عاطف عطيت الله
كجثة بلا مشيع واحد، أو كشيء منسي كان، أو ملقى في غير مبالاة تتمدد ملتفا بالبطانية كثيرة الثقوب، لا يفصلك عن تراب الأرض سوى قطعة من حصير متهرئة، ومن خلال ثقب لا يسع غير حدقة واحدة تنظر إليها. ستجلس كقطعة من سواد الليل المتكاثف بعينين مرهقتين، قد محت بريقهما الأيام بقسوتها، وأصابع يابسة ككعاب البوص المنشور في الشمس منذ لا زمان، وقت أن تفردها، وتثنيها مطبقة على مخرازها، وخيوطها متعددة الألوان.
وقتما يدبر الليل، تزحف الشمس فوق السقف القديم المتهالك، وعبر ثقوبه مختلفة الحجوم تنفذ خيوطها كأسطوانات ضوئية لامعة، بداخلها ذرات غاية في الدقة لا تكف عن الحراك، والدوران. لن تنهض، ستظل متمددا، كمن فارقته الروح. ستناديك، وتظل صامتا، فتهرع هي إليك، تسألك إذا ما كنت تشكو من شيء. خوفها عليك سيجعلها لا تمل السؤال غير أنك ــ كعادتك ــ لن تحرك ساكنا. سيزداد إلحاحها، ودون أن تزيح غطاءك بثقوبه، أو تكشف عن وجهك سوف تقول: لا!…
ومن خلال ثقب لا يسع غير حدقة واحدة تنظر إليها. ستبيت الليل كله ــ كما تقضي نهارها ــ منكفئة على طرحتها، وخيوطها، ومخرازها الذي لا يفارق راحتها إلا حين تريحه فوق طرحتها، أو تغرسه بشق الحائط القديم؛ لتقطم في كسرتها الخالية إلا من حبات الملح، التي اعتادت الألسنة حرقتها. تصارع البرد الذي ينخر في العظام الممصوصة النخاع.
من أجلها تتنهشك الآلام لكنك لا تضج، أو تتأوه كي لا تسألك، ويظل جوابك صمتا طويلا قد تقطعه (لا) وليدة مخاض إلحاحها.
في خلدك ــ دائما ــ تدور نفس الكلمات: ما أعظمها تلك الأوقات التي لا تجلب فيها الكلمات نفعا، ولا تدرأ ضرا مهما نوّعت، وكانت منتقاة، وكيف يكون للكلمات نفع، وقد باتت عاجزة.. عاجزة عن مجرد المواساة، والعزاء حتى!.. ولا تملك أن تستأخر، ولو لحظات قليلة من عمر أمل شوهته الأيام، وها هو يلفظ أنفاسه الأخيرة!!.
تعرف أن الصمت لا يأتي ــ أبدا ــ إلا بخوفها، ولهفتها لحظة تريد منك الكلام، لكنك تؤثره عن أية كلمات لن تغير حالا، أو تغني عن حاجة!.
من خلال ثقب لا يسع غير حدقة واحدة تنظر إليها، ستسمعها، وهي تلوم الزمان، وتعتب على الدنيا التي لا تدوم على حال، وكحالها دائما تتقوى على الأيام بكلّها، وبغد طال انتظاره. من أجلها تعتصرك الأحزان، لكنك لا تئن، أو تتوجع، ولو بآهة مسموعة، لا تتململ حتى، فقط تلوذ بخرسك غير أن دموعك لا تقوى على صدها جفون من الفولاذ…
سوف تأتي بيدها السمينة البيضاء، وكيسها المنتفخ دوما، تنحني إلى أمك، فترتفع مؤخرتها الضخمة، رغما عنك تحتضنها عيناك. ستقول، وهي تضعهم في حجرها: “أنا هبسطك على دول قوى..”. سترجو عيناك أصابعها أن تعجل بفك ربطة منديلها. لن تشكو من أثر الثقل الذي خلفه جوال الدقيق فوق كتفك النحيلة بعد ذلك. ستقول أمك: “والنبي ما كان ليه لزوم.. دي مستورة، وهو معاه كتير”.
ثم تربت هي بيدها السمينة على كتفها، وتقول: “والنبي أنا عملاه أخوهم التالت”. ستدعو ــ في نفسك ــ لأن تنصرف مسرعة لترى ما بداخل كيسها في تلك المرة. حينما تتمدد، ولا تنظر من خلال الثقب الذي لا يسع غير حدقة واحدة، تتقافز مؤخرتها، ويدها السمينة البيضاء إلى مخيلتك، تنظر إلى أمك؛ فتسب الزمن، وضنك العيش الذي أنحفها، وأبرز عروقها.
ستنظر إلى الكيس المنتفخ الراقد في حجر أمك، الذي يختلف لونه مرة عن أخرى، وستطفو إلى سطح ذاكرتك صور شاحبة: ذلك الرجل، وخطابه اليتيم الذي أصابه الاصفرار، والذبول، والسطر الوحيد الذي يذكرك فيه: “نعرفكم لازم يشد حيله، أوعي يسيب المدرسة!…”. ووجه أمك، وهو يتقلص، وينبسط، ودموعها، ونشيجها الساكن أذنيك، وهي تشاركه حزم حقائبه… وطفولتك التي دفعتك لأن تقول له: “واشمعنى هما فلوسم كتيرة يعني!؟..”. ليحملك بيديه الكبيرتين ــ آنذاك ــ وهو يقول: “بكرة تكبر وتعرف!..”.
