور حبات القمح..

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

نسمة سمير

“أعلم أني لم أراسلك منذ فترة طويلة، ولكن أثق أنك ستسمعنى”

كتبت تلك الكلمات ويدي ترتعش وجسدي ينتفض من البرودة، على الرغم من أننا فى الصيف، كنت أجلس بجوار شجرة الريحان التي زرعتها جدتي أمام منزلنا، ذلك المكان الوحيد الذى أشعر فيه بالأمان، الذي تهاوى من حياتي دون رحمة، قد نضعف حتى نصبح قشور حبات قمح تتقاذفها الرياح وترفض العصافير التقاطها بمناقيرها فهي بلا فائدة، خاوية، قلبي بات يؤلمني كثيرا يا الله وكأن هناك يدٌ اقتلعته وتركت مكانه ثقبا يؤلمني كلما مر الهواء منه.

“لا تَكْرَهُوا الْبَنَاتِ فَإِنَّهُنَّ الْمُؤْنِسَاتُ الْغَالِيَاتُ”، هكذا كانت تخبرني جدتي يا الله ولكن لم أجني سوى الكره، وكأن قلبي لا يستحق أن يحتضنه أحد، كانت مدينتنا قاسية وهادئة، يحتضنها الجبل، الغربان يسكنون أشجارها، والعصافير تُكسر أجنحتهم لأنهم نذير شؤم، يلتهم الظلام شمسها، ويوجد فوق كل منزل تابوت على شكل قارب صغير، يدفن به شخصًا ما، وربما أكثر من تابوت، رغبة من أهل الميت فى البقاء بجواره ومرافقته فى رحلته إلى العالم الآخر ليؤنسون وحشته، وكلما زاد عدد التوابيت دل على ذلك على رقة قلب صاحب المنزل وإخلاصه للراحلين، ويلقي أهل الميت عملة معدنية فى البئر ليطمئنوا أنه وصل إلى الجنة وإن لم ترتطم العملة بالقاع، يعني ذلك أنه مازال عالقًا وعلى أحدهم إنقاذه.

فى أطراف المدنية كنت أعيش مع جدتي فى كوخ خشبي لا يوجد أعلاه توابيت، لأن جميع أحبابنا رحلوا منذ زمن طويل قبل أن تخطو أقدامنا تلك المدينة، وفى كل صباح تراقب الجدة يدي الصغيرة وهى تجمع الحطب لنشعله فى المساء، ونحن نرتشف الشاي المعطر بالمريمية ورائحة الحطب المشتعل، والجدة تجدل شعري البني المموج وتقول لي أنه كبحر إبريل، إلتفت إليها ونظرت لها بعينيي اللتين يشبهن مجرات السماء كما تراهم جدتي، وقلت بتردد: لا أريد أن أصنع لكِ تابوتًا أريد أن أرافقكِ الرحلة، أعلم يا الله أنك تعلم كل ما أحكيه ولكني أحتاج أن أتحدث معك، .

.قصت جدتي لي حكاية، أنه منذ زمن بعيد كانت تعيش امرأة تدعى “حقيقة” وحيدة وجميلة فى بيت ملون بوسط المدينة ترعى الكثير من العصافير، وتغني معهم كل صباح، كان هناك حاكمًا ظالمًا يريدها ولكنها منعته، لأنها كانت تعشق صياد يمتلك قارب أزرق يخرج يصطاد به كل صباح، وفى ليلة قتل الحاكم حبيب المرأة وألقى به فى البئر وأخبرها أن عليها النزول إلى البئر عارية لتنقذ حبيبها من الموت ‏- نظرت الحقيقة للكذب فى ريبة للمرة الثانية، ولمست الماء فخلعت ثوبها، ونزلت للبئر ثم ركض الحاكم بملابسها بعيدا خرجت “حقيقة” من البئر بعدما وجدت حبيبها مقتولا به، وركضت وراءه فى كل مكان بحثا عن ثوبها، فنظر أهل القرية إلى عرى “حقيقة” وأشاحوا بوجوههم عنها فى غضب بل واتهمها الحاكم أنها قتلت حبيها بعدما مارسوا الخطيئة معًا، وحكم عليها بالدفن حية فى تابوت يوضع أعلى منزلها وماتت الحقيقة وظلت تصرخ العاصفير، فذبحها جميعا لأنها شؤم وأن من اليوم لا أجنحة للعصافير، وأمر بتشييد التوابيت فوق المنازل تخليدًا لمحبتهم ومن هنا جاءت فكرة التابوت على شكل قارب، ولكنه جعله قارب أحمر رمزًا لمذبحة الحبيبين، ورغم معرفة الحقيقة، سكت الجميع خوفًا من الحاكم بل وصدقوا ما حدث وصاروا يقتلون أحبابهم.

نظرت يومها إلى جدتي ودموعي تمر خلال النمش المتناثر على وجنتي، وسألت: كيف يقتل المحبين أحبابهم ؟!، قالت لي جدتي: عندما يتركوننا يفتت الخوف قلوبنا، عندما ينعتونا بالعهر ونحن نصلي لهم كل ليلة، نعم نصلي يا الله وندعوك أن تجمعنا معهم فى جنتك، ربما تلطخنا الذنوب ولكننا نحبك حقًا، كان جميع الأطفال يرفضون اللعب معي لأني أملك قدم واحدة بعد أن فقدت الأخرى وأنا ألهو منذ زمن طويل، وفى إحدى ليالي الشتاء القاسية كنت أبكي لعدم قدرتي على الركض مع الأطفال تحت المطر، فوجدته يحملني على ظهره ويركض ومنذ يومها صرنا صديقين نلعب ونلهو لم أشعر أني عاجزة بقدم واحدة، كنا نضحك ونقرأ ونشاهد الأفلام ونحتفل ونبكي ونتشاجر أصبح لي حياة، وأطلقتُ عليه “بيكتشو” نعم هذا الاسم الذى كنت أسمي به أكل جدتي الذى أحبه كثيرا، جعلني أضحك يا الله هل هناك أقدس من أن نضحك قلب منكسر؟!.

أعلم أني أثرثر كثيرا يا الله، ولكن هذا القلب مثقل بالهموم، لم يعد يحتمل، أصبحت أخاف الخروج من المنزل، أخاف من البشر، لا أفعل شيئا إلا أني أخاف كثيرا، تحول القلب الملون إلى خراب، نعم خراب يا الله لا موسيقى لا ضحك لا ألوان، متعبة جدا يالله، ولا أعلم ماذا أفعل؟، فى يوم تشاجر معي وقال لي تعبت من مرافقة شخص لا يتمكن من الركض بمفرده، لا يفعل شيئا إلا الشكوى لا يعلم أن شكوتي كانت محبة مني له، كنت أرى فيه الرفقة والونس والدفء، الصداقة التى اعتقدت أن جدتي حملتها فى منديلها ورحلت، الثقة التى لا نمنحها إلا للنذر القليل، هل المحبة أصبحت عبئًا ثقيلا يا الله؟!.

أصبحت القلوب قاسية، رغُم أنك تحب اللين، الجميع يرى ضعفنا سلاحًا يكسرنا به، رغم أنك تجبر الكسر، لا ثقة لا أمان لا حب، رغم أنك الأمان، لم يعد هناك أحلام احتلت الكوابيس عيون الصغار، وساحرات الليل ابتلعن الألوان وتبقى الأسود فقط، رغم أنك تحب النور، ومرضت الأشجار من الثلج، رغم أنك تحب الزرع، أعلم أني امرأة مزاجية، قوية حد الضعف، أهرب من قسوة الحياة على صدره، وأبكى كطفل رضيع لا يعلم ما به، ثائرة، عنيدة، حالمة، أحب الأشرار الذين ينتقمون للطيبين، أحب مناقشتي معه وجدالنا وفرحتي بانتصاره عليً، أرقص على حطام الأصنام التى تركها أجدادنا فى عقولنا لتوقفنا عن الركض، قد أصل إلى قمة عربدتي وأبكي من شدة إيماني، لست سيئة ولست فاضلة كالقديسات، فأنا امرأة هكذا خلقتني، ولكني لا أملك قلبا سيئا حتى يذبحني بسكين بارد هكذا ويعاملني كالقطط الضالة التى تبحث عن طعام ثم ترحل، لست قطة ضالة يا الله بل سنبلة قمح زُرعت بقلبه ولكنه نزعها وألقى بها فى الطين.

فى نهاية رسالتي، لا أعلم ماذا أطلب منك يا الله، أنت تعلم ما في صدري من أنين لا يسمعه غيرك، تعلم أنك تسكن في قلبي الصغير رغم أخطائي، ولكني لست بخير يا الله، كيف حالك؟ تجعلني أبكي كثيرا، قلبي يحترق يالله، أريد أن تعود الألوان إلى لوحتي التى سهرت ليالي طويلة ألونها، أريد أن أشم خبز جدتي وأرتشف شاي بالمريمية فى الخلاء، أريد أن أركض بقدم واحدة، أريد أن أضحك يا الله فقد تورمت عيناي ولم أعد أرى الطريق جيدًا لا أحب النظارات يا الله أحب عيناي، أريد أن أشاهد فيلمًا معه ونحن نتدثر ببعضنا البعض، جسدي النحيل لم يعد يحتمل تلك المسافات الشاهقة التى أسيرها وحدي، لا أريد تلك الحروب التي لا أفعل شيء سوى خسارتها منذ أن ولدت وحتى الآن، صدري أنهكته الأدوية، التى لا تفعل شيئًا سوى أنها تجعلنا نبتسم وقلوبنا نحتضر نخدع العالم فقط.

ولم يعد هناك أحد بالجوار، وأنا أخاف الوحدة، أخافها جدا يا الله، أريد أن أبادله الكتب والرسائل، أريد دفئه ورحمتك، كل ما أريده يا الله أن يحب هذا القلب بخرابه وحزنه وطفولته، أن يلتقط السنبلة من الطين ويزرعها مرة آخرى ربما تعود الحياة لها، أن يلين قلبه الذى صار كالحجارة بل أقسى، أن لا تعود لي تلك النوبات التي يكاد فيها قلبي يتوقف، وأشعر بجسدي يتجمد، أخاف منها كثيرًا،أريد ضفائري، وخمار أمي تلملني وتخبئني به، وكتبي وأفلامي وضحكتي التي سرقوها، ربما كل ما أريده، الرفقة يا الله، أن يكتب على قبري هنا ترقد امرأة لم يرَ الناس فيها غير الرحمة، لم تمت وحيدة، رحلت وتركت سنابل القمح تُطعم الصغار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قاصّة مصريّة

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون