“مقامات عربية”.. ما فعله السرابُ بالظلال وما فعلته المرايا بسلاطين النسيان !

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

من النادر أن تجد رواية تجمع بين متعة الفكر ومتعة الفن ، حلاوة الصنعة وبهجة الحكى ، بساطة السرد وعُمق المعنى مثل رواية "مقامات عربية " ل "محمد ناجى" . لا أتذكر أيضاً أننى قرأتُ تحليلاً ساحراً ساخراً للعبة السُلطة والسلطان فى العالم العربى مثلما كتبها "ناجى" فى روايته مُستلهماً مزيجاً فريداً من عالم ألف ليلة وليلة ، وروح فن المقامة لا شكلها ، وسلاسة السرد فى حوليّات المؤرخين الكبار مثل "ابن إياس" و"الجبرتى" ، لا بل إنه يستخدم طرق الحكى الشفاهية ، ومفردات الفلكلور والأغانى الشعبية مضافا اليها سخرية لاذعة  تجعلك لا تعرف بعدها هل تضحك على الإنسان أم تبكى عليه ؟ .

كان يمكن أن تكون “مقامات عربية ” مجرد هجائية ساخرة مُدهشة لفوضى الحكم والعلاقة مع المحكومين ، نستعيد من خلالها عصراً أقرب الى زمن المماليك حيث شعار :”الحُكم لمن غلبْ ” ، وحيث السلاطين ينافسون الشعب فى العدد ، وحيث يُولّى الحاكم ليلاً ويُعزل فى الصباح فيطلق عليه المصريون لقباً ساخراً هو “سلطان ليلة ” ، كان يمكن أن يكتفى “ناجى” بالقول من خلال هذه الملهاة أن شيئا فى حياتنا لم يتغيّر ، واننا ما زلنا نُحكم على الطريقة المملوكية حيث الصراع فى القصر / القلعة ، والزفة فى الشارع مع الشعب الذى يتفرج وكأنّ الأمر لا يعنيه ، ولكن ما يجعل من “مقامات عربية ” عملاً عظيماً وعالمياً بحق أن مؤلف الرواية لم يقنع بجانب الملهاة ، لقد قرر أن يضع الصراع على السلطة فى إطار إنسانى أشمل هو صراع الإنسان ضد الزمن ، وصراع الإنسان فى مواجهة نفسه ، وصراعه للبحث عن المُطْلق ، وكلها أفكار فلسفية تمنح الرواية مذاقا انسانياَ عاماً وليس عربيا فقط . “مقامات عربية ” تحوّلت بذلك الى ما يشبه الأصوات المزدوجة الصادرة من “عمود المنادى ” فى الرواية : تبكى ثم تضحك ، تضحك ثم تبكى ، تبدأ الرواية بما يشبه الهزار : ” لمّا لحس الجربْ شعر سعد ابن ارنبة ، غطى قرعته بطرحة ، وكحّل عينيه وخلع نعليه ، وعمل شيخ عرب ، ولكى يقنع الناس بوضعه الجديد ، نفخ صدره وملأ شدقيه بالهواء ، فكان إذا تكلم بعبع ، فلا نفهم نصف كلامه .” فجأة تحول هذا الأحمق الى شيخ حارة ، ثم أصبحت الحارة مدينة ، ثم تحولت الى سلطنة ، انتقل سعد ( باختيار الناس ) من أضحوكة الى مؤسس أسرة حاكمة تشبه عصر سلاطين المماليك فى مصر والشام ، وبعد أن كان السلاطين يخافون من ظلالهم سيتحوّلون هم أيضا الى ظلال ، وسنرى حكاياتهم الساخرة على شاشة خيال الظل . تدريجياً تحولت اللعبة الى جد ، ومن خلال “العقرب الكبير” توضع قواعد حتى يحتفظ السلطان بمنصبه الى الأبد ، يسود منطق البيضة والحجر والعصا والجزرة والسرقة والتعكيم ، والرشوة و “البرطلة” ، والذبح والنحر فى سبيل الكرسى ، يبدأ ناجى “السارد الماكر” والسلطان هو الذى يلعب بالسلطة ، ثم نكتشف أن السلطة هى التى تلعب بالسلاطين ، ويكون الإكتشاف الأهم والأعمق فى السطور الأخيرة إذ أن مرايا الزمن هى التى ستلعب بالجميع . أبطال الحكاية ماهم إلا تروس فى آلة الزمن التى تستهلك السلاطين كما تستهلك البشر ، والتى تجعلهم جسداً واحداً متعدد الرؤوس ، او كأنهم بقايا صور فى مرايا متكسرة ، يذهب السلاطين الى خافية النسيان الى أن  يكتب “ناجى” حكايتهم ، فتعود التروس الى الدوران وتبقى الذاكرة ، ونستعيد أصل اللعبة : الزمن يلعب بالسلاطين ، والسلاطين يلعبون بالسلطة ، والسلطة تلعب بالناس ، والناس بقايا عابرة فوق الماء أو ظلال وأشباح فوق شاشة الزمن ، يستعيد الزمن / الساعة الزمام من اللاعبين بعد أن يطلق الحكم صافرته ، وهكذا تنتهى الملهاة بما يشبه المأساة ، وتنتهى اللعبة بالجد ، وتنتهى القدرة بالعجز ، وتبقى كلمات الرواية الأخيرة تذكرنا بالدائرة الأكبر ، الزمن هو الذى يعيشنا ولسنا نحن الذى نعيشه : ” وهذه الساعة ( التاريخ / ذاكرة الأيام والبشر)  باقيةٌ من عجائبنا الى اليوم ، ومكتوب تحتها : “هذه ساعة الزمان ، فيها خطوط سير الأولين والآخرين ، وكما كان يكون ” . كأن اللعبة ستكرّر نفسها ولكن بلاعبين آخرين وفى ظروف أخرى ، وكأن “التاريخ مقدمات متتالية لمقدمات متوالية ” كما كتب “ظلّ الفار ” فى أوراقه ، وكأن الدائرة تعود لتنفتح من جديد بلا توقف ، وبدون نهاية .مقامات عربية

موضع الملهاة فى “مقامات عربية ” واضح لدرجة أنك يمكن أن تسقط من الضحك كون أن البشر يتعاركون على مقعد ، وكون أن المنطق التقليدى ينتهى بنا الى ما يشبه العبث ( أشخاص يهربون من خيالهم ثم يعشقونها ثم يتحوّلون هم الى ظلال ، وبشرٌ يتلاعبون بالألفاظ حتى يُصبحوا أسرى لهم ، وتجسيم كامل لكل الأفكار فالمنافق له لسانان بالفعل أو اسمه النصّ نصّ ، والمعارضة تتخرج من مدرسة ” لا ” ، أما السلاطين فهم أغبى خلق الله وكأن الغباء شرطٌ للسلطنة ، بل إن مؤسسى السلطنة يتكلمون فلا نفهم منهم شيئاً ) ، ولكن موضع المأساة هو الذى يحتاج الى توضيح أكثر ، وهو أيضا الذى يمنح الرواية مسحة فلسفية عميقة . تبدو المشكلة فى إيمان الإنسان “محدود القُدرة” بأفكار “مُطلقة” غير محدودة ومن الصعب الإمساك بها تماماً كالسراب ، من هذه الأفكار مثلاً : القوة والمجد والشرف والجمال والخلود ، الإنسان يبحث عن السلطة فى إطار بحثه عن “المُطلقْ” وهو بحث خاسر ومعروف النتيجة ، فى “تسابيح النسيان ” هناك لوحة كاملة بعنوان ” أباطرة النسيان ” يتحدث فيها “ناجى” عن فكرة الشرف والمجد التى تستحوذ على عقل ملكين أحدهما مسلم ، والآخر مسيحى ، وفى عصرين مختلفين ، وكأن الفكرة موجودة مسبقا ولكنها تبحث عن موضوع وتفاصيل . القراءة الأكثر عُمقاً لرواية “مقامات عربية ” لا تضع الإنسان فى مقابل السلطة ولكنها تضعه فى مقابل السراب لأنه يتعلق “بالأمر المُطلق ” بما يذكرنا برباعية “صلاح جاهين” البديعة عن الإنسان الذى اغتوى بالأمر المُحال ، ومع ذلك لا يعنيه سوى الإرتواء رغم معرفته بالفشل المسبق لعدم توازن الطرفين . بسبب هذا المغزى الإنسانى تظهر فى الرواية شخصيات هامة ومحورية تتوه فى رحلة “الإغتواء بالمُطلق” ، وهذه الشخصيات موجودة فى كثير من روايات “ناجى ” ، خذ مثلاً “العقرب الكبير” عاشق السلطة والقوة وفيلسوفها  ، انظر كيف ينتهى الى الذهول عن نفسه فلا يعرف مكانه من القصر الواسع ، يهزمه الزمن بالضربة القاضية فتبدو وصاياه مضحكة وبلا معنى خاصة عندما ينجرف وريثه “العقرب الصغير” الى مُطلق آخر وهو “الجمال” حيث يتعلّق قلبه بالجميلة القادمة من وراء النهر “نهريّة ” ، ينتهى “العقرب الصغير ” ميتاً فى حُفرة يسأل كل من يطعمه : “من أنا ؟ ” . نموذج ثالث هام فى البحث عن المطلق بلا جدوى هو “ظلّ التراب ” الذى يضيّع عمره فى البحث عن الذهب “الأصفر الخالد ” وسط الرمال دون أن يصل الى شئ ، يعيش ساعات فى دور السلطان ثم تلتهمه الذئاب فلا يبقى من جسده سوى “الأصفر الخالد ” / لون الموت . نموذج رابع من نفس المقام / مقام البحث عن المطلق ، “ظل الماء” الهارب من الصراع والعبث للبحث عن معنى عائشاً بين الماءالمالح والماء العذب ومبشراً بالرحمة ، نموذج خامس تمثله “ظل النسيم ” زوجة “العقرب الصغير ” التى تبدأ بالغيرة من “نهريّة ” ثم تنتهى بالوقوع فى نور جمالها ، ربما وجدت فيها الجمال الغارب الذى رأته فى مرآتها ، نظرت إليها فأبصرت نفسها التى كانت ، اغتوت بالأمر المحال وقبلت أن ترتوى به حتى لو كان الثمن أن تموت بسهم واحد يجمعها بالجمال .

تستطيع القول أنّ الذى هزم الإنسان فى “مقامات عربية ” هو المرايا / مواجهة النفس ، والسراب / التعلّق بالمُطلق مع ضعف القُدرة ، ولذلك لن يتوقف السلطان “الكافورى ” عن التساؤل ، ولذلك سيطلق على مقبرته “دار الإنتظار ” ، وتتجسّم الهزيمة عندما يقوم الأمراء الأربعون الذين يتناوبون حكم السلطنة بالتلاعب بالزمن وبالساعة فيتلاعب الزمن بهم جميعاً ، ولا يبقى من اللاعبين فى النهاية إلا “زمبلك الزمان” القادم من الناس الى القصر ، ومعه ظلّ النار، وظلّ الماء ، ورهطٌ من الناس يفتحون الكتاب محاولين اكتشاف المعانى المُطلقة وأسئلة الوجود ، ولكن يظل أهم ما ينتهى إليه “زمبلك الزمان” أن هناك أعمدة أساسية لبناء قصر/ وطن جديد . هى أشبه ما تكون بعُملة واحدة لها ثلاثة أوجه : العدل والرحمة والحق ، الحق هو العدل ، والعدل هو الرحمة ، والرحمة هى عين العدل ، والعدل هو عين الحق . لن يتم بناء هذا القصر الجديد حيث سيستمر الصراع للحصول على مفتاح الأموال المدفونة فى صندوق . تظلّ مشكلة الإنسان فى نقاط ضعفه ، فى داخله وليست فى خارجه ، ولذلك ستتواصل اللعبة فى أزمان أخرى بطرق واساليب مختلفة .

فى روايتنا الفريدة كل سمات عالم “ناجى” كما فصّلناها فى مقالات سابقة : ذاكرة الرواية فى السارد العليم الذى يسجل مارآه ، ولكنها أيضا فى “العقرب الكبير” الذى يمثّل “ذاكرة الإستبداد العربية” ، وفى “ظل الفار” الذى يكتب أوراقا تلخّص معنى التاريخ وطريقة عمله : ” يُجازى الخلف بأعمال السلف ، فأعمالهم أسباب لصلاح من يأتى بعدهم ، أو لهلاكهم ” . ” المعانى المستقرة هى وقفات .. لانهايات ” . الذاكرة هى أيضاً فى مسرحيّات خيال الظل التى تحكى ما حدث بطريقة ساخرة ، وتتجسد بشكل اوضح فى “سلامة ” خادم القصر الذى يتكلّم فتعود الذاكرة ، ويبلع لسانه فيبدأ النسيان ، ومن الأمور الدالة فى الرواية أن يتحول “سلامة ” شاهد المهزلة العبثية ولعبة الكراسى السلطانية الى صاحب “دار السراب ” حيث ذلك المشروب الذى ينقل الإنسان الى عالم آخر ينسى فيه عجزه ومأساته وتعلقه بما لايمكن امتلاكه ، وحيث يتجاور السلطان والحرافيش . فى روايتنا ( مثل كل روايات ناجى ) وجوه متعددة للأشياء وكأننا نُطلّ عليها من خلال مكعب شفاف ( رجال وظلال ، مرآة تُحطّم الوجوه الى أشلاء ، تراب وذهب ، سلطان فوق وسلطان تحت ، أبو النورو العتمة ، ثعالب وأرانب .. سلالم الصعود هى نفسها سلالم الهبوط … إلخ ) ، بل إن السلاطين يبدون كما لو كانواً جسداً واحداً له مائة وجه .

مثل كل روايات “ناجى” ، فإنّ البناء المركّب والمعانى والرموز الكثيفة تقابلها سلاسة مدهشة فى السرد ، هناك استفادة واعية من مصادر شتى وتوظيفها بطريق خلاّقة ومبدعة ، من عالم المقامة لم يأخذ “ناجى” الشكل الكلاسيكى التقليدى الذى يستلزم وجود راو و بطل يصاحبه الراوى فى مغامراته ، ولكنه أخذ مضمون الفكرة ، فالرواى العليم من شهود الحكايات ، والبطل هو “السلطان” مهما تغيّرت اسماؤه ، وهناك أجواء تآمر ونصْب واحتيال وسرقة مثلما يحدث فى المقامات ، ومن عالم “ألف ليلة وليلة ” ستجد هذا البناء الخيالى المتماسك بكل تفاصيله، وستجد أحياناً تقنية السارد الشفاهى للحكاية الشعبية الذى لا يكتفى بالسرد ولكنه يقوم بعمل المؤثر الصوتى لتجسيم الموقف للسامعين ( عو عو .. كوكو .. تك تك تك .. ) ، الرواية تشبه عالم “ألف ليلة وليلة ” أيضا فى أنها تتحدث عن لعبة السلطة والسلطان فى الشرق عموماً ولكن بنكهة مصرية ساخرة تعيدنا الى عصر المماليك حيث الإمتزاج بين الفصيح والعامى ، هناك أيضا استيحاء لفن الموال بالذات فى أغنيات “سلامة ” المعبرة  ( يا هل ترى / أبكى اللى راسه على الحديد محمولة / وللا اللى عينيه بالدموع مشغولة ) ، ( يا هل ترى / أنا كنت وللا ماكنت / وقلت وللا ما قلت / يا هل ترى .. ) ، وهناك استيحاء ساخر لأغنيات معاصرة ( سلامتك من الآه ، تقول لأ وأقول لأ وتقول قلوبنا آه .. ) ، واستيحاء للأمثلة والمأثورات الشعبية والألعاب الشعبية ( عسكر وحرامية وحصان للولد وعروسة للبنت .. ) ، وهناك أجزاء للمحاكاة الساخرة  تذكّرك بكتب النُحاة وعلماء اللغة فى جدلهم العقيم حول معانى الألفاظ ومدلولاتها ( ومن غرائب لغتنا أن يكون للكلمة المنطوقة معنى غيره وهى مكتوبة وكلاهما فصيح ، فقولك لأحدهم “ياناصح ” مع الغمز بالعين ، فيه من المعانى مالا تقرؤه العين فى الكتابة ) . مزيج فريد لا يتأتى سبكه بهذا الإتقان إلا لأحد “الأسطوات ” الكبار فى فن الحكى وفى صنعة الرواية ، “أسطى” جديرٌ بأجداده رواة وكتّاب “ألف ليلة وليلة ” .

” مقامات عربية ” هجائية بمذاق الرثاء للإنسان الباحث عن السراب والعائش وسط الظلال ، ملهاة بمذاق المأساة عن رحلة تبدأ بالهزار وتنتهى الى الجد ، عن حكيم ولص يتحوّل الى تمثال ورمز ، عن عمود يبكى ويضحك كلما همست فى أذنه الريح ، عن شاهد صامت يبيع السراب للشاربين ، عن قبّة بلا شيخ ، عن قصر تدقّ العناكب فيه أوتاد الحرير ، عن أسئلة تحتار فيها الإجابات ، عن “مالى” و “أنا مالى ” ، عن مرايا تحطّمنا وتدعونا للهلاك والتبدّد ، عن بشر كالظلال وظلال كالبشر تنمحى إذا أضاء الموت مفتاح النور ، عن رئيس الحراس الذى يقتُل سلطانه ليخلّصه من حيرة السؤال .

تضحك وتسعد من السخرية الذكية والتورية العذبة والقافية المصرية البديعة ، ولكن تبقى فى عقلك دوماً أنشودة عاشق لاتُنسى  : سلاماً يا دار الإنتظار / سجنُ العاشق فى الزمان / أيامُك أرديةٌ من حجر / ضيّقة الأطواق والأساور ، ويبقى سؤالٌ آخرٌعن احتراق الشمعة : هل هو موتٌ أو حياة ؟

الأرجح انه موتٌ بمذاق الحياة . 

          

مقالات من نفس القسم