السيد جاك من إسطنبول

مريم
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مريم عبد العزيز 

في لقائنا الثاني وسط الساحة الخلفية لمبنى السوق القديم وعلى مقربة من مسجد يحمل فوق رأسه عشرين قبة رمادية؛ يتساوى عددها مع فارق العمر بيننا. وقفنا متقابلين. أنا وچاك. تفصلنا خطوات قليلة تسمح لكل منا بتأمل التغيير الذي بدا على الآخر رغم كونها ساعات قليلة تلك التي فصلتنا عن اللقاء السابق. نحن لسنا حبيبان، ولقاؤنا هذا لم يكن لإحياء ذكرى غرام قديم، بل لم نلتق سوى في نهار هذا اليوم، لكننا ننسى أو نتجاهل ونحن نسلم أيامنا للغرباء أننا أودعناها من قبل لدى أحباب فأضاعوها.

 حين فقدت الخريطة التي رافقتني في الأيام التسعة الماضية، جلست حائرة في الساحة أتأمل خيبتي وكل المرات التي سلكت فيها الطرق الخاطئة حين تشابهت عليّ معالمها. كذلك اسطنبول تلتبس علي معالمها فأرى مساجدها نسخة مكررة بمآذن رفيعة للغاية وكثير من القباب أحصيت منها عشرين واحدة فوق المسجد المقابل. فمنذ بدأت رحلتي وأنا أستعين بالعدّ للتخلص من القلق، وهي فكرة اقتبستها من طريقة عدّ الخراف للمساعدة على النوم، ولأن المدينة لا ترتدي حلّة بدوية، لا ترتع الخراف في دروبها لكنها حاضرة على الدوام في أسياخ مطاعم الشاورما والكباب. أما القباب فكلما تلفتت حولي وجدتها. فاستبدت هذه الحاضرة بقوة بتلك صاحبة الحضور المجازي. ولم يكن أمامي سوى الاتصال بچاك لأسلمه ما تبقى من يومي في مدينة تقف حائرة بين قارتين إحداهما تنكرها.

جمعتنا عربة ترام واحدة في صباح آخر يوم لرحلتي لهذه المدينة. جلس كل منا في جانب مختلف من العربة. ولأن الناس يغيرون مقاعدهم في الترام لأسباب شتى منها؛ أن الشمس قد تضرب جانبا واحدا من النوافذ متجاهلة الآخر، فإن كنا صيفا فقد  تضرب الشمس جانبي فأهرب منها بالجلوس في الجانب المخالف، وإن كنا شتاء فقد تبسط أشعة ضعيفة على جانب چاك فأنتقل إليه بحثا عن بعض الدفء في خريف إسطنبول البارد، النتيجة واحدة في الحالتين. بدّلت مقعدي، فأصبحنا متقابلين. أتابع الطريق من النافذة بينما يجلس هو خلف جريدته.

اختلست بين الحين والآخر بعض النظرات باتجاهه، في وضع الجلوس لم أتمكن من تحديد طوله تماما ولكن بملاحظة المسافة بين ثنية ركبتيه وبين حافّة مقعد الترام خمنت أنه طويل القامة. تفحصت هيئته، بدلة كاملة، من تحتها صديري من التريكو فوق قميص أبيض، وحذاء بني نظيف للغاية، يرسم شاربه ولحيته دائرة حول فمه. وتقف نظارة رفيعة عند طرف أنفه بين عينيه والجريدة، يدفعها بطرف سبابته من المنتصف كلما همّت بالنزلاق لتكشف عن عينيه العسليّتين، تاركة أنفه الدقيق عاري. وأخيرا قبعة. لورد إنجليزي، خارج لتوّه من روايات تشارلز ديكنز التي درسناها في المرحلة الثانوية. وحين انتقلت لأجلس قبالته ملأت أنفي رائحة تبغ لم يحترق كتلك التي تفوح من مصنع السجائر الذي أمر بجواره يوميا في طريقي عبر نفق شارع الهرم باتجاه وسط المدينة.

