سلوان البري
عصر يوم مشمس من نهايات نوفمبر 2023
مقهى صغير يقع في منتصف مدينة بعيدة عن الأحلام.
تتعمد فتاتنا عدم المرور في الشارع رغم أنه أقصر الطرق نحو عملها، إلا أنها تضحي بالطريق المختصر فداءً للذكريات البعيدة، كحال أصحابها الآن. من وجهة نظرها، مشقة الطريق الطويل الفارغ من أي ذكرى أهون على قلبها من طريق مختصر يُدمي قلبها المنهك من طول الأيام والأحلام بعيدة المنال.
في الطريق المختصر يقع مقهى الأصدقاء (هذا ليس اسمه الحقيقي بالطبع)، وفيم يهم اسمه الحقيقي إذا كانت صاحبتنا لا تراه من الأساس؟ لقد طُبع في مخيلتها أنه مقهى للرفقة والأحباب، ولا شيء في هذه الدنيا سيغيّر المفهوم بداخلها، خاصة وأنها عاشت طيلة عمرها ترى الحب من منظور مختلف عن الفتيات في عمرها. هي لا تراه بين رجل وسيدة فقط، بل تُقِر أن الحب خُلق أيضًا للأهل والأصدقاء. هكذا نشأت، وهكذا تصوّرت أنها ستمضي بقية حياتها؛ فتاة اجتماعية محاطة بعائلة كبيرة من الأحباب الذين كوّنتهم هي بمعرفتها الخاصة. أحباب لا تربطهم بها صلة دم، ولكن يربطهم بها ما هو أكبر وأهم وأشمل.. تربطهم صلة الاختيار، اختيارها واختيارهم. ولكن في جزء عميق من نفسها، آمنت أن الأهم هو اختيارها هي وحدها!
هي التي تختار وتُكوّن وتُشكّل ما تراه وتريده. لا أحد يخبرها بما عليها فعله أو بما يجب عليها اختياره. هؤلاء البشر هم غرس يديها هي، لا يمكن أن يتركوها ذات يوم ويرحلون.
هكذا بقيت لسنوات تقاوم فقد الأهل بصناعة المزيد من الأصدقاء، حتى أنها قد أطلقت عليهم مسمّى (الأهل المختارون). الأصدقاء الذين نختارهم بعناية يصيرون أهلًا لنا متى أردنا. الأهم من ذلك أنهم سيصيرون دروعنا التي لا يمكن اختراقها ذات يوم، جنودنا البواسل الذين لا يخونون، مهما حدث ومهما سيحدث. وإن حدث ورأينا خياناتهم الصغيرة أمام أعيننا، من المؤكد أننا سنغفرها لهم من فورنا.
لقد أقنعها عقلها المسكين أنها بتلك الطريقة ستتمكن من الاحتفاظ بالمحيطين بها للأبد. نعم، لا بد أن يحدث هذا. إذا منحناهم قدرًا كبيرًا من الغفران والمحبة غير المشروطة، فمن المؤكد أنهم سيتمسكون بنا أكثر فأكثر… هكذا من المفترض أن تكون عطايا الحياة لنا؟
من الضروري أن تكافئنا على كل ذاك النبل والأخلاق الرفيعة… أليس كذلك؟ بعد كل هذا القدر من الطيبة والتغافل والمساحات الآمنة، سنرى بأعيننا نتيجة غرسنا الطيب. هذا ما كانت تعتقده صاحبتنا فيما مضى من عمرها. حيث صوّر لها عقلها أنها إذا ما منحت الناس ما تتمنى الحصول عليه، من المؤكد أنها ستجني مثلما غرست يداها ذات نهار.
شيءٌ واحد فقط كانت تتمسك به في كل مرة… وهو اختيار مكان نزهتها مع الرفيقات، أو بالأحرى المكان الذي سيتناولن فيه قهوتهن… مكان صغير، آمن، بعيد عن أعين العالم.
لم تكن تطلب منهم الكثير، منحتهم كل الوقت والاهتمام والتفهم الذي يمكن أن يمنحه أحدهم للآخرين في هذه الدنيا، في المقابل لم تطلب منهم أكثر من اجتماعات هادئة في أماكن تتسم بالدفء والصِغَر. ولكن هيهات أن يحدث للمرء ما يتمنى ويريد. الرياح لا تأتي بما تشتهي السفن، وتعلمت صاحبتنا بالتجربة الصعبة كيف يمكن للغربة أن تنهش قلوب المحيطين بنا دون أن ندري عن تآكل أرواحهم شيئًا.
