الطفل الأشقر

محمد فرحات
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد فرحات

كان الطفل الأشقر مصاحبا لأبيه جهوري الصوت، باسم الوجه، ينحدران بربوة جامع سيدي شبل، يطالع عناوين فرشة جرائد وكتب أبي طارق الملاح، يشتري جريدة الأهرام، رغم كون جريدة الأخبار ديدنه، إلا أنها حلقات عبدالوهاب مطاوع قد أخلفت عادته، وربما اشترى الوالد كتابا أو اثنين، يمازح زملاؤه المعلمين بثانوية الشهداء بنات، ويمازحونه، وربما ينسل الحديث معلقا على هذا الطفل الطويل الخجول الذي لاينبس ببنت شفة “هو ابنك ده أخرس يا أحمد؟!!” يلوذ الطفل الأشقر الطويل بجلده خجلا، ويزداد صمته إحكاما، يقهقه الوالد” بكره محدش يباريه في الرغي زيك انت وهو…”

ينصرف الطفل الأشقر الطويل الصامت وأبوه نحو مصنع الحلوى فعم زغلول الحلواني صديق أبيه الحميم، الوفدي الصميم، يشاكله “محدش خربها غير حبيبك عبدالناصر…!!” فينفجر في وجهه صارخا “يعني مصطفى النحاس، وفؤاد سراج الدين بتوعك هم اللي عمروها…؟!” فتكون تلك الملاسنات الضاحكة بمثابة كلمات مفتاحية لحديث سياسي قصير بين وفدي وناصري عتيدين، ثم يشتري الحلوى الطحينية، وكفوف السودانية والحمصية، ويهرولان نحو البيت، ينظر الوالد للساعة من حين لآخر فهو يحب أن يستمع لبرنامج “نور على نور” من أوله، يصلان لبوابة المنزل الخضراء، تدب قدماه المسرعتان نحو الدور الثاني، تبشرهما رائحة الملوخية الخضراء بغذاء شهي قوامه المحشي واللحم، وتصدح نغمات برنامج “الشيخ الشعراوي”، مع وجه الشيخ السمراء المنيرة، ترص أطباق الغذاء، على سطح الطبلية البنية الخشبية العتيقة، تنطلق أبخرتها الشهية.

ومع غروب الشمس، تبدأ متاعب الطفل النفسية المكتومة فغدا السبت وبداية رحلته الأسبوعية المدرسية، جدول الضرب وتسميعه، والقسمة المطولة المعجزة، وحصة الإملاء ودرجته الأقل دائما من النصف، يأتي الليل مسرعا ليبشر بنهار كله متاعب، لينتظر الطفل الأشقر الطويل الصامت الخائب، بفروغ صبر لا ينتهي، الخميس تصحبه الجمعة، سريعة الرحيل دائما. يبتسم الشيخ “الشعراوي” بمنامه فتهدأ خواطره، فللمعاناة يوما نهاية.

ينحدر الكهل الأربعيني على ربوة جامع سيدي شبل، كوالده ورحلته الأسبوعية مكررة الخطو،  يداه فارغتان دائما من الحلوى، والجريدة، ومن جدل الأصحاب، وضحكاتهم، بينما زادت رحلته تفصيلة عن رحلة أبيه فهو يسير نحو قبر أبيه وحيدا يقرأ الفاتحة، وذهب شعره يلوح كفضة لامعة، بخطو متثاقل يسير نحو منزله لا تستقبله روائح الغذاء الشهي، فقد انتهت حلقات الشيخ، ورحلت الطبلية الخشبية، ومخرطة الملوخية يعلوها الصدأ والعطب…مازال يخطأ بجدول الضرب… مازال تحت النصف بدرجة، مازال صامتا لا كما بشر والده يستقبل السبت بذات قبض الصدر وفي منامه يبتسم له الشيخ “أوشكت أن تصل…!”

كان الطفل الكهل الأشقر الأشيب الخائب الصامت الطويل محني القامة…

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون