المنجز الروائي للبشير الدامون.. تدفق السرد وإشراقة الأنثى

موقع الكتابة الثقافي default images
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خالد البقالي القاسمي

     يعد الروائي المغربي " البشير الدامون " اليوم من كبار الروائيين العرب الذين استطاعوا أن يثبتوا قدرتهم على خلق منتج سردي يتميز بالفنية والجمالية، ويتميز بخلق عوالم حكائية لصيقة بالوعي العام المرتبط بعمق الوجود الإنساني. يحرص المبدع على أن تكون كتابته تمتح من أبعاد إنسانية خالصة، لها أفق مفتوح على الهموم والآمال، والأحزان والأفراح التي تتفاعل داخل أوساط المجموعات البشرية المختلفة، وتسهم في بناء نسيج من العلاقات والتبادلات الدالة على الاختلاف والمغايرة في تصريف الأحلام.

المنجز الروائي للمبدع استوفى لحد الآن تراكما هاما من خمس روايات طويلة، كل رواية من الخمس تشكل عالمها الخاص المختلف، وفي نفس الوقت هناك علاقة أكيدة وارتباط ملموس بين هذه النصوص الخمسة على مستوى الخصائص العامة، وطريقة الكتابة، وتحريك الشخصيات، واللغة الموظفة، والأقواس المفتوحة عبر الخطاب الروائي المؤثر في مسار السرد الحكائي داخل النصوص. يمكننا أن ننظر إلى روايات المبدع الخمس انطلاقا من اقتراحنا لرؤية خاصة مبنية على تحديد مراحل الكتابة أو حقب الإبداع لدى الروائي العربي، حيث نستطيع التعامل مع الموضوع حسب توصيف كل رواية بالمرحلة أو الحقبة المناسبة لها على مستوى تميزها عن غيرها، وعلى مستوى قدرتها على الإقناع، وصناعة تاريخها، ونسج أفق انتظارها.

1- رواية ” سرير الأسرار “: مرحلة التأسيس       

     تعد رواية ” سرير الأسرار ” التي تم تصويرها فيلما سينمائيا من طرف المخرج المغربي ” الجيلالي فرحاتي ” أول نص إبداعي ينتجه ” البشير الدامون “، ويستطيع القارئ العربي أن يلمس نوعا من البريق والرجفة بمجرد النطق بهذا العنوان الآسر، فهو يثير لدى المهتم كثيرا من الاستيهامات التي تكون كامنة في دواخل النفس الإنسانية، ومن ثمة يفتح هذا العنوان العنان للفرد لكي يغوص في أحلامه الخاصة من خلال تماهيه مع السرير الروائي العجيب، إنه يفتح لدى الجميع أفقا خاصا للانتظار يتم وفقه تصور العالم السحري للسرير، وخاصة عندما يضاف إلى الأسرار بطريقة تختلف إيقاعاتها النفسية والحسية والجمالية حسب الثراء التخييلي الذي يتوفر عليه كل مهتم أو قارئ.

     نشرت هذه الرواية من طرف ” دار الآداب “، وهي بذلك تسجل أول إصدار للمبدع العربي معلنة أن الرواية تتوفر على جميع العناصر التي تقنع بنجاحها وقوتها، فكانت هذه الدار وهي تنشر هذه الرواية الأولى للمبدع تعلن ميلاد روائي عربي جديد بنص فاتن، قوي، مفتوح على شتى أنواع التحليل والرؤى الثاقبة. تكمن قوة هذا النص الجميل في حكايته المثيرة التي بنيت على تناقضات عدة ثابتة وراسخة في عمق المجتمع، تصريف تلك التناقضات هو الذي مكن الروائي العربي من إثبات قوته الإبداعية في كتابة الرواية.

     يستند النص في حكايته إلى سيدة تدير دارا للدعارة، بطريقة فيها قوة وحزم وهيمنة، فهي ليست لقمة سائغة يستطيع أي راغب في اقتناص المتعة السريعة ابتلاعها، بل هي واحدة من النساء القويات التي يسبق بطشهن وإقدامهن حلمهن وتعقلهن، فهي لم تكن تتواني عن اقتحام المعارك الجسدية مع استعمال شتى أنواع الأسلحة البيضاء عندما يقتضي الأمر ذلك، حتى أضحى أكثر الفتوات عتيا في الإجرام يهاب جانبها، ويخاف بطشها، ويصيبه الرعب من غضبها، والذي صنع الفنية في الرواية بطريقة آسرة هو أن صاحبة دار الدعارة القوية الجبارة تحمل بين حناياها قلبا طيبا رحيما متعطشا للأمومة، والاستقرار، وبناء الأسرة المتماسكة السعيدة، ومن أجل ذلك سوف تتبنى فتاة صغيرة، غضة، فتية، حالمة، هي التي نصبها المبدع بطلة رواية ” سرير الأسرار “، كانت تحبها بشغف، أكثر من نفسها، ومع توالي الأحداث، والويلات، والمشاكل في دار الدعارة سوف تقوم هذه السيدة بترك الفتاة في عهدة زوجين، عجوزين، طيبين لتربيتها ورعايتها تحت أعين الجبارة، المقتدرة التي كانت تحرسها، وترعاها من بعيد أكثر من رموش عينيها، خصوصا عندما بدأت معالم جمال الفتاة الفاتنة وأنوثتها تتفتح، وتثير خيال الجامحين، والجانحين، والمخبولين من المدمنين، والسكارى، والمتسكعين.

     لقد كانت صاحبة دار الدعارة هذه غير واعية بالضبط إلى ما تتطلع إليه، فحياتها كانت تسير وفق بنية ثابتة غير قابلة للتغيير، بل يبدو أن تلك البنية التي كانت تنتظم وفقها تظهر رغم سريتها، وعتمتها، وانهيارها أكثر انسجاما، ووضوحا من تطلعاتها، لقد كان عالم الجريمة، والدعارة هو أفضل إبداع لها وأحسن مجال، وهنا بالضبط داخل هذا العالم من اللانسجام، والقطيعة مع المعطيات الحقيقية لحياة مستقرة سوف ينجز ” البشير الدامون ” هذه الرواية التي لا يمكن وصفها بأقل من ” التحفة “، واستطاع بذلك أن يكتب نصا حيويا بصياغة جديدة أكثر تناغما، بمعنى تشييد الاستطيقا ضمن عالم مهزوز، متأرجح، متفكك، يفتقد إلى التوازن والثبات، وبذلك استطاعت هذه الرواية أن تحتل مكانتها بين روايات مصنفة كأجمل الروايات العربية.

     الساردة الأنثى، الشخصية البارزة في الرواية، تحكي أحداثها وتشارك في صنعها وتوجيهها، كانت تعيش داخل عالم الجريمة والسقوط وهي واعية بواقعها وقدرها، مدركة للرهانات التي تعيشها ضمن مجموعة من المجرمين العتاة، وبقدر ما كان العالم الذي تعيش فيه واسعا، ومنخورا، كان عالمها الخاص ضيقا، وحالما، وواعدا، ثم كان عالمها النفسي موسعا بقدر كبير، وهي بوعيها وتفكيرها الناضج حولت ذلك العالم إلى وحدة مضبوطة بقدر كبير، مما مكنها من التحكم فيه عبر تمرير اختياراتها التي عنت لها موافقة ومنسجمة مع تطلعاتها، لقد كانت تنظر إلى جميع الأحداث التي تعيشها بعيون مشرعة على الأسوأ دائما، مع تحويلها إلى وحدة مشتركة تمكنها من الإمساك بها، والسيطرة عليها وتحويلها لمصلحتها، رغم أنه ليست هناك دائما أشياء أساسية تجمع بينها، حيث دلالاتها مختلفة، لأنها مفتوحة على عوالم مشتتة ومتناثرة، وغير متناسقة، وشكلت هذه المعطيات عناصر مهمة ساهمت في تعميق وعي هذه الشخصية بواقعها مما أهلها للتخطيط بدقة وروية للخروج من أسره الفظيع، إنه عالم له قوانينه الخاصة، وعناصر جذبه المدمرة المتمثلة في مشاكله الداخلية التي لا تشبه غيرها، والذي يعايشها هو وحده يستطيع تمثلها، وتفهمها، ومن ثمة تجاوزها، وهو بالضبط ما أفلحت فيه الفتاة الصغيرة، الجميلة، الأنثى، ساردة رواية ” سرير الأسرار “.     

2- رواية ” أرض المدامع “: مرحلة التثبيت

     لقد سمينا الرواية الأولى مرحلة التأسيس، لأنها كانت نصا جديدا يعلن ميلاد روائي جديد، وهي بذلك استحقت وصفها ونعتها، الرواية الثانية ” أرض المدامع” نعتبرها تمثل مرحلة التثبيت لأنها تعلن خصوبة المبدع وقدرته على إنتاج نصوص أخرى جديدة، وعدم التوقف عند نص واحد، ثم إن هذه الرواية الثانية أثبتت قدرة المبدع على بسط مقومات حكيه والاستمرار في بناء استيطيقاه، وتعزيز صولته في تشغيل اللغة، والتخييل وفق أفق تاريخي مرهون بظروفه وشروطه.

     ” أرض المدامع ” رواية جديدة، واستمرار لرواية ” سرير الأسرار ” في نفس الآن، فهي رواية مستقلة وفي نفس الوقت تتمة لرواية التأسيس، ولا شيء يطعن في قوتها الروائية والإبداعية رغم كونها عبارة عن استمرارية لمسار حياة الأنثى الساردة في الرواية الأولى، لقد أصبحت هذه الأنثى فتاة ناضجة، تضج بالجمال والبهاء، واستطاعت بثبات وإصرار أن تدخل الجامعة، وتحصل على شهادتها، وتمكنت كذلك من إقناع الجميع بشخصيتها، واستقلاليتها، وضمن أحداث الرواية سوف تشارك في سرد كثير من الأحداث والوقائع مع شخصيات متعددة، مؤتلفة، ومتناقضة، هدفها مبنى على الرغبة في استخراج كنز مدفون تحت أرض المدينة، كان تاريخيا في ملكية ملك روماني من الذين كانوا يحتلون أرض شمال إفريقيا قديما يدعى ” بطليموس “، والنتيجة كانت جني الخسارة والندامة وموت الأحبة، والشيء الوحيد الذي تمت الاستفادة منه من طرف هذه الشخصيات الروائية الجشعة هو مجموعة من المدامع، التي هي عبارة عن أوان زجاجية كان الرومان يستعملونها لسكب الدموع فيها عند موت أو فقد أحبتهم، وما زالت هذه المدامع موجودة في المتاحف في شمال المملكة المغربية.

     إن الخطاب الروائي في هذا النص الثاني لا يتحدد ضمن الشكل أو الصورة، بل يتحدد ضمن مجموعة من القواعد التي استطاعت إنتاج خصوصيتها المرتبطة بالموضوعات التي أثيرت في الرواية، فالرواية لم يكتبها المبدع بطريقة السرد الخطي، بل كتبها وفق أسلوب من التحليل الذي كان يقتسم دوره مع خطاب الحكي والبناء، حيث كانت الرواية تثير موضوعة الكنز وما يحيط بها من ألغاز وأسرار، وفي نفس الوقت تحاول أن تدفع القارئ لتلمس نوع من النقاش والتساؤل حول شرعية وقبول خطاب الكنز والسحر والطلاسم، ثم إشراك شخصيات متعددة، ومختلفة، في تشكيل عالم الرواية، همهم الأساسي هو إبراز عقم التفكير، واضمحلال العقل أمام استسهال الإقبال على تتبع أسرار وآثار الكنوز عبر استخراجها من مدافنها المتوهمة، وهنا نستطيع القول بأن العلاقات الخطابية والموضوعات التي أثارتها الرواية توجد ليس داخل الخطاب، وليس خارجه، بل في الحقيقة عند حدوده، فهي ترفض قبول الموضوعات المتوهمة داخل بنية الخطاب العقلاني المتماسك، ولذلك ساهم الخطاب الروائي في تسمية الموضوع، وتصنيفه، ودراسته، وتفسيره، وتحليله، ومن ثمة تأويله وتقويمه.

3- رواية ” هديل سيدة حرة “: مرحلة الانفتاح

     لقد انفتح المبدع في هذه الرواية الجديدة على أفق جديد مغاير نوعا ما، ولو قليلا للأفق الموظف في كتابة الرواية الأولى والثانية. لقد شكلت رواية ” هديل سيدة حرة ” علامة على رسوخ قدم الكاتب، واستمراريته في كتابة النصوص الروائية، بمعنى يستمر المبدع في تدوين علامات الأنطولوجيا الخاصة به، فهو ما زال حاضرا ومستمرا في عالم الإبداع، بل وأكثر من ذلك، فهو بدأ يجترح عوالم جديدة في كتابة الرواية.

     شيد ” البشير الدامون ” هذه الرواية على خلفية تاريخية سادت في فترة معينة من تاريخ المغرب، ولا يعني هذا أن الكاتب يدون التاريخ، فالروائي حتما لا علاقة له بالتاريخ، إلا من حيث توظيف المادة، والأحداث، والوقائع، فهو ليس مؤرخا، إنه روائي يكتب الأدب، وينتج الفن والجمالية، ولكن توظيف التاريخ في كتابة الرواية عنده هو هندسة عالم روائي بأعمدة تاريخية يتم تحويلها تدريجيا لمادة حكائية تخييلية، بعد انتزاعها من تاريخها الغابر، ونقلها وبعثها من جديد ضمن اللحظة المعيشة، وتحويلها إلى مادة روائية منزوعة الإقناع والصولة بالتاريخ، مع إدماجها ضمن أفق الممكن، واقتلاعها من أفق الوثوقية، والدوغمائية، وتشذيبها من عناصر الكبرياء والاستعلاء، بعد كل هذا وغيره من الشروط تصبح المادة التاريخية قابلة للتحول عبر الذوبان داخل مسارب الحكي، والسرد، والتخييل، وتصبح المادة الحكائية التاريخية داخل الرواية الإبداعية فاقدة لوعيها بالتاريخ، وفي نفس الوقت تصبح راسخة ضمن عالم الوعي بالتخييل، والحكي، وصناعة الأحداث، ومصائر الشخصيات ضمن مسار جديد بعيد كل البعد عن مسار التاريخ بقوته، وجبروته، وهذا بالضبط ما أفلح ” البشير الدامون ” في صناعته ضمن روايته الرائعة جدا ” هديل سيدة حرة “.

     إن وضعية التاريخ ضمن الرواية عبارة عن تواجد بنيتين تنهلان من معين قيم مختلفة ومتنوعة، فالبنية الأولى وهي بنية التاريخ تتشكل من عناصر قديمة، مستهلكة، توقفت فاعليتها بمجرد تدوينها في كراسات التاريخ، فكأن خطابها خطاب أثري أخرس، لا يثبت جدواه وفاعليته إلا عندما نعود للذخائر الصامتة، القابعة في الفراغ لمحاورتها. والبنية الثانية وهي بنية الرواية حديثة عهد بالوجود، والانبثاق، والحياة، وما زالت تجربتها غضة، طرية، وهي مقبلة على صناعة وتشييد سمعتها حسب عناصر قوتها وصلابتها وإقناعها، وهي توظف تصورات وتقنيات جديدة. إن الدمج بين البنيتين هو ما أفلح فيه المبدع عندما تمكن فعليا من كتابة نص أعاد نوعا من الحياة، وأضفى بعض الاستمرارية، على أحداث طواها الزمن، وعلا مقوماتها الغبار والنسيان.

4- رواية ” حكاية مغربية “: مرحلة الالتزام

     بالإضافة إلى التأسيس والتثبيت والانفتاح، عاد ” البشير الدامون ” في رواية ” حكاية مغربية ” إلى كتابة نص أقل ما يوصف به هو أنه نص ملتزم، إنه نص عبارة عن رواية مبنية على التزام الكاتب بنوع من الأبعاد الواقعية في الكتابة، ليس بمعنى المحاكاة، بل بمعنى إثبات حالة. ومرة أخرى سوف يوظف المبدع ساردة أنثى لتوجيه الحكي والسرد، هذه الأنثى التي اعتبر البعض بأن الروائي كان قاسيا جدا عليها، نظرا للبناء التراجيدي المخيف الذي بنى على صرحه الكاتب روايته، لقد عانت الفتاة الساردة الشخصية، المشاركة في بناء الرواية من مجموعة من المآسي التي تخر لها الجبال وتنهد، ورغم ذلك وبعد محاولات مقلقة من حياة الساردة مع عصابات تهريب البشر، والمخدرات، استطاعت أن تعي واقعها ودورها، وأفلحت نوعا ما في تحديد مسارها رغم فقدانها لكثير من مقومات الشرف والفضيلة بالمعنى الروائي الإبداعي وليس بالمعنى الأخلاقي القيمي.

     إن حصيلة الشخصية الساردة في ” حكاية مغربية ” لم تستطع طيلة الرواية البرهنة على واقعيتها وجدواها، لقد كانت تلك الحصيلة منفلتة منها باستمرار، بل لم تستطع امتلاكها أبدا داخل زمن سردها لحكايتها، ومن ثمة لم يعد لها في ملكيتها الحقيقة والاعتبارية أي شيء مكسبا قارا ونهائيا، وما امتلكته خلال عملية الحكي، وبناء الرواية يمكن قبوله ولكن بدون دليل أو برهان، لقد كانت هذه الشخصية الأنثى الساردة المشاركة في صنع الأحداث تراهن طيلة الرواية على السراب، سراب ساهمت هي بدورها في تشكيله وصنعه، وأصبحت تصدق أطواره، بقبول منطقه بكل وثوقية مبطنة بنوع من الغباء، أو التسليم بالقدر والواقع، لقد حاولت بكل قوتها أن تبني عدة قضايا وممكنات متماسكة وغير متماسكة، وأن تحدد أوصافا وتمحيصات لطموحاتها ورغباتها، كلها كانت بدون أصل أو مصدر، لقد كانت كلها متباينة، ومشيدة ضمن واقع فكري ونظري بعيد عن العالم الإجرامي الذي كانت تحيا داخل أوساطه، فكان عالمها مفارقا لواقعها مما عجل بنكستها، وسقوطها، وانهيار آمالها.

5- رواية ” زهرة الجبال الصماء “: مرحلة الاختمار   

     عند التركيز بعمق واهتمام على رواية ” زهرة الجبال الصماء ” يتأكد جيدا لمتتبع المنجز الروائي للبشير الدامون بأن هذا المبدع وصل إلى ذروة النضج الروائي من خلال هذا النص الأخير، لقد استطاع الكاتب أن يلم بدقة بأسرار الكتابة الروائية، وأن ينغمس في مساربها، وسراديبها، وممكناتها، لقد سطر هذا النص بواسطة سرد متدفق موجه نحو بناء عالم من الشخصيات والأحداث، كل عنصر من عناصر الرواية يبدو متجذرا في زاويته التي خططها له المبدع ببراعة، وخبرة، وإدراك، ممكنات الرواية لا تحتمل العبث أو اللهو، فبعد كتابتها أضحت سندا لمقابلاتها، ورديفا لمثيلاتها، وأي عبث بواحدة منها سوف يؤدي إلى تهاوي البنيان، وانهياره، ولذلك كانت حلة هذه الرواية أكثر سموا ورقيا، وأكثر تماسكا في مجال الكتابة السردية الروائية في تجربة المبدع ” البشير الدامون “.

     لقد كان انتباه الروائي مركزا على إيلاء شخصيات روايته العناية الضرورية عبر تحريكها وفق نظام الخطاب الذي عمل على تمريره بواسطة العلاقات، والصراعات، والكلمات، والحوارات التي جمعت بين الأضداد في المتن الحكائي، ثم إن وعيه كان مكتملا بمصائر شخصياته هاته، حيث خصص لكل شخصية حيزا مميزا يتوفر على أصالة، وعلى استقلالية، وفي نفس الوقت يتقاطع مع أحياز الشخصيات الأخرى لكي يساهم الجميع في صنع الأحداث، وتوجيه المصائر نحو ضرورتها وحتميتها، إن هذا الانتباه وهذا الوعي هما اللذان مكنا المبدع من بسط ناظريه جيدا لإبداع، وخلق موضوعات جديدة تسهم في تعميق الرؤى، وتحديث التصورات ضمن ألمعية أدبية، وبريق نفسي واضح للمتأمل المهتم.

     إن السرد المتدفق الذي نحت به ” البشير الدامون ” روايته هاته مسكوك في حكي منظور في شكل مشهد أومشاهد يمكن توطينها ضمن لوحة أو لوحات، كما يمكن السفر بها ضمن رؤية مشهدية سينمائية، إذ هي مسعفة في مجال السينما لأن المبدع يكتب كذلك السيناريو، فيصبح من الواضح والبدهي أن تؤثر هذه الكتابة في إبداعه للرواية، حيث تظل جميع كتاباته مسكونة بهاجس الفن السابع باستمرار، وعلى هذا المنوال تصبح شخصيات الرواية عبارة عن موضوعات مكتوبة أو مرسومة أو منحوتة، إن هذه العناصر في مجموعها هي التي اسعفت المبدع في كتابة نص جميل مقدم في ما يمكن أن نصطلح عليه بالوجود الكامل.

    تطوان في 07 ماي 2018            

                                                       

   

مقالات من نفس القسم