معضلة “قلب الظلام”.. هل رواية كونراد نقد للكولونيالية أم مثال عنها؟

قلب الظلام
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ديفيد دينبي

ترجمة: أزدشير سليمان

“من منكم جاء من عرق بربري”؟ صاح البروفيسور جيمس شابيرو مخاطباً طلبته.

“كلنا جئنا من أفريقيا” قال الطالب الأمريكي ذو الأصول الأفريقية في الدورة الدراسية، وهو من سأدعوه هنري، مشيراً بهدوء إلى الافتراض السائد بين معظم الأنثروبولوجيين أن الحياة البشرية نشأت في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. كان هنري يقول إنه ما من تراتبية عرقية بين الناس – أي أننا جميعاً “برابرة”.

ابتسم شابيرو. لم يبد أن هذا الجواب هو ما كان يبحث عنه بالضبط، لكنه كان جواباً جيداً. حاول مرة أخرى. “هل أنت طبيعية”؟ زمجر في وجه طالبة تجلس على طاولة في مؤخرة حلقته الدراسية .ما هي القيود التي تكبلكِ؟ ما الذي يسّمركِ؟ هل تحاولين التمدن بجلوسك هنا لقراءة الآداب الإنسانية؟

كانت تلك نهاية السنة الدراسية. كان المزاج العام مضطرباً، كثيفاً ومثقلاً بالاحتمالات. باختصار، كنا نقرأ جوزيف كونراد، الكاتب الأخير في دورة جامعة كولومبيا للآداب الإنسانية، واحدة من دورتي الكتب المشهورة “العظيمة” التي لطالما كان طلاب كولومبيا المقبلين على التخرج  مُطالبين بها. كلا الدورتين، الآداب الإنسانية والدورة الأخرى، الحضارة المعاصرة ، كانتا مكرستين لأكثر أشكال السرد سخرية في الثقافة الغربية. كانت لائحة الكلاسيكيات في دورة الآداب الإنسانية تبدأ بهوميروس وتنتهي وفق التسلسل الزمني بفرجينيا وولف. كنت قد أنهيتُ السنة بقراءة الكتب ذاتها جالساً في أحد صفوف الآداب الإنسانية، التي كانت تُدّرس كلياً من خلال المقاطع، إذ لم يكن هناك محاضرات. كان يُخصص للمعلمين الأفراد في نهاية العام أسبوع من أجل الاختيار الحر. بعض المعلمين كان يختار العمل مع نصوص دوستويفسكي أو مان ، أندريه جيد أو بورخيس. شابيرو ،المختص بشكسبير من قسم اللغة الإنكليزية والأدب المقارن (كتابه شكسبير واليهود ستنشره مطبوعات جامعة كولومبيا في كانون الثاني) اختار كونراد.

 كانت المصطلحات البلاغية لإسئلة شابيرو –الوحشية، الحضارة، القيود، التسمير-  مُستقاة من “قلب الظلام” رواية كونراد الصغيرة العظيمة عن النهب الكولونيالي، والطلاب الذي كان معظمهم طلاباً جدداً أصابهم المس. لم تفقد رواية كونراد “المألوفة لأجيال من القراء” بعد مئة سنة شيئاً من قدرتها على الإدهاش وإثارة الروع : تبقى في العديد جوانبها نقطة انطلاق أساسية لمناقشة الحداثة، الإمبريالية، نفاق الغرب وأمجاده وأوجه الغموض في “الحضارة”. أخضعها عشرات النقاد لمختلف التأويلات الرمزية والميثيولوجية  والنفسية. اقتبس ت.س. اليوت سطراً منها كمقدمة لقصيدته “الرجال الجوف”، فوكنر وهمنغواي تأثرا بها بشدة، كما هو الحال بالنسبة لأورسون ويلز وفرانسيس فورد كوبولا الذي استخدمها كخلفية لملحمته القاتمة عن الأمريكيين في فيتنام “القيامة الآن”.

على أي حال وقع كونراد ولا سيما “قلب الظلام” في السنوات الأخيرة في شرك الارتياب الأكاديمي بينما أصبح الكتاب “موقعاً للنزاعات” في الرطانة الغريبة للسكان الأصليين. مع ذلك قدم كونراد رؤية القرن التاسع عشر الأوروبية  للأفارقة بوصفهم همجاً. هاجم الامبريالية البلجيكية في الوقت الذي بدا فيه أنه يمجّد نظيرتها الإنكليزية. في عام 1975 هاجم الروائي والكاتب النيجيري المرموق شينوا أشيبي “قلب الظلام” لعنصريتها، ودعا إلى حذفها من قائمة الكلاسيكيات الغربية. إدوارد سعيد، أحد أشهر النقاد والباحثين في كولومبيا اليوم أبرز عداءه لها مؤخراً وأثار عدداً من الأسئلة التي تنال منها.  ادوارد سعيد ليس محطِماً لقائمة الكلاسيكيات بالتأكيد. لكن إن كان كونراد فاقداً للمصداقية ، فمن الصعوبة بمكان أن نتخيل تحدياً أكثر نجاحاً للتركة الأكاديمية من الاستنكار المستمر “لمناقشات الهيمنة”  في النصوص الكلاسيكية الغربية. هناك أيضاً السؤال الذي لا بد منه والمتعلق بالعدالة  لكونراد ذاته.    

قلب الظلام التي كًتبت في أقل من شهرين في نهاية عام 1898 ومطلع عام 1899  هي في آن معاً قصة رحلة ونوع من حكاية خيالية كئيبة. يسافر مارلو، سارد كونراد، وأناه البديلة المألوفة، التاجر البحري من القرن التاسع عشر، صعوداً عبر الكونغو في خدمة الشركة التجارية البلجيكية الجشعة آملاً أن يستعيد السيد كورتز مندوب الشركة اللامع وتاجر العاج الذي غيبه الصمت على نحو غامض. السيد كورتز العظيم! الجميع في افريقيا يثيرون الشائعات عنه، يحسدونه، وباستثناء نادر يبغضونه. كورتز زهرة الحضارة الأوروبية (كل أوروبا ساهمت في خلق كورتز)، المثال في الرأفة واللطف، الصحفي، الفنان، الإنساني، ذهب صعوداً عبر النهر وبمرور الوقت في الأحراش تخلى عن نفسه ليسلمها إلى نوع معين من ممارسات غربية. ببندقية في يده، نصب نفسه إلهاً أو شيطاناً مهيمناً على الأفارقة. كونراد مبهم  فعلاً بشكل واضح بصدد ما يفعله كورتز، لكن إن قلت أن كورتز “يقتل بعض الناس، يمارس الجنس مع بعضهم الآخر، يسرق كل العاج” فإنك لن تكون ، كما أعتقد، مخطئاً كثيراً. في حالة كورتز، الإحسان المزعوم للكولونيالية قد أزهر من خلال الجريمة. رحلة مارلو من أوروبا إلى أفريقيا ومن ثم صعوداً إلى موقع كورتز في الأعماق هي كشف لحضيض وفاجعة المهمة الكولونيالية ، إنها أيضاً، في عقل مارلو، عودة إلى بدء الخليقة عندما حكمت الطبيعة الجموح والعفوية، ورحلة مجازية إلى الأعماق عبر طبقات الذات لإخضاع وقهر الرغبات. عند بوابة الموت، يقابل مارلو وكورتز كل منهما الآخر.

غالباً ما تشكل قراءة عمل أدبي  صدمةً، لقاء مع ذاتك الأولى التي تجاوزتَها، ولقد شعرتُ بالانزعاج في البداية بينما لم أكن كذلك في الماضي من المعالجة النبيهة، الرائعة، المروعة والإثارة النابضة (ما من كلمة أخرى) لبراعة كونراد اللغوية الفنية المضنية. ولد كونراد  في أوكرانيا البولندية حيث سمع نطق الإنكليزية بينما كان صبياً (والده ترجم شكسبير)، كانت الإنكليزية لغته الثالثة، ونثره كان ولا يزال يكشف نزوع الفرنسية” لغته الثانية” إلى الميلودراما الفكرية الرفيعة و التجريد المقفى (جاذبية القبح).  نثر كونراد متصلب، بذيء، شنيع. الناقد الإنكليزي العظيم فرانك ريموند ليفيز الذي أحب كونراد سخر من بعض الجمل مثل “كانت سكينة قوة عمياء مكفهرة إزاء غاية مبهمة”. رأى ليفيز أن الأسلوب كان منمقاً غريباً في إثارته للمشاعر (في محاكاة ماكس بيربوم الساخرة* لكونراد نقرأ):

الصمت، الصمت الخفيض وقلق ليلة مدارية غمرا الكوخ ، المحمص بالشمس، والذي تعرق بخاراً تحت الضوء الساخر للنجوم. في الكوخ كانت هيئة الرجل الأبيض، السمين والشاحب، مغطاة بالناموسية تلك التي كانت ذاتها وهماُ مثل كل شيء آخر ولكن بدرجة أكبر.

قراءة بعض جمل كونراد حين تكون وحيداً أمر يشبه الصراخ أو العويل بالتأكيد، لكن المرء يقرأها في وحدته فقط عند المراجعة النقدية كما في حالة أشيبي أوليفيز. بقراءة الحكاية مباشرة تبدد انزعاجي بعد حوالي عشرين صفحة وقبض عليّ كونراد بنبرته على نحو لا فكاك منه ، وحتى أكثر تراكيبه رعباً وقوةً تقع في مكانها ملخصة العديد من المسائل المحددة التي تناولها قبلاً. يتحدث مارلو:  

“كان الإبحار إلى أعلى ذلك النهر أشبه بالسفر إلى الوراء، إلى بدايات العالم الأولى، حين كانت النباتات تغطي وجه الأرض وكانت الأشجار ملوكاً. المجرى الفارغ، والصمت العظيم، والغابة المنيعة. كان الهواء دافئاً، سميكاً، ثقيلاً، متثاقلاً، وكانت أشعة الشمس تتسلل كئيبة. امتد المجرى المائي مهجوراً في عتمة المسافات الظليلة، وعلى الضفاف الفضية كانت أفراس النهر والتماسيح تتشمس جنباً إلى جنب. جرت المياه المتوسعة عبر مجموعة من الجزر الشجرية. يضل المرء طريقه في ذلك النهر كما يحدث في الصحراء، ويصطدم طوال اليوم بضفاف نهرية مغمورة بالمياه في بحثه عن القناة إلى ان يجد نفسه مسحوراً ومنقطعاً بشكل أبدي عن كل ما كان يعرفه في الماضي –في مكان ما، بعيداً، في وجود آخر ربما. هناك لحظات يعود فيها ماضيك إليك، كما يحدث أحياناً عندما لا تمتلك لحظة واحدة لنفسك، لكنه يأتي على هيئة حلم صاخب قلق تتذكره بدهشة في خضم الحقيقة الغامرة لعالم النباتات والماء والصمت الغريب. لكن سكون الحياة هذا لم يكن يشبه السلام بأي شكل من الأشكال، كان سكون قوة ووحشية تخيم فوق نوايا غامضة”.

تبدو الكتابة الآن “على نحو ما” أقرب إلى الأفلام السينمائية، إذ تغرق في الإحساس والرونق، في الأفعال المتطرفة والعنف الشاذ “حتى لو قُدم بطريقة غير مباشرة”، بالرعشة الغامضة والصياغات الثرية التحذيرية المرعبة. على الرغم من ذلك، وبطرق أخرى، كانت قلب الظلام حداثوية بقوتها الفكرية ، بهارمونيتها الخاصة المعاصرة الغريبة كلياً حتى أنني فشلتُ (حين كنت أصغر سناً) بملاحظة ما تنطوي عليه من كبرياء عظيم وازدراء عظيم ، مزاجها السيكولوجي الذي بالكاد يحتوي عصياناً ما، دعابتها الساخرة التي توشك أن تكون ضغينة  :

“لا أدعي القول إن ذلك القارب البخاري سيبقى عائماً طوال الوقت، ففي أكثر من مناسبة كان عليه أن يتقدم في المياه قليلاً وعشرون من آكلي لحوم البشر يخوضون في الماء ويدفعون به. كنا قد جّندنا بعض هؤلاء الشبان تمهيداً لتشكيل طاقم للقارب. كان آكلو لحوم البشر أولئك جيدين إذا أخذنا الظروف المحيطة بالحسبان. رجال يمكن للمرء أن يعمل معهم، وأنا ممتن لهم. فعلى الأقل لم يأكل بعضهم بعضاً أمامي. جلبوا معهم مخزوناُ من لحم فرس النهر فسد مع مرور الوقت وجعل غموض البراري يزكم أنفي. شيء يبعث على الغثيان! يمكنني أن أشمه الآن. كان المدير معي على متن القارب، بالإضافة إلى ثلاثة أو أربعة حجاج مع عصيهم –الطاقم كاملاً. أحياناً كنا نقع على محطة قريبة من الضفة تتشبث برداء المجهول، وكان الرجال البيض يهرعون خارج الخيمة المتهالكة مع إيماءات قوية تشي بالفرحة والدهشة والترحيب. كانوا غريبين جداً. بدا عليهم وكأنهم ضحية سحر ما. كانت كلمة عاج ترن هناك لبعض الوقت. ومن ثم تابعنا طريقنا في الصمت، على طول الامتدادات الفارغة، حول المنعطفات الساكنة، بين الجدران العالية التي تحف بمسارنا الملتف. ونحن نردد بتصفيق أجوف ذلك الإيقاع الرتيب للعجلة العنيدة”. 

بعيداً عن أعين مواطنيهم العائدين إلى الوطن الذين واصلوا تغطية المهمة الكولونيالية بلغة الإحسان المسيحي والتمدين أصبح المستكشفون “الحُجاج” أكثر جشعاً ووحشية. المتوحشون الذين يأكلون لحم فرس النهر يمارسون ضبط النفس، بينما لا يفعل الأوروبيون ذلك. كان هذا هدف شابيرو من سخريته تلك في البداية :”الوحشية” متأصلة في كل منا، بمن في ذلك الأكثر “تمدناً”، لأننا نعيش، تبعاً لكونراد، فاصلاً موجزاً بين قرون ماضية لا تحصى من الظلام وظلمات أخرى لم تأت بعد. المسامير وحدها، اللازمة بشدة لإصلاح مركب مارلو البخاري المثير للشفقة توفر الثبات –المسامير والمركب نفسها وقوانين البحارة والواجب هي ما يجعل الحياة محتملة في أزمنة الفوضى الأخلاقية. مارلو يقابل كورتز في النهاية، يحتقره بسبب استسلامه وفي الوقت ذاته ، وبتناقض فاتن، يُعجب به لرحلته الطويلة المضنية إلى قاع روحه وعثوره هناك ، عند تخوم الموت، على قيامة حياته. قد يكون هذا أشهر مشهد موت كُتب منذ شكسبير :

“لم أر في حياتي كلها شيئاً على غرار ذلك التغيير المفاجئ الذي كان يتلامح على وجهه، وآمل ألا أراه ثانية. أه، لم أتأثر. لكنني سُحرت. بدا لي وكأن نقاباُ قد تهاوى وسقط. رأيتُ على ذلك الوجه العاجي تعبير الزهو الكئيب ،والسلطة المتوحشة، والرعب الجبان –تعبير اليأس العميق. هل عاش حياته ثانية بكل تفاصيل الرغبة والإغواء والاستسلام في تلك اللحظة من القصوى من المعرفة التامة؟ صرخ همساً في وجه صورة ما، رؤية ما –صرخ مرتين، صرخة لم تكن أكثر من تنهيدة:

الرعب! الرعب!”

الكثير من الجدل والحفاوة الدورية واكب لفترة طويلة السؤال عما كان كورتز يعنيه  بصيحته المثيرة : “الرعب”. كان أحد الأشياء التي يعنيها بالتأكيد هي احتفاله المديد ب”القبح” – بسقوطه الروحي. أسئلة شابيرو الافتتاحية تفسح المجال لقراءة للقصة تستجوب الحضارة الغربية التي يُعتبر كورتز ممثلاً أعلى لها والتي كان الطلاب نماذج لها بفتوتهم.

عندما سأل شابيرو الصف لماذا يعتقدون أنه اختار “قلب الظلام”، إرتفعت الأيدي قبل أن ينهي سؤاله .

“اخترته لأن لب المنهج الدراسي بأكمله يتجسد في كورتز” قال هنري، الذي كان قد أجاب عن سؤال شابيرو الأول. “نحن نجسد هذه المعرفة، والكتاب يسأل، هل سقطنا في العدم ، هل غرقنا أم أننا خرجنا بإحساس أقوى بالذات”؟

هنري حّول الكتاب إلى امتحان للدورة الدراسية وله أيضاً. كان لكونراد أهمية شخصية عظيمة بالنسبة له، الأمر الذي لم يفاجئني. فهو أمريكي- أفريقي من بالتيمور، في سنته الثانية في جامعة كولومبيا، نيتشوي متحمس، وقد كان هذا نصاً نيتشوياً على الرغم من زعم كونراد  أنه لم يحب نيتشه . حياة ذات معنى بالنسبة لهنري -أسطورته الشخصية- تتطلب (كما قال في الصف مرات عديدة) التحدي، الصراع وتجاوز الذات. كان طويلاً وقوياً، بقصة شعر قصيرة مثبتة وصوت متحمس خفيض. بعد شهور عديدة من هذه الدورة وسم نفسه بعلامة أخوية السود في كولومبيا – وهو فعل تهكم مرير غير مُتاح لأعضاء العرق المسيطر. كورتز المروع كان مثالاً له مثلما كان لبطل كونراد، مارلو.

طالبة في السنة الأولى من الصين كانت خلفيتها الأدبية بريطانية وعالمية رأت الكتاب أيضاً كاختبار للحضارة الغربية. لكن بخلاف هنري، كرهت الهاوية. كان كورتز رجلاً مغوياً، رسولاً للتفسخ. “هل يسعنا التعامل مع المعرفة التي يضنينا البحث عنها”؟ سألت. “أم أننا سنردد مع كورتز، الرعب”؟ كان انفجار كورتز، بالنسبة لها، إقرار بفشل المعرفة.

تبنى العديد من الطلبة نفس الإشارات. لكن المفاجئ، أن الطلبة في نهاية الدورة الدراسية كانوا مستعدين تماماً ليروا سنتهم الدراسية في الكلاسيكيات الغربية سنةً إشكالية. قراءتهم “للكتب العظيمة” يمكن تأكيدها فقط إذا ما كانت في الوقت ذاته موضع تساؤل. لاشك أن أسئلة شابيرو البلاغية قد شكلت استجاباتهم، لكن حدة الاستجابات لا زالت تدهشني.

“الكتاب نوع من الامتحان” قال طالب من واشنطن دي سي. “هل يغفر وجود هذا الكتاب الهيمنة الثقافية الذكورية؟ هل يفتدي التعليم في هذه التقاليد”؟ أعتقد أنه كان يعني “هل يغفر وجود كتاب كهذا جرائم الامبريالية؟”. كان ذلك على أي حال هو سؤالي.

كان الطلاب في حالة معنوية طيبة ويتمتعون بالشجاعة والجرأة، وبينما كانت الدورة الدراسية تمضي قدماً كانوا يناقشون مواضع معينة في النص. كان البعض يحمل دفتره الصغير في يده مثل المبشرين أمام الجمهور المؤمن. صارع شابيرو طوال العام لجعلهم يقرأون بصوت عال و بإحساس عاطفي بالكلمات وغالباً ما كانوا يفعلون بشكل رتيب وممل كما لو كانوا يقرأون من دليل الكمبيوتر. لكنهم  يقرأون الآن بصوت عال بصورة تلقائية بأصوات حية ترن كالأجراس.

“هذه الدورة ضرب من الاختزال، أليس كذلك”؟ قال شابيرو. “بدأنا بالرحلة إلى طروادة”.

“إنها تشبه كل الرحلات خلال الجحيم التي قرأناها”. قال طالب سأدعوه أليكس، نحيل، له هيئة زاهد، ابن بروفيسور. استشهد بالرحلات إلى العالم السفلي في الأوديسة والأنيادة، استشهد بدانتي الذي تمثله كونراد في ذهنه بالتأكيد في بعض من لحظاته العظيمة. يصل مارلو إلى إحدى محطات الشركة التجارية، مستعمرة مهدمة على نحو مفجع من الماكينات المعطوبة والسكك الصدئة، وهناك يلتقي ،تحت الأشجار، دزينة من العمال الأفارقة المرهقين المتروكين للموت. “بدا لي أني كنت غارقاً في حلقة سوداوية لجحيم ما” يقول:

“كانوا يموتون ببطء –بدا ذلك واضحاً. لم يكونوا أعداء، لم يكونوا مجرمين، لم يكونوا مخلوقات أرضية آنذاك –كانوا مجرد ظلال سوداء للمرض والمجاعة مشلوحين في العتمة الخضراء. لقد أتوا بهم من مغاور الشاطئ بعقود قانونية ثم ألقوا بهم في بيئة وحشية وقدموا إليهم طعاماُ غريباً فوهنت أجسادهم ومرضوا، ثم سمحوا لهم بالزحف والراحة. كانت تلك الأشكال الميتة حرة كالهواء –وشفافة مثله. بدأتُ أميز بريق العيون تحت الأشجار. وعندما نظرتُ إلى الأسفل رأيتُ وجهاُ على مقربة من يدي. كانت العظام السوداء متراخية، وكان كتف واحد مستنداُ على الشجرة. ارتفعت الرموش ببطء ونظرتُ إلى العينان الغائرتان، عينان ضخمتان فارغتان، وكان البريق الأبيض الأعمى يخبو ويموت ببطء في أعماق العينين. بدا الرجل شاباً –أقرب إلى صبي- لكنكم تعرفون مدى صعوبة تقدير أعمارهم. للم أجد ما أفعله سوى ان أقدم له إحدى قطع البسكويت الجيدة التي كانت في جيبي. أطبقت عليها الأصابع ببطء وأمسكتها –لم ألاحظ أي حركة أو نظرة أخرى. كان قد ربط قطعة من القماش الصوفي حول رقبته –لماذا؟ من أين جاء بها؟ هل كانت شارة أم زينة أم تميمة أم مهدئاُ؟ هل كانت مرتبطة بأي فكرة؟ بدت مذهلة حول رقبته السوداء، هذه الخرقة البيضاء القادمة من وراء البحار.

على مقربة من الشجرة نفسها تكورت صرتان أخريان بزوايا حادة وأرجل مسحوبة إلى الخلف. كان أحدهما، بذقنه المرخي على ركبتيه، يحدق في الفراغ بطريقة مرعبة، أما الشبح الآخر فقد ألقى بجبينه كأنه ينوء تحت حمل ما، وفي أرجاء المكان كافة كان رجال آخرون مبعثرين وملقيين هناك بلا أية حركة كأنهم قد خرجوا لتوهم من صورة لمجزرة أو وباء”.

بالرغم من الجملة الأخيرة التي تربط غابة الموت بالكوارث القديمة التي عفا عليها الزمن، ثمة إحساس هنا ، كما قال العديد من القرّاء، بشيء لا سابق له من الفظاعة، شيء جديد تماماً على الأرض، وهو ما صار يُعرف لاحقاً بالإبادة الجماعية. على الأقل كان بعض الأوروبيين الذين يجبرون الكونغوليين  على العمل الشاق “ليبراليين” مخلصين “لوأد العادات البربرية”، بحسب إحدى سخريات كونراد المريرة. ربما لم يكن ما ارتكبوه في الكونغو مذبحة مدبرة بيد أنها كانت مذبحة وبعض الطلاب الذين أشاروا إلى الأمر شعروا بالحرج. لقد فعلها الرجل الأبيض. لقد خلقنا جهنماً على الأرض. “قلب الظلام” المكتوبة في نهاية القرن التاسع عشر لاقت صدى واسعاً طوال القرن العشرين لسوء الحظ. صدمة مارلو ودهشته إزاء الغرابة المطلقة لأشكال الفظاعات البشرية تتنبأ بما شعر به الحلفاء الذين حرروا معسكرات الاعتقال في 1945. كان الجواب على سؤال “هل ينقذ هذا الكتاب الغربَ من الشعور بالخزي” واضحاً تماماً : ما من كتاب يمكن أن يوفر كفارة لأي ثقافة. لكن إن كان يتعذر العودة  عن  بعض الجرائم ، فإن إقراراً صريحاً بالجريمة قد يقود إلى غفران جزئي للخطيئة. في قلب الظلام كتب كونراد إقراراً كهذا.

كان ذاك جوهر القراءة الليبرالية التي جهد  تلامذة شابيرو في استخلاصها بمحض إرادتهم ، بحماسهم – ثم وبشكل مفاجئ انزلق الصف إلى خلاف مرير. لم يكن أليكس سعيداً بالطريقة التي تحدث بها شابيرو والتلامذة الأخرون عن كورتز والمحاكمة  الأخلاقية الذاتية للغرب. كان يعتقد أن تلك المقاربة سطحية كما لم يكن بمقدوره أن يرى الكتاب وفقاً لمنظور قيامي. كان كورتز مجرماً، شخصية منعزلة. لكنه لم يكن ممثلاً للغرب أو لأي شيء آخر.  “لماذا يكون هذا الكتاب نقداً للغرب”؟ ما من ثقافة تحتفي برجال مثل كورتز. ما من ثقافة تؤيد ما قام به”. كان هناك اعتراض عام، مع أن البعض ابتسم. أذعن قليلاً “حسناً يمكن قراءة النص كنقد للغرب، ولكن ليس للغرب فقط”.

من زاويتي في الغرفة ألقيت نظرة متفحصة عليه. كان مشدوداً كطبل، جافاً، وسخيفاً إلى حد ما. لم يكن له أي صلة بكورتز، كان هذا موقفه الواضح. لقد أنكر الصلة التي أقرها التلامذة الآخرون. كانت ملامحه تشي بالحدة والانقباض. كنت أعرف هذا التلميذ، لقد رأيته في الصف فقط لكن هناك شيء مألوف بصدده أغضبني ولا يسعني أن احدد ما كان هذا الشيء بالضبط. لماذا كان بليداً على هذا النحو؟ لم يدع الطلبة الآخرون أي مسؤولية شخصية عن الامبريالية ولم يغرقوا بالإحساس بالذنب. جل ما فعلوه انهم اعترفوا بمساهمتهم في حضارة “متقدمة” من الممكن أن تفقد حاملها الأخلاقي.

هنري، المنحن إلى الوراء على كرسيه- بمواجهة الجدار، وراء أليكس ، الجالس على الطاولة، أصر على القراءة الوجودية. “كورتز هو كل شخصية بشرية، لقد هبط إلى العمق تحت طبقات الأهل ، الدين والمجتمع”.

أليكس رفض بحدة. كانا يتحدثان متجاهلين أحدهما الآخر طارحين زوايا مختلفة في المقاربة، لكن كان هناك حد لصوتيهما اللذين أسفرا عن روح عدائية مضت إلى ما وراء خلافهما في الرأي. كان هناك فاصل مُحرج، وشعر الطلبة بالاضطراب. لم أر أبداً مثل هذا الخلاف في الماضي، وما قالاه لم يكن يشكل أرضية للغضب، لكن عندما تشبث كل منهما بموقفه امتلأت الغرفة بالتوتر. حاول شابيرو أن يهدئ السجال، بينما نظر الطلبة الآخرون إلى بعضهم البعض بدهشة وفزع. لم يكن السجال بين هنري وأليكس حول العرق، مع أن العرق كان يخيم فوقه. في الظل، أثار هنري الطريقة التي تأمل كونراد من خلالها الافتراضات الأوروبية لزمنه، مصوراً الأفارقة برييّن وبدائيين. بدأ بصياغة حالة شبيهة بحالة أشيبي (الذي نشر مقالته العدائية في إصدارات نورتون النقدية) ثم توقف في منتصف الجملة متخلياً عن موقفه فجأة. في صفنا عن “الملك لير” وفي أوقات أخرى خلال الأشهر العديدة المنصرمة كان قد ناقش بشكل صريح كرجل أسود، لكنه في تلك الدقيقة لم يكن معنياً. بدا أن ضرورة ملحة أعظم قوة قد غلبته –ليس المسألة العرقية بل الوجودية، حاجته الملحة للهوية ليس فقط كأمريكي-أفريقي ولكن كرجل مُحاصر. “الطيب والشرير متفقان” قال ثم أكد “كلاهما ينهار تحت الضغط، وهذا الأمر يصح بالنسبة للجميع”.

“يتناول الكتاب أيضاً الفرق بين الخير والشر” أجاب أليكس بحدة. “الجميع يقاضي كورتز”. لكن هذا ليس صحيحاً. مارلو يقاضي كورتز، كونراد يقاضي كورتز. بالعودة إلى بروكسل جرى الحداد عليه بوصفه رسولاً للتنوير.

نظرتُ عن قرب. كان أليكس يشبه “الولد الشرير” الخيالي في احتفال عيد الفصح اليهودي، الولد الذي يقول للآخرين “لماذا هذا العيد مهم بالنسبة إليكم”؟ – مُنكراً أي صلة شخصية بحدث يتمتع بأهمية عظيمة. كنتُ أعرفه جيداً. كان وجهه ضيقاً وشاحباً ذو أنف عظمي تغطيه نظاراته، جلده ضامر، وملامحه تشي بالعنجهية الجنسية. كان مُتألقاً جداً وشاباً جداً. من بين كل طلاب شابيرو في الصف كان –رأيتُ هذا للتو- الأقرب لما كنته أنا في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة من عمري. كان واثقاً من نفسه بشكل منقطع النظير وفصيحاً لكني فهمته جيداً و أجفلت منه. إنه القارئ المتوسط العمر، غير المتسامح مع ماضيه وما كانه ، ربما أمكن تشبيهه بشبح متجول.

لم أتمكن من رؤية تعبير هنري الجالس متلفعاً بسترته الخضراء ذات الياقة الضيقة، ونظارته السوداء، وقبعته البيسبول . لكن تعبير شابيرو كان واضحاً : لم يكن سعيداً. ربما مضى بعيداً قليلاً بأسئلته البلاغية التي أشعلت حماساً منذراً بالتحول إلى حريق هائل، ما دفعه إلى التحرك سريعاً محولاً المحادثة باتجاه مختلف محفزاً الطلاب أن يشرحوا استخدام كونراد لكلمة “ظلام”. جعلنا كونراد نعرف أنه حتى بريطانيا –حيث يجلس مارلو راوياً قصته- لطالما كانت أحد الأمكنة المظلمة على الأرض. لبعض الوقت، شرح المدرس والتلامذة النص بطريقة حيادية. كان شابيرو قد قضى العام بأكمله بين تحليل بنية ولغة الكتب ومباغتة رضا التلامذة عن أنفسهم بأسئلته البلاغية. لكن التحليل الرصين لم يكن مبتغاه، على الأقل ليس لهذا النص، وسرعان ما عاد إلى تواطؤ الغرب والجامعات الغربية في سياسة دأب الملك ليوبولد الثاني ملك بلجيكا –الرجل المسؤول عن بعض أسوأ الفظائع في أفريقيا الكولونيالية- على الإشادة بنبلها وغيريتها.

“وإلا كيف لكم يا رفاق أن تُمدنوا “الآخرين” إلا لسبب نبيل”؟ قال شابيرو. أنتم يا رفاق جميعاً صنيعة هذا السبب النبيل. شعار جامعة كولومبيا، مترجم من الجملة اللاتينية ،بنورك نرى نوراً. هذا هو النور الذي من المفترض أن يخترق قلب الظلام، أليس كذلك؟.

“لكن التنوير يحدث فقط من خلال الظلام” قال هنري، المتشبث بموقفه، وأليكس اعترض بغضب مرة أخرى –ذلك أنه ما من ظلام بالنسبة له- ولدقيقة مخيفة ظننت أن الانفجار وشيك.  النسوة في الصف واللاتي بقين صامتات لأغلب الوقت خلال هذه المناقشات كن مصدومات ثم اعترضن بغضب “هذا استعراض  ذكوري لإبراز الأعظم ثقافة بينهما”. صحيح، ولكن ربما كان الأمر يتعلق بالعرق أيضاً. على الرغم من أن شابيرو استعاد النظام، فإن شيئاً ما قد تهشم، والصف الذي كان قد بدأ بداية مثالية حيث ينخرط الجميع في النقاش قد تداعى.

