موتٌ في المنعطف

عبد الهادي المهادي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الهادي المهادي

صباحُ أحدٍ خريفيّ، ليس له من حُزنِه شَبَهٌ سوى كونه في غُـرَّتِـه؛ أيْـنَـك يا أيها الرّمادي المُبهج، كآبتك وغُمّتك الطّبيعيتان غريبتان تثيران في النفس ـ على غير تّوقّع ـ الغبطة والحبور، بشرى ـ هما ـ وفألٌ بين يدي الخيرِ واستهلالٌ له، أو هكذا كنا نتذكّرك، ولكنك غادرْتَنا تقريبا، فتشابهتِ الفصول أو تكاد.

وأنا الذي توفّيت زوجتي حديثا أجلسُ وحدي تحت شجرةٍ برّيّة ـ لا أعرفُ اسمها ـ تطاولتْ على غير عادتها، ونشرت ظلّا وارفا يزدحم الناس مساءً عليه، وأمامي كأسُ شاي عِـفْـتُـه، لم يكن بالنكهة التي أحب ـ نوعٌ من النّعناع أفسدَهُ مِن حيث كان ينبغي أن يُطيّبَه ـ بينما طِفْـلَاي كانا يلعبان أمامي بالكرة ويتشاكسان؛ عندما تكون أباً لبنتٍ وولد فوَطِّنْ نفسك على الصّبر… وَطِّنْ!

بجانبي، على كرسي حديدي، اتّكأ شابٌ برفقته قطةٌ لطيفة، سمعتها فجأة تشتكي له في صوتٍ آسرٍ حزين، بينما عدّل من جلسته ليُنصتَ بعمق لشكواها، كان غارقا في اللحظة، مستأنسا بحضورها الوديع، كلّ ملامحها البريئة تجعلك تتعاطف مع ألمها، فلا يمكن لصاحبها إلا أن يُحقق أمانيها، علّمـتـها التجربة ـ كما يبدو ـ أنها بالمَسْكنة والتَّـذلّل تنالُ ـ لا محالة ـ مرادها… لقد عرَفتْ طريقها جيدا فلَـزِمَـتْـهُ، هذا ما خمّـنْـتُـه… كنتُ أراقبُ من طرف خفي حتى لا أثيرَ حفيظة الشاب المَوْلُوعِ بها فيتوقف عنِ التَّصرُّفِ على سجـيّـتـه.

أمتعني المشهد ورفعني عاليا إلى مقام الدّعاء، إلى حيث ذُقـتُ مرّاتٍ ـ أنا راوي الحكاية ـ تجربة التّضرّع وهِمْتُ بها، فامتلأتُ يقينا بأن ربَّـنا أرحمُ وألطفٌ مِن أن يَرُدّ قلبا تذلّل بين يديه وانكسر؛ والله، بالله، تالله… !

تشجّعتُ واقتحمتُ عليه خلوتَه، وكان ذلك عليّ أصعب، لكنه أبى في لُطفٍ أن ينساق لرغبتي في معرفة سبب الشكوى والألم، قال والحزن يُجلّله: خَبيئَةٌ بيني وبين قطّتي… و الله ثالثنا .

عذرته، وقررت مع نفسي أن أغافله بمدخل آخر لكشف سره، ولكنه لم يمنحني هذه الفرصة… يبدو أنه قرأ أفكاري. جمع حوائجه وغادر بسرعة، بينما جلست غارقا في حيرتي وسؤالي.

بدا لي، من خلال حركاته، أنه قلق من أمر ما، أو أنه ضاق من تدخلي في خصوصياته. تابعته بناظري حتى غابت سيارته عند أول منعطف.

عندما غادرتُ بدوري بعد مدة قصيرة، هزّني ما رأيت في الطريق؛ كان الناس متجمهرين حول رجال إسعاف ينقلون رجلا مُغطى بالكامل، كان مشهدا صادما لي، فقد كانت نفسها سيارته وقد صدمتها شاحنة قيل لي بأنها كانت تسير بجنون.

في الطريق رويت الحكاية لولديّ. قالت لي ضياء حينها: يبدو أن القطة كانت تودّعه يا أبي، فقد قالت لنا أستاذتنا بأن الحيوانات تعرف ـ في بعض الأحيان ـ المَخْبوء عن الإنسان.

قطعتُ ما تبقى من الطريق غافلا عمّا حولي، كنتُ أفكّرُ في أمر هذا الموت الذي ينتظر بعضنا في أول منعطف، دون أن يمنحه فرصة ترتيب أموره وتوديع أحبابه، لحظتها أبرقت ذاكرتي ـ دون إذن منّي ـ وعادت بي إلى يوم بعيد من حياتي، كنتُ يومها تلميذا في بداية الثانوي.

توجّهتُ رفقة بعض الأصدقاء إلى شاطئ قريب للسباحة وتزجية الوقت، عندما ارتميتُ للمرة الثالثة من الحجرة الضخمة بين أحضان البحر، لا أدري ما الذي جرى حتى وجدت نفسي بين أحضان الموت هذه المرة. في لمح البصر وقع كلّ شيء… الغريب أني لم أصرخ، ولم أستغث، فقط استسلمتُ في هدوء، وسلّمتُ أمري لـتـيّـار معنوي كان يجرني نحو عالم جديد، وأثناء استجابتي اللطيفة لنداء مغادرة هذا العالم، كان شريط أحداث حياتي يمر أمام عيني بسرعة لا أستطيع تشبيهها بشيء مما هو معروف في دنيانا، شريطٌ يشبه شريطا سينيمائيا؛ تك، تك، تك، تك… شاهدتُ كل شيء… كل شيء، خاصة اللحظات السيئة في حياتي، ولأني كنت في بداية الشباب، لم أكن قد أسأتُ كثيرا، فحصل التركيز أكثر ما يكون على صورة الأقارب والأصدقاء، وبالضبط صورة الوالدين وأنا أفارقهما، بل قل أنتزع بقسوة من بين جناحيهما؛ حسرة عظيمة مُرّة ما زالت في حلقي إلى حدود اللحظة.

عندما توقّفتْ حركة ذلك الشريط، كنت مُنهكا أُمْسِك بطرف حجر لا أدري كيف وصلتُه؛ هل أنقذني أحد المصطافين، أم أن حركة الموج دفعتني برفق لبرّ الأمان.

وصلت البيت أخيرا، أوقفت سيارتي بعد أن ركنتها برفق، وأنا أُسِرُّ إلى الله بالدعاء؛ أن يحفظ لي وَلَديَّ حتى أتمتّع بعنفوانهما، دون أن يردّني إلى أرذل العمر.

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون