مصطفى بيومي: الرواية هي أكثر الأجناس الأدبية قدرة على التعبير عن هموم الواقع

mustafa bayoumi
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاوره: علي حسن

الأستاذ مصطفى بيومي؛ راهب الفكر والأدب، قلما يغادر صومعته، ونادرًا ما يفارق اعتكافه الإبداعي، يكره الضجيج الزاعق، والثرثرة الفارغة، قلمه “الرصاص” لا يفارق أنامله، دائم القراءة أو الكتابة، فعل الكتابة عنده كالشهيق والزفير، لا يكاد يضع فكرة حتى يأتيه المخاض بأفكار بكر، يستقبلها بشغف وبشر.
لكنه مع كل هذا ليس يعيش في انعزال وغربة، يضرب حول ذاته أسوارًا تفصله عن بيئته ووطنه وناسه، فهو لطيف المعشر، هادئ الطباع، دمث، كريم، شديد الترحيب بكل مَن يتواصل معه.
هو الشاعر وإن هجر كتابة الشعر منذ سنوات؛ يعشق الكتابة الروائية والسينمائية، هو الناقد الفذ الذي بذل كل سنوات عمره في دراسة مئات الأعمال الأدبية، والكتابة النقدية الرصينة، دون انتظار لجائزة أو تكريم.
الأستاذ لا يشعر بالإحباط أو اليأس أبدًا، رغم ما ينتابه من ألم أحيانًا فهو ألم مشروع كما يقول دائمًا، فهو يؤمن أن التاريخ ينتصر لأصحاب المواهب الحقيقية، مهما تم تهميشهم أو الحط من شأنهم، مكتفيًا بممارسة ما يعشق، حيث يجد في الكتابة ذاته ومتعته التي لا تقدر بثمن.
كان لي مع الأستاذ الراحل هذا الحوار؛ ولجت عالمه الرحب، مستأنسًا بفكره وصدقه وعمق بصيرته، متمنيًا أن يجد القارئ فيه متعته، مستكشفًا معي عوالم الأستاذ مصطفى بيومي كمفكر وناقد وأديب مصري قدير.  
………….
مئات وربما آلاف الكتب والرسائل العلمية، باللغة العربية وغيرها من اللغات، وعدد لا يُحصى من المقالات والحوارات والأفلام التسجيلية والبرامج التليفزيونية والإذاعية حول إبداع نجيب محفوظ، لكن الرائد العظيم يحتاج إلى أضعاف أضعاف ما كُتب عنه وتوقف أمام عطائه، ذلك أن إنتاجه الثري الغزير يفتح الباب واسعا أمام المزيد من الاجتهادات في القراءة والتأويل، والبحث عن قضايا وزوايا مختلفة لم يتطرق إليها الباحثون بعد. أنت لا تنزل إلى نهر هذا الرجل العظيم مرتين، فكل قراءة له كأنها الأولى، فهو متجدد دائما. إنه في رأيي الأعمق والأنضج في وصف مصر وشخصيتها، ورصد التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تمر بها في القرن العشرين، واقتحام الخبايا والأسرار النفسية التي تعتمل في أعماقها.
تبدأ علاقتي معه في مطلع السبعينيات وأنا طالب في المرحلة الثانوية، وعبر نصف قرن تقريبا تستمر المودة بلا انقطاع أو قطيعة. ولدنا في يوم واحد، 11 ديسمبر، وكثيرا ما أشعر أن الصلة معه تتجاوز العادي المألوف بين القارىء-الناقد والكاتب، فالأمر أقرب إلى “الحلول والاتحاد” بلغة أهل التصوف.
………………………..
لا تصدق روائيا يقول لك إنه غائب تماما عن النص الذي يكتبه، فهو لا بد أن يكون موجودا بطريقة أو أخرى، إن لم يكن من خلال حياته الشخصية بطريقة مباشرة، فربما عبر خبرات ومشاهدات وحكايات يسمعها ويختزنها في أعماقه ثم يعيد إنتاجها. القضية الجوهرية تتمثل دائما في قدرة الروائي على دمج العناصر الذاتية والموضوعية في نسيج متماسك يصعب التمييز بين مكوناته، والنجاح في هذه “الخلطة” هو ما يمنح العمل مذاقا متفردا وخصوصية لا تتكرر، وعندئذ يصير الكل في واحد. الرواية التي يكتبها الروائي ترجمة لحياته ومسيرة وطنه وتطور الإنسانية التي ينتمي إليها، وما الرواية إلا مجموعة من الحيوات، وما حياة الفرد في المقابل، أي وكل فرد، إلا مجموعة من الروايات.
…………………………….
المعاجم التي أنجزتها، المنشور منها وغير المنشور، عن نجيب محفوظ ويحيى حقي وعبد الرحمن الشرقاوي وفتحي غانم ويوسف إدريس وبهاء طاهر وعلاء الديب، فضلا عن الطيب صالح وعبد الرحمن منيف ومحمد شكري، تهدف في المقام الأول إلى مساعدة القارىء عبر تقديم إضاءة تعينه على استيعاب العالم الروائي والتواصل معه. الاجتهاد الذي أقدمه ليس رصدا ميكانيكيا، بل هو تحليل يكشف عن أبعاد كل شخصية والدور الذي تلعبه في البناء الفني، وهذه المعاجم تفيد الباحثين المتخصصين أيضا، لأنهم يجدون فيها، أو هذا ما آمله، ما يمكن أن يساعدهم ويوفر عليهم الكثير من الوقت والجهد حال تصديهم لدراسة قضية أو ظاهرة بعينها، ذاك أنهم سيجدون الكثير مما يتعلق ببحوثهم، ولهم بعدها أن يضيفوا ويتوسعوا.
……………………..
الرواية في رأيي هي أكثر الأجناس الأدبية قدرة على التعبير عن هموم الواقع وتحدياته ومفارقاته، ولا يعني هذا انتقاصا من شأن الشعر والقصة القصيرة والمسرحية، لكن “ملعب الرواية” أكثر اتساعا، ولهذا الاتساع تأثيره السلبي والإيجابي، فالأمر مردود إلى موهبة الروائي وقدرته على إتقان الصنعة وتقديم بناء متقن.
لا يمكن إهمال أو إنكار انتشار وهيمنة الرواية، والسؤال الذي ينبغي طرحه هنا: لماذا تحقق الرواية كل هذا النجاح والانتشار؟!. لا بد أنها تملك ما يؤهلها للهيمنة وتلبية احتياجات القارىء الذي يقبل عليها أكثر من اهتمامه بالأشكال الأدبية الأخرى.
على الصعيد الشخصي، توقفت عن كتابة القصة القصيرة والمسرحية والشعر منذ زمن طويل، وتركيزي كله ينصب على النقد والكتابة السينمائية والبحث عن تجارب روائية جديدة. رؤيتي هذه لا تصادر حق الآخرين في التعبير على النحو الذي يروق لهم، لكنني لا أخفي انحيازي إلى الرواية، إبداعا ونقدا.
……………………………..
أظنك تتفق معي في أن الحياة الثقافية المصرية المعاصرة تعاني أكثر من أي وقت مضى، ففيها جملة من السلبيات الخطيرة المهلكة، وأبرزها: لعنة الشللية، صناعة النجوم الوهميين عبر حملات الدعاية الغوغائية والعلاقات العامة، شيوع السطحية التي تصل في حالات كثيرة إلى درجة الابتذال، اللغة الركيكة، الانصراف عن القراءة الجادة، هيمنة جلسات النميمة، السرقات الفجة الوقحة؛ لكن الداء الأخطر في رأيي يتمثل في الانهيار الأخلاقي، فلا يتردد الباحثون عن الانتصارات الرخيصة في تصفية الحسابات من خلال الخوض في الأعراض وتوجيه الاتهامات الخطيرة المرسلة بلا أدلة أو براهين. المناخ سيء طارد يطيح بالجادين وأصحاب المواهب الحقيقية الذين لا ينتمون إلى شلة. ليس مستغربا في مناخ كهذا أن يتساقط الكثيرون مبكرا، ويؤثر آخرون التقوقع فرارا من القبح الذي يغتال كل جميل أصيل. كثيرة جدا هي الأسماء الرائعة التي لم تنل بعض ما تستحقه، جار النبي الحلو ومحسن يونس وفتحي عبد السميع وفتحي سليمان ويوسف فاخوري، على سبيل المثال.  كيف يُعاقب الموهوب المحترم بالإقصاء والإهمال لأنه موهوب محترم؟. هذه هي الكارثة.
…………………………………….
لا. لم أفكر يوما في التوقف عن الكتابة، فهي المعنى الوحيد الصحيح في  حياتي، لكنني منذ البدء أكره الضجيج الزاعق والثرثرة الفارغة التي لا جدوى منها. لأسباب شخصية لا تهم أحدا، قررت الامتناع عن النشر لفترة قد تطول، والهدف هو التركيزعلى استكمال ومراجعة بعض المؤلفات التي لم تكتمل، وتجنب المعارك الصغيرة التي ترهق الروح وتصنع الكدر والضجر. لا أنكر أنني أشعر بالضيق لأن العمل الروائي الأهم الذي كتبته في حياتي :”يوميات سعد عباس”، يتعثر نشره في الوقت الذي تظهر فيه أعمال أراها، من منظور موضوعي، تافهة وسطحية. ربما تكمن المشكلة في ضخامة الرواية، 1600 صفحة تقريبا، وهي مساحة تخيف الناشرين في ظل الارتفاع غير المسبوق في أسعار الورق وتكاليف الطباعة. رواية كهذه لا بد أن تصدر في أربعة أجزاء، ولن تباع بأقل من سبعمائة أو ثمانمائة جنيه، فهل يمكن أن تغطي تكلفتها؟. لا أشعر بالإحباط واليأس، لكنه الألم المشروع.
…………………………………..