هل “قلب الظلام” كتاب لا أخلاقي؟ ما يلي أحد المقاطع التي يشجبها شينوا أشيبي  بوصفها عنصرية:

“كنا رحالة على أرض ما قبل التاريخ، على أرض أخذت هيئة كوكب مجهول. تخيلنا أننا أول رجال يستحوذون على إرث بغيض عليهم ترويضه مقابل ألم عظيم وجهد خارق. ولكن فجأة، وبينما كنا نناور حول أحد المنعطفات ، تلامحت أمامنا جدران الأسل، وسقوف عشبية، ودفق من الصراخ، ودوران الأطراف السوداء، كتلة من الأيادي المصفقة، وأقدام تضرب الأرض بقوة، وأجساد تتمايل، وعيون تنقلب، تحت الأغصان المتدلية بثقل وسكون. كان القارب البخاري يصارع ببطء على حافة سعار غامض أسود. وكان رجل ما قبل التاريخ يلعننا، يصلي لنا، يرحب بنا –من يعرف؟ لم نعد نستوعب ما حولنا، انسبنا عابرين كالأشباح، متسائلين وخائفين في سرنا، كما يشعر الناس العاقلون أمام أتون فورة محمومة في مشفى للمجانين. لم يكن في مقدورنا أن نفهم لأننا كنا بعيدين جداً، كما لم نستطع أن نتذكر، حيث كنا نسافر في غياهب العصور الأولى، العصور التي بادت دون أن تخلف أي أثر أو ذكريات.

بدت الأرض غير أرضية. اعتدنا أن ننظر إلى الوحوش المقيدة المحتجزة ولكن هناك –هناك يمكنك أن تنظر إلى الأشياء الوحشية وهي طليقة. كان المشهد غير أرضي وكان الرجال –لا لم يكونوا وحوشاً. وهذا أسوأ ما في الأمر –هذا الشك في أنهم ليسوا وحوشاً. يتسلل إليك هذا الإدراك ببطء. كانوا يعوون ويقفزون ويدورون ويقومون بحركات مريعة، لكن ما يثيرك هو فكرة إنسانيتهم –أنهم بشر مثلك تماماً –فكرة القرابة البعيدة التي تربطك بهذا الزئير البري الحار. فقد كان بشعاً، نعم، بشعاً بما يكفي، ولو كنت رجلاً حقاً فسوف تعترف في قرارة نفسك أن الصراحة الفظيعة لذلك الضجيج المحموم تلامس شيئاً خفياً في أعماق أعماقك، شيئاً مظلماً يشي بمعنى كامن فيها يمكنك أنت –أنت البعيد عن ظلمة العصور الأولى- أن تفهمه، ولم لا؟

يعتقد أشيبي أن “قلب الظلام” هي نموذج للعادة الغربية في تركيب أفريقيا “بوصفها إحباطاً بالنسبة لأوروبا، مكان للنفي… بالمقارنة مع خصوصية النعمة الروحية التي كانت جلية في أوروبا”. كان لدى كونراد المهووس بالجلد الأسود للأفارقة الرغبة الحقيقية بتضميد الإحساس الأوروبي بالغطرسة: “قلب الظلام تبني صورة لإفريقيا بوصفها “العالم الآخر” النقيض لأوروبا ومن ثم للحضارة، مكان تهزأ فيه البهيمية السكرى بالنصر في النهاية من ذكاء الإنسان ودماثته”. يتجاهل أشيبي مقطع غابة الموت ومقاطع أخرى مشابهة “بعاطفتها التي تدمي القلب” بوصفها مجرد إكسسوار في كتاب حافل بالتحامل والإهانة المُصاغين بأكثر الأساليب سوقية واللذين عانى منهما جزء من النوع البشري عذابات وويلات لا توصف في الماضي ولا يزال هذا ممتداً في الحاضر بطرق مختلفة وأماكن مختلفة”. ويضيف “أتحدث هنا عن قصة كانت فيها إنسانية السود بالذات موضع تساؤل”.

أشيبي كتب على الأقل رواية عظيمة واحدة “أشياء تتداعى” (1958) وهو كتاب أحبه وتعلمتُ منه الكثير. حتى مقالته عن كونراد هي فعل عنف بلاغي وأنا أجفل منها. لم ينظر أشيبي إلى الكتاب بوصفه تعبيراً عن زمنه أو إسهاباً في الوظيفة الخيالية تمثلت فيه مخاوف الرجل الأبيض من المجهول على أدق وجه وإنما بوصفه افتراءاً عاماً على الأفارقة, اعتداء  عنصري مجرد. بقدر ما يتعلق الأمر بقلق أشيبي, فقد ناضل الأفارقة لتحرير أنفسهم من سجن الخطاب الكولونيالي, وقراءة كونراد كانت تعني بالنسبة له العودة إلى السجن :”قلب الظلام” كتاب يملك فيه الأوروبيين اليد الطولى باستمرار. 

بقراءة أشيبي أردتُ أن أجادل أن أغلب تلامذة صف الآداب الإنسانية –ليس الأوروبيين بل النخبة الأمريكية- رأوا “قلب الظلام” كتمثيل للخزي الغربي, وبصعوبة رأوها بوصفها إثباتاً ل”نعمته الروحية”. أردتُ أن أجادل على أفضل وجه أن  كل شيء في قلب الظلام –ليس فقط الخوف الدراماتيكي من الأدغال الأفريقية ولكن كل شيء بما في ذلك مدينة بروكسل ووعي مارلو لكل شخصية بيضاء – قد صُور على هذا النحو الساخر والكابوسي  كتجربة من النفي والإستبدال. يصف كونراد بالتأكيد الأفارقة الذين يومون بأيديهم على ضفة النهر  ك”آخر” عنيف لا يمكن فهمه. لكن فلنتدبر الوضعية الخيالية (أو القصّصية) . بوصوله حديثاً من أوروبا, يقود مارلو, المحاط بالأدغال مركباً بخارياً صغيراً صعوداً إلى أعلى النهر الكبير في اتجاه ربما يكون نهايته الموت. هو شخصية في قصة مغامرات تقف ذاهلة بين الغرباء. ربما يفضل أشيبي أن ينهمك مارلو في حديث مع الأفارقة أو على ألأقل أن يراقبهم عن كثب ويدرك أنهم بشر أيضاً, أنهم أيضاً أرواح  لها مصائرها وصراعاتها الروحية , أمجادها ونكباتها الذاتية. لكن هل يمكن وصف ذاتية الأفريقي من دون هذا السرد المقتضب, بكل حيويته المادية والفلسفية الاستثنائية, وبدون هدف كونراد المتمثل في فضح “الحماقة عديمة الرحمة” للأوروبيين؟ يريد أشيبي قصة أخرى, بطلاً آخر, وعياً آخر. كما يحدث، يعتبر مارلو رجال القبائل الأفارقة همجاً غير مفهومين إلا أنه يشعر بالصلة معهم. يدرك أنه ما من فرق أخلاقي بينه وبينهم. وأن الأوروبيين هم اللا أخلاقيون.

ولكن ما الفائدة؟ أشيبي روائي وليس خبيراً، وتباينات نقده ظهرت في العديد من الأعمال الأكاديمية ورداً على العديد من الكلاسيكيات الأدبية. منشورات مثل “اللغة المشتركة” *تمتلئ غالباً بإعلانات من صحافة الجامعة لكتب عن الأدب والعرق، الأدب والجندر، الأدب والامبراطورية. أياً كان ما يفعله هؤلاء الخبراء في غرف الصف، فإنهم يسعون إلى بناء صيتهم خارج الصف الدراسي معززين برؤى مسيسة للأدب. إن معيار فرانك ريموند ليفيز لعظمة الأدب –الإلتزام الأخلاقي-  قد تم استبداله بالعدوانية الأخلاقية للناقد الأكاديمي الذي يسّمرالكاتب إلى أي تشكيل للقوة في متناوله “أي الناقد”. ربما جرت قراءة “قلب الظلام” فعلياً بوصفها عملاً عنصرياً من قبل شخص غاضب ما تجاهل تقنياتها السردية، معاناتها المحسوسة والفروق العديدة بين وعي القرنين الثامن والتاسع عشر للعنصرية  ووعينا لها. في الوقت ذاته، إن بعض الأكاديميين المتبقين يعدّون الآن أن الطريقة القديمة في قراءة الأدب من أجل المتعة و من أجل السحر-وقوعي على نحو ميؤوس منه تحت سحر كونراد- طريقة ساذجة وإذعاناً غير واع لقيم سياسية متماهية تماماً مع متعة السرد. متعة القراءة بحد ذاتها تصبح ، في بعض الأماكن، خطأً سياسياً نوعاً ما مثل الجنس في رواية 1984 لأورويل.

إدوارد سعيد، تماماً مثل كونراد ذاته، شخصية مستقلة و طموحة. مسيحي فلسطيني (من عائلة بروتستانتية) شب في القدس والقاهرة، لكنه بنى سيرة عظيمة في أمريكا حيث تولى كرسي الأدب في المنفى، ناقد عربي للغرب يعيش ويعمل في الغرب، قارئ على معرفة وثيقة بالأدب الغربي لكنه ناشط جداً في حقل الأدب غير الغربي. لطالما نفر سعيد من ضيق الأفق والمحدودية، وازدرى المقاربات السطحية للقراءة. كسب خلال السنين العديد من التلاميذ والمريدين وبخ بعضهم مؤخراً لسخريتهم من نقده الأخلاقي والسياسي للأدب الغربي . لطالما ثبّط سعيد أي محاولة “لتحجيم”  الأدب الغربي.  

عمله الأكثر شهرة هو “الاستشراق” العمل البارز لعام 1978، تحليل حاد النبرة للدأب الغربي في تشييد صورة إيكزوتيكية “عجائبية” للشرق الإسلامي تساعد في السيطرة عليه. في 1993 نشر سعيد كتابه “الثقافة والامبريالية” كأثر لذاك الكتاب وكان ينوي  أن يأخذ بالحسبان كتّاب القرنين التاسع عشر والعشرون الأوروبيين العظماء ممتحناً ومسائلاً نصوصهم كطريقة لمواجهة مفهوم – ما يزال حياً وفقاً لسعيد-  أن الأوروبيين والأمريكيين يتمتعون بالحق في حكم مواطني العالم الثالث.

معظم الكتاب المبدعين للقرن التاسع عشر، يواصل سعيد، فشلوا في ربط عملهم و ممارستهم الروحية الخاصة بالعمليات القذرة للكولونيالية. كتّاب مثل أوستن، كارليل، ثاكري،ديكنز، تينسون، وفلوبير كانوا أبطال ثقافة سواء اضمروا رؤى عنصرية للناس “موضوع العمل” ثم حققوا الانتشار بالإنكليزية والفرنسية أو لمجرد قبولهم بالأفضلية المادية للإمبراطورية. كانت الامبراطورية بالنسبة إليهم أمراً مسلماً به كفضاء  تتجول فيه شخصياتهم الأدبية وتزدهر، لقد تواطئوا مع الشر. يمكن لنا أن نرى في عملهم، هنا وهناك، آثاراً مخزية للعالم الذي جرى إخضاعه : مزرعة قصب سكر في أنتيغوا تساهم أرباحها في الحفاظ على رفاهية عائلة ملاكين إنكليزية (the Bertrams) في رواية جين أوستين “مانسفيلد بارك”، شخصية مركزية في عمل ديكنز “توقعات عظيمة” (المُدان  Mangwitch) تثري من خلال المستعمرة البيضاء في أستراليا و تحول وصيته السرية بطل الرواية الشاب، بيب، إلى جنتلمان لندني. هذه الروايات ، كما يقول سعيد، لا يمكن فهمها تماماً إلى أن تُحلل صلتها بالمسلمات والممارسات الكولونيالية في الثقافة بصورة عامة. لكني أتساءل، كم هو مهم مصدر المال لأي من هذه الروايات؟ ذكرت أوستن مزرعة قصب السكر في أنتيغوا بضع مرات فقط ، تماماً حين لم يعد المصدر الواضح  لثروة آل “Bertrams” ذا فائدة بالنسبة لها. وإن كان Magwitch قد صنع ثروته  ليس في أستراليا ولكن في اسكوتلندا من خلال الاستحواذ غير الشرعي على سوق الشعير أو القمح، فهل سيشكل ذلك فرقاً عظيماً بالنسبة لجوهر “توقعات عظيمة” لبنيتها، محتواها و مجازها الروائي؟ سيبقى Magwitch مُداناً سيء السمعة ينبذه بيب كوغد أو يقبله بوصفه أباه الروحي الحقيقي. هل تأثرت هذه الروايات حقاً، كأعمال أدبية، بالصلة المزعومة بالامبريالية؟ أم أن سعيد يلعب دور المحام الذي يثير المواضيع، ليس لضرورتها ولكن فقط لأنه يمكن إثارتها؟ في الحقيقة يمكن للمرء أن يفترض أن عملاً مثل “مانسفيلد بارك” مفيد لسعيد تماماً بسبب كونه مثالاً غريباً. ذلك أنه إن كانت جين أوستن ضالعة إلى هذا الحد في خلق الامبريالية فإن كل عرض موسيقي، وكل قائمة مشاريب حجرة الشاي، وكل التدابير المتعلقة بالزهور ضالعة أيضاً. براءة الثقافة الغربية يجب أن تُثبت في قاعة العدالة.

أليست أطروحة سعيد في النهاية حشواً بلا طائل، افتراض أن الامبريالية قد تلقت، فعلاً، دعم البنية التي أنتجتها بنفسها؟ بمعيار سعيد قلة من الكتّاب سوف تنجو من النقد. بروست؟ حيادّي تجاه الاستغلال الفرنسي لعمال شمال أفريقيا من المواطنين الأصليين. (ومن أين جاء الفلين الذي يبطن جدران غرفة نومه؟ من المغرب؟ كدرع يحجب تأمل بروست الجمالي الذي يساهم في الهيمنة الامبريالية). هنري جيمس؟ الذي فشل في استقصاء الصناعة الرأسمالية أواخر القرن التاسع عشر وتمددها إلى ما وراء البحار الأمر الذي أتاح لبعض شخصياته أن تتمتع بالرفاهية، بالحوارات الحضارية والقلق الروحي. جيمس المعروف بتهذيبه كان نتاجاً وتعبيراً عن الامبريالية الأمريكية معادلاً للغلو العدواني لتيودور روزفلت. وهكذا دواليك.

عندما يتناول سعيد “قلب الظلام” (وهو كتاب يحبه سعيد) يصر أن كونراد، مثله مثل مارلو وكورتز، كان مسلوباً تجاه موقف الهيمنة الامبريالية ولذلك لم يكن باستطاعته أن يتخيل إمكانيات أخرى خارج ذاك النطاق، وأن كونراد، يمكنه تخيل الأفارقة فقط كمحكومين من قبل الأوروبيين. من الصحيح تماماً أن “قلب الظلام” تحتوي قليلاً من الإشارات المتباعدة والغامضة التي تشيد بالتنويعات المختلفة للهيمنة الإنكليزية لما وراء البحار. لكن إلى أي حد تفيد مثل هذه الإشارات مقابل الحضور الطاغي لكل ما تبقى –الإحساس المريع بالخراب الناجم عن الفوضى الطبيعية، الموت والأهوال الموحشة في كل مكان؟ ما يتذكره القارئ هو انحطاط الإمبريالية وتضليلها المؤكد لسعيد ليتحدث عن “قلب الظلام” كعمل لم يكف مذاك عن إعادة التأكيد للغربيين أن لهم الحق في حكم العالم الثالث. إن كان علينا أن نناقش سؤال الأثر التاريخي للكتاب، ألا يتوجب أن نسأل، على النقيض من ذلك، إن كان آلاف القراء الأوروبيين والأمريكيين شعروا بالغثيان من الكولونيالية بعد قراءة “قلب الظلام”؟ الحماس الشديد لسعيد لإيجاد القوة الكامنة في “قلب الظلام” جعلته يبخس قوة ما هو مرئي على السطح. ها هنا خلاصته :

 كورتز ومارلو يعترفان بالظلام، الأول بينما يموت والثاني بينما يتأمل بأثر رجعي معنى كلمات كورتز الأخيرة. هم (بالإضافة لكونراد طبعاً) سابقو زمنهم في فهم أن ما يدعونه “الظلام” يتمتع بكيانه الخاص ويمكنه أن يعيد انتهاك واسترداد ما أخذته الامبريالية لها. لكن مارلو وكورتز  أبناء زمنهم أيضاً ولا يمكنهما أن يخطوا الخطوة التالية والتي قد تكون أن يدركا أن ما شاهداه، مُحبطاً ومُشيناً، بوصفه “ظلاماً” غير أوروبي كان في الواقع عالماً غير أوروبي يقاوم الامبريالية ليتسنى له يوماً ما أن يستعيد السيادة والاستقلال وألا يعيد ، كما يختزل كونراد الأمر، تأسيس الظلام. محدودية كونراد المأساوية تتمثل في أنه لم يتمكن من استنتاج انتهاء الامبريالية وأن السكان الأصليين يمكنهم أن يتمتعوا بحياة حرة بعيداً عن الهيمنة الأوروبية رغم قدرته الواضحة على رؤية أن الهيمنة المجردة والاستيلاء على الأراضي كانا جوهر الامبريالية عند بعض مستوياتها. كإبن لزمنه لم يتمكن كونراد من أن يهب السكان الأصليين حريتهم، على الرغم من نقده القاسي  للإمبريالية التي استعبدتهم.

قرأتُ هذا المقطع مراراً وتكراراً وكنت أزداد ريبة في كل مرة. لم يكن كافياً أن يلتقط كونراد روح الامبريالية و التصفية الجماعية لبشر أُجبروا على العمل الشاق: لقد تمثلت محدوديته المأساوية في فشله “أن يهب السكان الأصليين حريتهم”. ربما كان سعيد يعني بعض الأشياء المتناثرة –إيماءة صغيرة ، تداع ما، بعض كلمات تلمح إلى المستقبل الحر.  لكني لا أزال أرى الفكرة غريبة كتحسين مقترح ل”قلب الظلام”، ورأسي يضج برؤى من أفلام هوليود المروعة. ضباب يتسلل من الأدغال الكثيفة المظلمة كاشفاً عن قوس قزح في البعيد، كورتز مرتدياً قلادة من العاج يشير للأدغال بينما يتحدث إلى زعيم أفريقي مهم كما يبدو. “يوماً ما سيتخلص شعبك من الظلم الكولونيالي. يوما ً ما سيكون قومك أحراراً”.

يا إلهي، رؤيا للحرية؟ بعد أدغال الموت؟ ألا تعادل رؤية كهذه أفدح أنواع العاطفية؟ بدلاً من أن يفعل ما يريده سعيد، يقول كونراد أن بريطانيا أيضاً، كانت أحد الأمكنة المظلمة على الأرض. يؤكد طوال الكتاب أن الظلام موجود في كل البشر. حدة كونراد، تصلبه وتشاؤمه تعادل صواب سعيد ،إيجابيته وابتذاله.

ينغمس أشيبي في عاطفية مماثلة. كان كونراد، كما يقول، مهجوساً للغاية بوحشية الأفارقة إلى حد أنه فشل نوعاً ما في ملاحظة أن الأفارقة في شمال الكونغو كانوا يخلقون أعمالاً فنية عظيمة –يصنعون الأقنعة وأعمالاً فنية اخرى ستبهر بعد سنوات قليلة فقط فنانين مثل فلامنك ،ديرين، بيكاسو وماتيس، مثيرين اتجاهاً جديداً في الفن الأوروبي. “الغاية من كل هذا” يكتب أشيبي ” الإشارة إلى أن الصورة التي رسمها كونراد لسكان الكونغو تبدو غير وافية ابداً”.

لكن كونراد بالتأكيد لم يقدم “قلب الظلام” كصورة لسكان الكونغو أكثر مما فعل أشيبي في “الأشياء تتداعى” التي تدور أحداثها في قرية نيجيرية والتي تدعي أنها صورة متوازنة للسادة الإنكليز. كونراد، تماماً مثل معلمه هنري جيمس، كان أميناً لفكرة قاسية عن الشكل الفني. رغم قصرها -35 ألف كلمة فقط- فإن “قلب الظلام” حكاية تهكمية لاذعة لعملية إنقاذ مغلفة بتأمل فلسفي عن التواطؤ بين “الحضارة” والوحشية. يقتصد كونراد في سرده ويُسقط الكثير. الاقتصاد هو أيضاً ميزة استثنائية لفن أشيبي ولا أحد سواه “أكثر من كونراد” ينبغي أن يُطالب بتقديم تقدير مديد لكل جانب من الحضارة الأفريقية.

يريد أشيبي إخراج “قلب الظلام” من المقرر الدراسي. “السؤال الواجب طرحه هو إن كان يمكننا أن ندعو رواية تحتفي بهذا التجريد من الإنسانية، بتجريد قطاع من الجنس البشري من شخصياتهم، عملاً فنياً عظيماً”؟ يكتب أشيبي. “جوابي هو لا، لا يمكن اعتبارها كذلك”. سعيد وبكل تأكيد لن يقترح إسقاط كونراد من لوائح القراءة. بقي إذاً أن يتساءل المرء إن كان لوم الكتّاب لما فشلوا في كتابته طريقة خاطئة حقاً في قراءتهم. الأدب يلهم القلق الأن بين أكاديميي اليسار. الأدب يستبعد: يتناول شيئاً دون شيء آخر، يمثل وجهة نظر واحدة دون وجهات النظر الأخرى، يمّكن طبقةً أو عرقاً وليس طبقةً أو عرقاً آخرين. يفتقر الأدب لكمال العدالة، التي يجب أن تكون جميع الأصوات فيها مسموعة، متوازنة، متعادلة. الأدب الأوروبي على وجه التحديد مذنب بسبب صلته ب”رابحي” التاريخ. جين أوستن ملومة لأنها فشلت في مسرحة الطبيعة الحقيقية للكولونيالية، جوزيف كونراد مذنب لأنه قام بمسرحتها. جميعهم مذنبون بالمفهوم والنوع.

في النهاية، شكاوى أشيبي وسعيد تنتهي إلى ما يلي :كونراد افتقر إلى الوعي بقوة  الطبقة و الامبريالية الذي نتمتع به اليوم. كونراد المسكين الغبي! حبيس زمنه. لا يمكنه أن يفعل شيئاً أكثر من كتابة كتبه. منطق أخلاقي مكتف ذاتياً أصبح مألوفاً في اليسار الأكاديمي : وجهة نظر كذا وكذا تتعلق بالنساء، والملونين، والوهن الذي يصيب حيويتنا، بشريتنا، وإصرارنا على المشاركة في حوار يتعلق بالناس جميعاً. قد نظن أن الصراحة المباشرة تتطلب من الأكاديمي أن يقدم الامتنان للكتّاب الأقدم لإذعانهم لحماقات سهلة  ومكشوفة كهذه.

لماذا أنا غاضب جداً؟ إن بحثاً أو كتاباً منفراً لا يتناول نهاية الحضارة الغربية والحريات الدنيوية لكل الناس، يجب أن يكون قادراً، وحتى مطلوب منه، أن يصغي إلى وجهات نظر تعارض وجهة نظره الخاصة. لكن ما يقدمه سعيد وأشيبي (وعدد معقول آخر من النقاد المسيسين) ليس ببساطة تأويلاً مختلفاً لهذا العمل أو ذاك وإنما شيء يمكن وصفه بأنه هجوم على المصداقية الشرعية للأدب.

“أنا غير قادر على فهم ألمك” قال هنري في الحصة التالية. متحدثاً إلى الجميع عموماً وربما إلى ألكس على وجه التحديد. “ولا أنت قادر على فهم ألمي. الأرضية المشتركة الوحيدة التي نملكها هي أن نفهم الرعب”.

كان تلك إشارة مشؤومة بالنسبة لشاب يافع جداً لكنه تركها وراءه، منطلقاً نحو عرض شكلي لأفكاره حول “قلب الظلام” حيث نهض عن كرسيه وراء أليكس ليتحدث. في لحظة ما، صاح بحماس ،ناظراً حوله –”انتبه أليكس”-  ورمى بعض القطع النقدية في الهواء، أمسكها في البداية ثم تركها لتسقط فوق الطاولة حيث هبطت محدثة رنيناً وتدحرجت هنا وهناك. قفز الجميع. “هذا ما تفعله البرية” قال. “إنها تبعثر ما نحاول أن نسيطر عليه. كورتز مضى إلى داخله ورأى تلك الفوضى”.

كان لدى هنري موهبة في الميلودراما. كانت “الفوضى” فكرة كونرادية أخرى، وأنا كنت أرتجف ، صفنا الأول حول كونراد كان قريباً من التصدع. اليوم، أعاد شابيرو الدماثة مبتدئاً الصف بحديث حزين. قال بصوت خفيض بينما ينحني فوق الطاولة الطويلة “يجب أن أشعر بقليل من اليأس من أجل ذاك اليوم”، محذراً الطلبة من الصياح أحدهم على الأخر. تكلم ببطء شديد عن تردده الشخصي في تدريس كتاب يتحدى طبيعة المجتمع الغربي بالذات. “أمر صعب جداً عندما تعلم مادة دراسية مثل الآداب الإنسانية يتمثل فيها العالم الخارجي كقيم اجتماعية معيارية أو حتى محافظة- من الصعب جداً أن تجد نفسك. هل تقول، بينما تقرأ كونراد “هل أنا ماضٍ بعيداً عن هذه الثقافة”؟ أو هل تقول “أنا ماضٍ للتفاعل معها بطريقة تتيح الاعتراف بالتناقضات والأكاذيب التي ترددها هذه الثقافة لنفسها؟”.    