دعونا نعود بالذكريات إلى مقهى الأصدقاء، حيث كانت تُصمم بطلة حكايتنا أن تمضي معظم وقتها. كان مقهاها يتميز بالفصل بين البشر؛ لكل فئة ركنها الخاص، حيث يمكن للسيدات والرجال أن ينفصلوا في عوالم موازية دون أن يُزعجهم أحد. ولم تنسَ إدارة المقهى أن تُجهّز ركنًا صغيرًا لمن يريد الاختلاط من الفئتين، ليتحوّل في تلك اللحظة إلى مقهى مكتمل الأركان من وجهة نظرها…
وبما أن أصدقاءها كنّ جميعهن من الفتيات، أين سيجدن مكانًا أفضل للجلوس من هذا المقهى الذي يحافظ على خصوصية الجميع؟
الآن ترى كم كان طلبها بسيطًا للغاية؛ لم ترد أكثر من أن تُترك لها الحرية في أن تصير كما هي.
لطالما منحت الآخرين هذا الحق. كان من حق الآخرين أن يصيروا ما أرادوا دومًا، في نفس الوقت ظلّ الجميع يطالبها بأن تصير كما أرادوا هم.
هذا ما أدركته حينما تُركت في المقهى وحيدة بلا رفقة.
في البداية أخبروها أنهم لا يفضلون المكان لعنصريته! نحن في القرن الحادي والعشرين، كيف لمقهى أن يفصل بين الناس حسب أنواعهم بهذا الشكل المريب؟
ولكن حجتهم بطلت، لأن المكان خصص ركنًا لمن يريدون الجلوس مجتمعين.
وهنا كانت المشكلة الحقيقية التي بدأت في الظهور، وهي أن أصدقاءها لا يحبون المكان نظرًا لطبيعة رواده.
من المؤكد أن من يختار مكانًا محافظًا كهذا، لن يكون على استعداد لتبادل التعارف مع أحد.
لقد كان لأصدقاء صديقتنا طابع أغلب الفتيات الراغبات في اصطياد الحب الأول من الأماكن العامة والتجمعات العائلية.
وكان هذا من الأشياء غير المقبولة في نظر صديقتنا. هي فتاة بريئة تفضل النزهة من أجل لقاء صديقاتها فقط، بينما صديقاتها على الجانب الآخر يفكرن في مكانٍ ما كي يراهنّ العالم من خلاله…
وإن كان هذا المكان عبارة عن مقهى صغير في مدينة بعيدة لا يراها أحد.
الآن فقط، وبعد مرور السنين، استطاعت أن تتفهم رؤيتهن للعالم. لم تكن أيٌّ منهن، ممن ادّعين معرفة نواياها الطيبة، تشبهها في شيء واحد.
حيث كان الفارق شاسعًا بينهن للغاية، وبينما يُخيَّل لصديقتنا أنها تنقش على الحجر، استيقظت فجأة لترى نقشها قد ذهب هباءً منثورًا فوق الماء.
حدث هذا حينما أخبرتها إحداهن مازحة (وما أكثر الحقائق التي تنطق بها النساء أثناء مزاحهن) أنها لا تشبه الفتيات في شيء!
أيّ فتاة لم تُكمل العشرين ترغب في أن تجلس داخل مقهى يعمل على الفصل بين البنين والبنات؟ كما أنه لا يسمح بأن ينتشر في أرجائه غير صوت القرآن الكريم والأناشيد الدينية، مصحوبًا برائحة البخور العطرة والقهوة التركية المعتّقة؟
لم تتفهم صديقتنا ما يُشرن إليه، ربما كنّ يرينها شيخة صغيرة تهدف لنشر تعاليم دينها بين أقرانها، ولكن لم تكن هذه هي الحقيقة أبدًا.
كان كل ما تريده هو أن تحافظ على هويتها دون أن يغيّرها أحد.
كان هذا حقها الطبيعي. هي لم تطالب أحدًا بتغيير رؤيته في هذه الدنيا، لمَ تتكالب عليها الدنيا وأهلها كي يغيّروا من طباعها؟
ظلّ هذا السؤال يؤرقها دومًا دونما إجابة. يعلم الله وحده كم حاولت الجلوس معهم في مقاهٍ من اختيارهم، ولكن صوت الأغاني الصاخبة كان يؤرقها.
الأصوات العالية عادةً ما تؤرقها وتوتّرها. هي لم تعتد على مثل هذه الأجواء.
منذ نعومة أظافرها وهي تسعى نحو الهدوء، تنام على صوت برنامج الموسيقى الكلاسيكية وتستيقظ عليه، تتخيل راقصات الباليه كالفراشات، ونغمات الموسيقى تتسلل داخل أذنيها ليلًا…
في بعض الليالي كانت الفراشات البيضاء تسافر معها نحو عالم الأحلام، ليصير ليلها ونهارها حلمًا متواصلًا لا ينتهي.
في أثناء اليوم، تصاحبها أصوات المقرئين الصادرة من إذاعة القرآن الكريم.
أما ليالي الخميس والجمعة فكانت تسميها بـ «ليالي الرعب»، حيث البرامج الإذاعية لمسلسلات الجريمة والحكايات المرعبة. ولا يخلو الأمر من مشاهدة إحدى أفلام ومسلسلات الألغاز.
وربما كان هذا أكثر ما يثير غضب أصدقائها عليها. لأنها كانت ترفض الذهاب للسينما معهم لمشاهدة أحدث الأفلام الرومانسية… يمكننا القول إنها كانت ترفض الذهاب للسينما نفسها.
ما الذي يدفع الناس للذهاب ومشاهدة أفلام يُعرض أغلبها على المنصات التلفزيونية داخل المنازل؟
ربما يرى القارئ أن صديقتنا شخصية غريبة الأطوار، إلا أنها لم تكن كذلك على وجه الإطلاق.
الأمر وما فيه أنها كانت تحاول الحفاظ على مساحة آمنة لها وسط ضوضاء العالم التي لا تتوقف.
على كلٍ، لم يعد كل هذا يهم.
الآن مر الوقت، رحل الأصدقاء، تغيرت الدنيا، التهت كل فتاة بعالمها، وصارت صديقتنا أكثر تقبُّلًا للواقع وحقائقه المريرة.
الآن تدرك أن ما نزرعه من لطف تجاه الآخرين لن يعود علينا بالنتيجة نفسها، وأن تقبُّلنا للآخرين لن يدفعهم بالضرورة كي يتقبلونا في نهاية الأمر.
الآن هي في طريقها نحو العمل… ولكن، اليوم، على غير العادة، قررت أن تستبدل طريقها الطويل بالطريق الآخر الذي تجنبته لسنواتٍ طويلات…
حدث هذا حينما علمت أن المكان القديم قد تم بيعه وشراؤه من مالك جديد… مالك لم يُغيّر اسمه على أية حال، وإنما عمل على تغيير شكله وأساسه… لذلك قررت أن تتناول قهوتها هناك… للمرة الأولى والأخيرة بعد التجديد.
حينما اقتربت من المكان، شعرت أنه صار غريبًا عنها أكثر من غربتها عن نفسها ومن تعرفهم.
بهدوء، حاولت البحث عن أي ركن يذكّرها بنفسها وبالمحيط من حولها، إلا أنها لم تجد… لا شيء بقي على حاله.
حسنًا، وهل بقي الأشخاص لتبقى الأماكن؟
وهل نبكي الجدران أم نبكي أنفسنا ومن خذلونا؟!
كل شيء تبدّل حاله: الأناشيد والآيات القرآنية بُدلت بالأغنيات الصاخبة، ورائحة البخور صارت معطر جو لا رائحة له، أما الفصل العنصري الذي طالما تنمّرت عليه صديقاتها، صار طيّ النسيان.
حتى رائحة القهوة ما عاد لها حيّز في المكان الجديد.
آه، لو يرونه الآن… ها هو أصبح مقهى أحلامهن تمامًا…
هكذا حدّثت صديقتنا نفسها…
بينما تستعد للذهاب، ساحبة وراءها ضحكتها المهزومة، فوجئت بصوت النادل يسألها عمّا تريد تناوله.
أخبرها عن أصناف جديدة وأطعمة متنوعة، بينما هي تبتسم في صمت…
وما إن انتهى من طرح قائمتهم الطويلة حتى سألته:
أما زلتم تقدمون القهوة التركية؟ أريد فنجانًا من البن الفاتح
المحوَّج، دون إضافة أي ذرة من السكر.
أشار لها برأسه في تفهّم، ورحل…
في الماضي، كانت تتناولها مضافًا إليها ملعقة كاملة من السكر.
الآن لم يعد لهذه الملعقة أية مكانة في حياتها… بعدما صارت الحياة مُرّة، وعلى المشروبات أيضًا أن تحذو حذو حياتها.
يمر وقت قليل حتى تشم رائحة بعيدة لبنٍ مُحمّص مع تحويجة خاصة سبق لها أن تذوقته كثيرًا…
رائحة تذكرها بسنواتٍ مضت مع أهلها… دون رجعة.
رائحة ما لبثت أن تبينت أنها حضرت مع فنجان القهوة الذي طلبت تناوله.
لاحقًا، ستمسك بالفنجان بين يديها، لتسقط منها دمعة صغيرة داخله…
دمعة تُحدث ثقبًا في وجهه السميك، الذي اعتاد شاربو القهوة تسميته بـ”وش الفنجان”، ثقب صغير لا يكاد يُرى بالعين المجردة… إلا أن صاحبتنا تراه بوضوح، كما ترى الثقب الصغير الآخر المختبئ في زوايا قلبها المكسور.