مصر عامرة بالخيرات والمواهب في المجالات كافة، وفيها مئات المبدعين في الرواية والقصة القصيرة والشعر والمسرح والنقد، وكذلك في السينما والموسيقى والفن التشكيلي والنحت والدراسات الإنسانية والترجمة. لا عقم ولا إفلاس كما يتوهم بعض الذين يحكمون بالظاهر السطحي، لكن المشكلة كما قلت لك من قبل تكمن في المناخ الرديء الذي لا يمنح هؤلاء الموهوبين الجادين ما يستحقونه من الاهتمام.
دعنا نتفاءل ونقول إنه لا يصح في النهاية إلا الصحيح، ولا بد أن التاريخ سينتصر للكثيرين ممن يتم تهميشهم واستبعادهم عمدا عن المشهد. متى ينتصر لهم التاريخ؟. هذا سؤال صعب لا أملك الإجابة الدقيقة عنه، فالأمر رهين بتفاعلات معقدة وتحولات شتى لا يسهل التنبؤ بها.
…………………………….
أساتذتي وأصدقائي من المفكرين والمبدعين لا حصر لهم. بعضهم غادر دنيانا منذ مئات السنين، وبعضهم شباب يصغرونني بربع قرن. لا أريد أن أذكر أسماء حتى لا أنسى أحدا، لكنني على سبيل المثال لا الحصر لا أتخيل حياتي بمعزل عن القيمة غير المحدودة للشريف الرضي وإيليا أبو ماضي إبراهيم ناجي وصلاح عبد الصبور وصلاح جاهين، وكذلك لأفذاذ الشعراء الذين لا يكتبون بالعربية مثل بول إيلوار ولوركا وبابلو نيرودا ورسول حمزاتوف. ماذا أقول عن إميل زولا ولورانس ودوستويفسكي وتشيخوف وكازنتزاكي ويحيى حقي ونجيب محفوظ وفتحي غانم ويوسف إدريس ومحمود دياب ويحيى الطاهر عبد الله؟. القائمة طويلة جدا، ذلك أن الكاتب الجيد يتعلم من عباقرة الإبداع، ولا فارق هنا بين القديم والحديث والمعاصر. يختلف الذين أحبهم في الأفكار السياسية والرؤى الفكرية، لكن المشترك الأساس بينهم هو الانتصار للإنسان، وكل ما عدا ذلك تفاصيل أقل أهمية.
………………………….
أعتز جدا بكتابي عن “اليهود في الرواية المصرية.. الاندماج والقطيعة”، وقبله بسنوات نشرت كتاب “وطنيون وطائفيون.. شخصيات مسيحية في الأدب المصري”، وبين هذين الكتابين نشرت دراسات شتى تتوقف أمام القضايا الاجتماعية والسياسية كما يعبر عنها الأدب الروائي، والتوجه في القراءة والتحليل قوامه التأكيد على أن مستقبل مصر رهين بالمواطنة التي لا تعرف التمييز وفق معايير دينية وعرقية وجنسية، ورهين أيضا بالتسامح واستيعاب كل الاتجاهات والاجتهادات. مصر تتسع للجميع، والتعايش مع الاختلاف ضرورة حتمية، لكننا نعيش في زمن التعصب المقيت الذي ينتشر في سلوكيات الشارع ومدرجات كرة القدم والعلاقات اليومية بين العاديين من الناس. الأزمة الاقتصادية الطاحنة ليست سببا رئيسا وحيدا في هذا التدهور المرعب، فكم مرت بنا أزمات لا تقل قسوة، ولم نصل إلى ما نعانيه الآن. كيف سقطنا في هذا القاع السحيق؟. سؤال مهم، والسؤال الأهم الجدير بالاهتمام: كيف نخرج من القاع؟.
………………………….
كتاب “في حب زكي رستم” تعبير عن حبي للفنان العملاق القدير، وأحلم بكتيبات مماثلة عن الأفذاذ نجيب الريحاني وحسين رياض ومحمود المليجي ومحمود مرسي وسعاد حسني ونور الشريف وأحمد زكي، ودراسة مطولة عن عاطف الطيب. هؤلاء هم الأقرب إلى قلبي، ودعني أقول لك هنا إنني أستمتع كثيرا عندما أكتب عن السينما، وأقول لنفسي وللأصدقاء المقربين: كيف للروائي ألا يحب السينما ويتعلم منها ويستثمر مفردات لغتها في رحلة البحث عن أشكال روائية مغايرة للسائد المألوف؟.
أدين بالفضل كله للعم العظيم يحيى حقي في كتابة “عباقرة الظل”، فمنه تعلمت مبكرا أن تتجه عيناي للبسطاء العاديين المهمشين المقيمين في الظل، لكن الحياة لا تستقيم إلا بهم.
……………………….
المبدعون أطفال في أعماقهم، ترضيهم وتسعدهم كلمة طيبة محبة صادقة. التكريم قبل الرحيل مطلب ضروري، وكم سررت بالمبادرة الكريمة من الدكتور زين عبد الهادي وأسرة تحرير “عالم الكتاب”. مثل هذا النمط من المواقف الموضوعية النزيهة علامة جديدة على أن الحياة تستحق أن تُعاش.

مقالات من نفس القسم