من خلال ثقب لا يسع غير حدقة واحدة تنظر إليها. متداخلة، ستتكور في نفس مكانها، بينما البرد يخترق الجدران، ينفذ إلى الأجسام، يلسعها، يرجها رجا، لكنها أبدا لن تنام. لن تنسى اليوم الذي تخيلت فيه أن ترددها بكيسها المنتفخ ــ دائما ــ إلى أمك، إنما كان لأنها تخطب ودّك من أجل “سعاد”. فكّرت كيف، وأين ستجعلها تعيش ببشرتها الحمراء، ونظافتها، ورائحة عطرها الدائمين، أخذتك أحلامك بعيدا عن واقعك المرير حينذاك لكن رجاء أمك ــ الذي يشتد مرة بعد أخرى ــ لها بألا تكلف نفسها؛ فخيرها عليكم كثير سرعان ما أعادك!… ستدرك أنها أبدا لن تخطب ودك من أجل “سعاد”، وستهاب مجرد التفكير!…
من خلال ثقب لا يسع غير حدقة واحدة تنظر إليها. على مقربة منك ستجلس كآلة، معلنة تمردها، وعصيانها لسلطان الليل بحلاوة نومه، وجبروت شتائه، لن يمس لها جفن آخر أبدا!. أنينها الذي لا ينقطع، سيذكرك بذلك الأنين الذي تصدره “شحاتة” الشارع وقت أن تجلس إلي جانبها، وتشكو، دائما ــ ودون أن يسألها أحد! ــ تقول بأنها كرهت الشارع، والناس، ولسوف يأتي اليوم الذي قد لا تكتفي فيه بترك الشارع، بل ستغادر البلدة كلها بلا رجعة؛ إذ كيف تبقى، وأمثالها ــ في البلاد المجاورة ــ تعبأ “شوالاتهم” حتى حلوقها، وقبيل الظهيرة، ذلك غير ما يأخذونه من نقود!.
من خلال ثقب لا يسع غير حدقة واحدة تنظر إليها، ستراها، وهي تعدل من جلستها. ستفرد ذراعيها، فتصل إلى أذنيك طقطقة عظامها. ستراها جالسة، تلك الجلسة التي تجعلها تستند إلى الحائط حين تهم بالنهوض، أو السير حتى ينزاح خدر قدميها..
حينما تنظر إليها، وهي ترفع وجهها إلى صفحة السماء، تتخيل أنها تستمد طاقة بصرها من تلك النجوم التي ترتعش، كما لو كانت هي الأخرى تخشى شيئا ما، ستتمنى ذلك الوقت الذي تريحها فيه، سترجو من الحياة أن تخفف من قسوتها، ومن القدر أن يعفو قليلا، وأن يهبك ما تقدر أن تعيد به إليها بريق عينيها، واستقامة ظهرها، ونعومة يديها.. أن تعيد إليها كل ما سلبه الزمان، وانتزعته الأيام.
ستكره الدنيا التي لا تقبل لك توسلا، أو رجاء، ستدرك أن الشيء الوحيد الذي أعطتك إياه هذه الدنيا أن تعجب، وتدهش كيفما يحلو لك.. دون أن يغير ذلك من الأمر شيئا!!.
من خلال ثقب لا يسع غير حدقة واحدة تنظر إليها، لكنك أبدا لن تجدها، ستتأمل مكانها لكنها أبدا لن تكون موجودة، لن يكفيك عندها مجرد النظر من خلال ذلك الثقب، ستقذف بغطائك بعيدا، وتهب واقفا، ستهرول إلى نفس المكان، مكانها، وتجثو، فيلمع المخراز المغروس بشق الحائط ــ منذ تركته ــ أمام عينيك، تشده، وتقربه من عينيك، ثم تقبله، وتضمه إليك بعدما تمسح دمعة ساخنة تشبثت بطرفه، ستقول في نفسك: “إن الدنيا أبدا لن تكون أرحم بك مما كانت!!…”.
عندما تدفع الباب، وتبرز برأسها، لن تئن، ولن تشكو ــ كما عهدتها حين كانت تجلس إلى جوارها ــ سوف تتأمل مكانها قليلا. وستتساءل أنت عما جعلها تبقى حتى الآن، وحينما يختفي رأسها، ويتناهى إليك أنين الباب، وهو يعود مغلقا، ستتحول آلامك إلى آهات مسموعة، ودموع تمتزج بتراب الأرض، لن تهتم بغطائك الذي قذفت به بعيدا ليحتضنه التراب، سترتمي متمددا، وبصرك معلق بمكانها، سيكون من الصعب عليك أن تحول بصرك بعيدا عنه، وستسمع صوتك يقول: “ما أكثرها تلك الأشياء التي نريدها في تلك الحياة، ولا نحصل عليها!!…” و..
يهبط ظلام بغير ليل!…