شابيرو مضى بالأمر، معيداً تأسيس بنية صفه، واضعاً الكتاب ضمن جدول السنة الدراسية وجدول النخبة الجامعية التي تجلس على تلة فوق هارلم.

بالنظر خلفاً إلى صراعنا الثقافي البسيط أدرك الأن أنني مهما كرهت مقاربة أشيبي وسعيد، فإنها ساعدتني في فهم ما حدث في الصف. تماماً مثلما قاتل أليكس بغضب للحفاظ على الثقافة الغربية نقية من لطخة جرائم كورتز، أردتُ أن تبقى “قلب الظلام”  منذ البداية عصية على النقد السياسي. في الحقيقة، لا أظن أن أي نقد سياسي يمكن أن يصيب رواية كونراد. لكن ضمان أن هذا الكتاب غير متجلٍ في العالم – معاملته ببراءة، مثلما فعل النقاد الأقدم، كحديقة من الرموز، أو مثل رحلة بحث عن الكأس المقدسة أو الأب وما إلى ذلك- هو بحد ذاته استخفاف بإنجاز كونراد. وأن نتظاهر أن ليس للأدب محتوى سياسي أياً يكن هو حماقة مماثلة.

مها كان خاطئاً أو متطرفاً في حالات الأفراد، فإن اليسار الأكاديمي قد نبه القرّاء إلى الافتراضات الممكنة غير المرئية في اللغة ووجهة النظر. أشيبي وسعيد أجبراني على رؤية ،مثلاً، أن قراءة شابيرو ل “قلب الظلام” كانت أيضاً قراءة سياسية إلى حد بعيد. سأضيف بسرعة أن القيمة العظيمة لقراءة شابيرو “الليبرالية” تتمثل في عدم اعتمادها على الاختزال المبسط لمعنى الكتاب : عندما انقسم الصف المُستفز بأسئلة شابيرو فإنه لم يفعل ذلك من خلال السطور التي تنمط  كونراد كعنصري أو إمبريالي. على العكس من ذلك، لم يقرأ طالب أمريكي – أفريقي الكتاب بحثاً عن استهدافٍ ما من خلال الأدب لكن بحثاً عن إدراك الذات من خلاله، والطلاب البيض والأسيويين ما عدا واحد فقط حاولوا بطرقهم المختلفة أن لا يلوموا النص ولكن أن يستجوبوا أنفسهم. اشتركت إستجاباتهم في الإجماع الليبرالي لجامعة عظيمة تعتبر فعل النقد الذاتي أحد أعظم أهدافها وإنجازاً للتعليم الغربي ذاته. سياسات لطيفة، لكنها سياسات رغم ذلك.

بقراءة كونراد مرة أخرى يُصدم المرء بقلقه الاستثنائي وبتصريفه لهذا القلق. في النهاية، لا يجب أن يُرى وضعه المزدوج غير المستقر داخل الامبريالية وخارجها كنقطة ضعف بل كامتياز. نعم كونراد الملّاح المتمرس أمضى وقته بوصفه موظفاً كولونيالياً يعمل لدى الشركة البلجيكية في 1890 مُنجزاً رحلته الخاصة في الكونغو. لقد عاش فترة الوعي بالتوسع الكولونيالي. لكن لو أنه لم يفعل، هل كان بمقدوره أن يكتب كتاباً مثل “قلب الظلام”؟ هل كان بمقدوره أن يقبض بمثل هذه القوة الضارية على التفاهة الشاذة عديمة المعنى للطموح الكولونيالي، على الجشع، النذالة، الأكاذيب والمراوغة؟ كان الفيكتوري العظيم الأخير الذي يؤكد على المسؤولية والنظام، ويخوض في الوقت ذاته صراعاً منهكاً ومبرحاً ضد اللايقين والشك من كل نوع، بحيث أنه يطرح كل حقيقة في رواياته كوهم ساخر ويحول حكايته التعليمية الأخلاقية إلى معركة لا نهائية مستفزة ومربكة بين الافتراضات الرواقية للواجب والتواطؤ الفاسد للشر. الكابتن مارلو بطل كونراد يمقت كورتز الرهيب، ومع ذلك يشعر بعد موت كورتز بولاء لا يُقاوم لنزاهة ما اكتشفه كورتز في إنحداره العنيف نحو الجريمة.

مثّل “الرعب” عبء كونراد كإنسان وفنان –وكان بمثابة عنف مضاد  استحوذ عليه. لكن يا له من عائد في الفن! لا شك أن ت.س.اليوت وآخرين فهموا أن “قلب الظلام” تمثل أحد الأعمال الأساسية للحداثة، ضرب جديد من الفن قد تجد فيه تجارب العصر الجذرية الفاصلة تعبيرها في أشكال وجماليات  أكثر تعقيداً من أي وقت مضى. بتسليط الضوء عليه، يبدو عمل كونراد بتعقيده الرائع غير قابل للتصور من دون إسهامه بالقوى الهدامة للإمبريالية. ربما فهم أشيبي وسعيد هذا الأمر أكثر مما يمكن لأي قارئ غربي أن يفهمه. لكن العمل العظيم يغيظنا، يسوقنا لفهم الحماقة وحماسنا في الاستجابة له هو نوع من الإشادة. على الرغم من “أخطائه” فإن كونراد لن يُسقط أبداً من لوائح القراءة. إن حسرة سعيد وأشيبي تؤكد فقط مركزيته وأهميته للعصر الحديث. 

في نهاية الفصل الدراسي الثاني، تحدث هنري مطولاً عن تقدم كورتز نحو الموت وعن “الامتياز الذي حظي به مارلو في مراقبة هذه الذات تقابل ذاتها”، كان أليكس صامتاً وعدائي تجاهه قد انحسر. تذكرتُ أنني لم أكن أحب نفسي كشاب. كان أليكس قد قاوم إجماع الصف، الأمر الذي تطلب بعض الشجاعة أو التعنت، ولو أنه رأى أنه كان بريئاً من “الظلام” لكان لديه الوقت الكافي ليكتشف خلاف ذلك. قاومت الليبرالية الإنسانية في صف شابيرو وتمكنت من النجاة مع أن التجربة كانت قد تركتنا جميعاً مصدومين قليلاً. كان من الصعب في تلك الأيام، كما لاحظ شابيرو، أن تجد نفسك.

لا أريد أن أقول إن هذا عمل يعلم اليأس، أو إن الشر هو شيء لا يمكننا أن نعالجه  “قال شابيرو”. بمعنى ما، العالم الذي نعيش فيه ليس مظلماً كعالم كونراد، وبمعنى ما هو عالم أكثر ظلمة. ما نراه ليس انزلاقاً ذا اتجاه واحد نحو القيامة. نحن أنفسنا لدينا القدرة الآن أن ندرك وحتى أن نصحح ونغير مجتمعنا، تماماً مثلما يتأمل الأدب، ويجسد ويخدم بوصفه عاملاً للتغيير”. 

عاش الطلاب ما حدث من جديد. أرادوا المصالحة والسلام. بدا أن واحداً منهم اكتشف، مثل مارلو، ما كان يبحث عنه. لقد “وجد” نفسه. “صرخنا في البرية ورددت البرية صراخنا”، قال هنري مختتماً عرضه بحركة مسرحية. “هناك توتر، وعند نقطة التوتر ندرك طبيعتنا”.  

………………………….

*جيمس شابيرو: أستاذ جامعي أمريكي ومؤرخ أدبي يعمل في جامعة كولومبيا.      

-الاقتباسات بين قوسين من ترجمة “قلب الظلام” للدكتور مالك سلمان.

*مجموعة من سبعة عشر محاكاة ساخرة كتبها رسام الكاريكاتير الإنجليزي وكاتب المقالات الساخر ماكس بيربوم.

*اللغة المشتركة : مجلة أمريكية تدور حول الحياة الفكرية والأدبية في الأوساط الأكاديمية.

 

 

مقالات من نفس القسم