أعترف أن الشمس بريئة، وأن الفضول وحده هو ما دفعني لتغيير مكاني في العربة لأتمكن _عن قرب_ من مراقبة هذا اللورد الإنجليزي. جذبني مظهره المميز لخوض أية مغامرة أنقذ بها رحلتي البائسة في يومها الأخير. حدثت نفسي أن تعارف الغرباء في وسائل المواصلات أمر شائع الحدوث في كل مكان في العالم. وأن الثرثرة التي تعتبر صفة أصيلة في الجنس البشريّ لا تشترط الانتماء لطائفة الحلاقين لتمارسها، يكفي أن تكون غريبا أو وحيدا أو أن يجتمع عليك كلاهما، مثلي.

دخلت إسطنبول هذه المرة موصومة بالملل، ربما أردت اختبار هذه الصفة -التي ألصقها بي رفيقي الغائب عن الرحلة- فبادرت بالحديث إلي الرجل الغريب: مرحبا أنا ماجدة من القاهرة. طوى الجريدة بفرحة -لم أتبين سببها- وعرّف نفسه أنه چاك من إسطنبول. هل كان چاك يشعر بالوحدة في رحلة الترام أم أن جريدته مملة مثلي. أعرف أن الإنسان بإمكانه أن يترك الجريدة على مقعد الترام إذا شعر بالملل، ولكن ماذا لو كانت زوجته هي المملة هل يتركها على مقعد الترام أو في صالة السفر؟.

تلهيت عن أفكاري الكئيبة بحكايات چاك عن أصله الأرمني، وأجداده الذين عاشوا في مدينتي وامتلكوا مصنعا للسجائر يحمل شعار الجمل، قاصدا صنف سجائر شهير أعرف إنه أمريكيّ، ادّعي أن أجداده الأرمن امتلكوه قبل أن تلعب الحرب لعبتها فتنتقل حيازته من يد العثمانيين ليد الإنجليز حتى استقر في يد الأمريكان بعد صفقات سياسية متشابكة. حكاية مسلية لست مضطرة لتصديقها أو تكذيبها، فربما لا أقابل هذا الرجل في حياتي مرة أخرى، ومن الأفضل أن تبقى ذكرى الحكاية لا الجدل حول تاريخ شركة الدخان.

أخبرني أيضا عن ميراث له في بلدتي. حدثت نفسي بأنه لابد سيلحق هذه المعلومة بطلب مساعدة، وقررت أنني لن أورّط نفسي في تقصّي أثر ميراثه، فلدي في القاهرة ما يكفي من النكد. أخلف چاك ظنّي، شارحا أسباب إعراضه عن المطالبة بإرثه بأن لعنة الفراعنة قد مسّت هذه التركة، فكل شخص من عائلته عزم على تحصيلها، عاجله الموت قبل أن يفوز بالثروة، وچاك كما أكّد ليس مستعدا للموت في الوقت الحالي.

 جائت محطة چاك فقطعت حديثنا. وقام ليغادر الترام فتأكدت من صحة تخميني فيما يخص طوله. تسربت الوحشة إليّ حتى قبل أن يُفتح باب العربة ويخرج. ووددت لو أحتفظ بهذا الونس لنهاية اليوم أو ربما لنهاية الرحلة. لا أعرف هل راوده نفس الشعور أم أنه قرأ أفكاري، لأنه قبل أن يغادر منحني رقم هاتفه وعنوانه مدونان على بطاقة أخرجها من جيبه، لم يكن معي بطاقة تعريف مماثلة لأعطيه إياها، فكتبت رقم هاتفي على رأس الجريدة التي طبقها ووضعها تحت إبطه وهو يلوّح خارجا من العربة مؤكدا أنه ينتظر اتصالا منّي.

 بعد چاك أكمل القطار طريقه وحملني ضائعة رغم الخريطة في يدي، أفكر في سؤاله الذي أعطيته إجابة مائعة، ما الذي أتى بي وحدي لإسطنبول؟، أجبته بأن الحياة لا تتوقف على شخص، وأن من ينتظر الصحبة سينتظر إلى الأبد. وضع الغليون في فمه وهز رأسه كرجل إنجليزي حقيقي. أحسست لحظتها أنني وُفّقت في الإجابة وأنه أصاب المعنى الذي أقصده. لكن مالا يعرفه چاك _ما أخفيته خلف تلك الإجابة_ أن هذه الرحلة كانت مُعدّة مسبقا لشخصين، كمفاجأة لعيد زواج لم يُكتب لنا الاحتفال به. اخترت إسطنبول لأنها المدينة التي تذوقنا فيها العسل في أيامه الأولى، وكنت أخطط لاستعادة مذاقه بعد أن اختفت الحلاوة ولم يبق سوى الشرقة في الحلق. تواصلت مع شركة السياحة، وأعددت كل شيء، ولم أكن أعرف أنه هو الآخر يعد لي مفاجأة مضادة.

بهذه السهولة استدرجني سؤاله لاستعادة هزائم _اهرب منها_ بإمكانها إفساد آخر أيام الرحلة. لم أكن لأسمح بذلك. ودّعت رأسي المزدحم بهذه الأفكار في الترام الذي غادره چاك في المحطة السابقة وغادرت في المحطة التي تليها.

نفدت وحدات الإنترنت من هاتفي ولم يبقى في الرصيد سوى دقائق معدودة احتفظت بها لحالات الطوارئ. مسترشدة بالخريطة درت في أسواق المدينة بحثا عن هدايا في يومي الأخير. وضبطت نفسي أختار هدية لرفيق الرحلة الغائب، فتركتها في الحال بارتباك، وكأنني اكتشفت لحظتها أنني بعد لا أصدق ما حدث. كنت أدور حول نفسي كمن جائته الضربة غدرا. ورأيت نفسي منذ أيام تسعة، أجلس على مقعد صالة المطار، بجواري حقيبة وفي يدي جواز السفر، وفي قلبي مرارة غدر تلهيت برحلتي عنه. ثم عاودني الشعور حين تركتني الخريطة التي لا أملك في غربتي ونيسا سواها. فانتابني الضياع في مدينة شاسعة وحدي بلا رفيق وبلا إنترنت وبلا خريطة وبلا چاك.

 على مقعد رخامي مواجه لباب السوق بدأت تمرينات العدّ؛ أحصيت فناجين القهوة التي شربتها، وقطع البقلاوة، وبائعي السميط وقباب المساجد وأعداد طيور النورس على بحر مرمرة، وكل ما تشتهر به المدينة لتأسر زائريها. عشر أيام لم أحدث فيها شخصا قبل چاك فليس من السهل العثور على لغة للتواصل هنا، حتى ثقل لساني وكدت أنسى الكلام، ثم ظهر چاك بإجادته للإنجليزية، وبحكاياته المسلية، وأنا الغشيمة تركته لأتتبع خطى رحلة سابقة.

في لحظة الضياع هذه أخرجت البطاقة واتصلت بچاك. لم يخذلني، في دقائق كان واقفا أمامي في لقائنا الثاني. وبدا أن العشرين عاما التي تفصل بيننا قد انقسمت على نفسها. عشرة اختبأت خلف ظهره، فبدا أصغر من عمره الحقيقي، خاصة بعد أن تخفف من الصديري والچاكيت وملحقات اللورد الإنجليزي الذي كانه منذ ساعات، لتتحول هيئته  إلى ممثل أمريكي أربعيني. والعشرة الثانية وقفت إلى جواري فظهرت أكبر من عمري بعد أن توقفت في جولتي عند متجر لمستحضرات التجميل _لاتخلص من بعض الارتباك الذي أصابني_ فجرّبت البائعة على وجهي كل الأصناف. رتوش بسيطة تغيرت في هيئة كل منا أفقدت أوراقنا الرسمية مصداقيتها وقرّبت المسافة.

بتجاهل مسألة الأعمار، أفادتنا لعبة التخمين ليتعرف كل منا على مهنة الآخر. كان چاك واثقا من إجابته حين قال أنني أعمل بالأرقام، وخمنت أنه فنان تشكيلي. كلانا أقترب من الحقيقة، فأنا أعمل في بنك، وهو _ كما تقول المفاجأة_ مصمم حُليّ يعمل في الألماس. فسر لي هذا حضوره السريع للساحة بعد اتصالي به، إذ أن السوق الذي نقف أمامه يكتظ بدكاكين الحلي، تتجاور الثمينة منها مع الرخيصة، فيما يشبه حيّ الصاغة في مدينتي لكنه أكثر نظاما، ومن الطبيعي أن يكون مقر عمله قريب منه.

يشيعون أنني سيئة الظن، وأقول أنا إن بعض الحذر ضروري. في عقلي اتهمت الرجل بأنه يصيد من الترام زبائن لمتجره. ثم استبعدت الفكرة سريعا، فلم أكن في مزاج يسمح بمسايرة سوء الظن، وببعض المنطق ركاب الترام -ولو كانوا من السُيّاح-ليسو من زبائن بضاعته بالتأكيد.

حين قررت الاتصال به لم أكن أعرف الخطوة التالية، حتى دعاني لزيارة مكتبه، عندها انقسمت رأسي لفريقين؛ فريق المحافظين الذي سيقتل القصة في الساحة المقابلة للسوق القديم بدعوى الدفاع عن القيم، وفريق المغامرين الذي يهتف من المقاعد الخلفية لقاعات السينما للبطل بأن يُقبّل البطلة. وحيث أن موعد طائرتي مازال بعيدا، انحزت للمغامرين دون أن أجاريهم، فلن أنهي رحلتي بقبلة في شارع خلفي مبلط بالبازلت وكأنها فيلم قديم.

على مقربة من السوق ومن شريط الترام أشار للبناية، فتحطمت الصورة الفخمة التي رسمها عقلي لرجل يعمل في الألماس. دخلنا بناية تقليدية تشبه بلوكات الإسكان الشعبي، صعدنا الدرج للطابق الأول، فتح بابا من بين ستة أبواب متتطابقة. المكان يشبه مكاتب المحامين التي تظهر في الأفلام مع اختلافات بسيطة تخص المساحة، غرفة استقبال صغيرة جدا لا تتسع لسكرتير، ثم غرفة المكتب الأساسية التي تحوي مكتبه وصالونا متواضعا ومكتبة صغيرة، تغطي حوائطها أوراق كالشهادات، معلقة في براويز صغيرة، تشبه ورقة الضمان التي حصلت عليها مع فص يزن نصف القيراط يرصع خاتم زواجي وسمعت صوت أمي متهكمة تقول “يا خايبة الذهب قيمته فيه”.

 في هذه الغرفة أعد لنا چاك قهوة بلا حليب وهي ليست قهوة تركية بل أكياس سريعة التحضير، تفرغها في الكوب وتصب الماء الساخن فوقها وانتهى الأمر، رائحة القهوة دون مذاقها، تماما كسنوات زواجي الأخيرة، لا حليب ولا سكر. فالرجل الذي يعمل في الألماس يعيش في تقشف يناقض فخامة الأحجار التي يرصع بها تصميماته.

لم ألحظ عند دخول الغرفة البيانو الصغير في الركن بجوار المكتبة، لأن چاك قد غطاه بمفرش مطرز بالورود كما تغطي امهاتنا في البيوت أطقم الصالون. قام في حركة فزعه كمن نسي شيئا وذهب لإحضاره، وتابعته بترقب وهو ينزع المفرش كساحر في سيرك ينزع المنديل عن مفاجأة. ربما أراد إضفاء لمسة رومانتيكية على اللقاء. جلس على كرسي صغير وبدأ في العزف مندمجا بانفعال كموسيقي متمرس. وحين انتهى من لحنه رفع رأسه وسألني عن مقطع أرغب في سماعه. بالطبع فكرت في أم كلثوم وهي تصدح بكبرياء “أنا لن أعود إليك” لكن بالإضافة لأن چاك لا يعرف لها لحنا، فالبيانو ليس الآلة المناسبة لألحانها. اقترحت أغنيات أجنبية حديثة نوعا، لكن فارق العمر الذي تحايلنا عليه بتغيير مظهرنا انكشف أمام اختبارالتفضيلات الموسيقية، فلم نعثر على لحن واحد يعرفه كلانا. فعدنا لشرب القهوة، وعاد چاك لحكاياته. ولم تكن هذه المرة مسلية.

 تحسست جرحي حين حكى عن طلاقه الذي مرّ عليه عشر سنوات، كأن كلمة الطلاق قذيفة ألقيت في غير موضعها، نيران صديقة، ذكرتني بما أتجاهله. هل نقول مصادفة أن يكون عمر طلاقه هو عمر زواجي الموشك على الانتهاء “بناء على طلب أحد أطراف العقد”، هذه هي الجملة التي قالها شريك رحلتي الغائب، أن أي شركة لا يمكنها الاستمرار دون رغبة أحد الشركاء. قالها بالطريقة ذاتها التي يخاطب بها العملاء، فلم أتبين وقتها إن كنت أحدّث زوجي أم مدير الشؤون القانونية بالبنك. اندهشت من فضولي وأنا أسأله: “من منكما الذي طلب الطلاق؟”، وعرفت في إجابته أمورا أخرى مشتركة بيننا، فأنا وچاك لسنا من الطائفة التي تفسخ العقود. واستمرارا في الجرأة المصاحبة للفضول سألته: “هل كان الأمر مؤلما؟”، فاستعار كلمتي في الترام “أن الحياة لا تتوقف على شخص” ووجدتني أهز رأسي مثلما فعل هو في القطار وقد حلت سيجارة رفيعة على شفتي محل غليونه.

شكا چاك من ابنته وتخبطها في اختيار مجال دراستها ورغبتها في تغييره بعد عامين من الدراسة. فرأيت صورة أبي وهو يقنعني بكلية السياسة والاقتصاد بدلا من الفنون وتبدل چاك لحظتها لأب تقليدي يمكن أن تقابله في أي زمان وأي مكان وقد صادفت النسخة الإسطنبولية من هذا الأب. وحين حكي عن مكتبه هذا الذي يتوجب عليه مغادرته خلال أسابيع وبحثه عن بديل له نفس مزيا غرفته المطلة على سوق قديم، تذكرت كل الصناع المرحّلين عن أسواقهم، والقروض التي يتعثرون في سداد أقساطها، والمدن الكبيرة التي تلتهمنا بلا رحمة.

 لمعت عينيه وهو يقول أنه سيحضر لي شيئا من بلادي، بابتسامة ساخرة ظننت أنه سيحضر تمثالا فرعونيا، لكنه وقف أمام المكتبة قليلا مرّ بسبابته على صفّ الكتب،  أخرج واحدا وناوله لي. لا أعرف كيف اجتمعت كل هذه المفاجآت في يوم واحد، فمؤلفة الكتاب من مدينتي بل وتحمل نفس اسمي “ماجدة”. أخبرني إنها صديقته، وأنه قابلها في الترام أثناء رحلتها السياحية،  وأنها توقفت منذ فترة عن مراسلته. وبحسرة الباكي على الأطلال سأل إن كان بإمكاني العثور عليها وإحياء الوصل بينهما. فسر لي هذا نطقه السليم لاسمي، وعرفت سبب إلحاحه في دعوتي لزيارته. تحججت بأن القاهرة مدينة كبيرة، ولم أسأله إن كانت صاحبته تشبهني، ولم أخبره إنها عميلة في البنك الذي أعمل به، فمن سيصدقني أن قلت هذا، كما أنني  أعرف أنها لا تناسب چاك، صحيح أنها في مثل عمره ولكنها لا تشبهه، ربما يبكي كلاهما على ميراث أجداده الذي ضيعه تغيير الأنظمة السياسية الحاكمة، ولكنها امرأة أرستقراطية من عائلة إقطاعية عريقة، ولن تناسبها حياته المتقشفة، وربما يكون لهذا سبب في انسحابها من صداقتهما.

تركت چاك قبل أن يغادر آخر ترام عندما لم يبق على موعد الطائرتي سوى ما يكفي لأن أحزم الحقائب. على المحطة لوّح لي مرة أخرى على وعد بالتواصل. وبآداء مراهق يودّع حبيبته الصغيرة طلب أن أطمأنه فور وصولي، وحافظ لأسابيع بعدها على إرسال تحياته في الصباح والمساء متبوعة بصور لفناجين قهوة وزهور كالتي يتبادلها كبار السن فيما بينهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي. حتى أنشغلت بإجراءات الطلاق عن مبادلته الرسائل فتوقف عن مراسلتي. لكنني أراه باقيا في الترام بقبعته والجريدة، يصادق الغرباء ويشاركهم حكاياته الملفقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية وقاصّة مصرية

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون