منصورة عز الدين: ليس مطلوبًا من الأدب أن يؤدى إلى تغييرات اجتماعية وإنما تحفيز العقول للتفكير

شبح أنطون تشيكوف: في مديح الهُجنة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاورتها: أسماء سعد

«تنسج عوالم مختلفة بكلماتها، تبتعد عن المألوف بأبطال حكايتها، تعبر حدود الزمان والمكان عبر فضاءات مختلفة، لتقدم لنا العديد من الأشكال الأدبية ما بين القصص القصيرة والروايات وأدب الرحلة»، وهو أبرز ما يميز الروائية والكاتبة منصورة عز الدين التى سبق لها أن نافست بروايتها «وراء الفردوس» عام 2010، ووصلت إلى للقائمة القصيرة للبوكر، سادت حولها حالة من الإجماع على براعتها الأدبية فى إجادة التلاعب بالزمان وصهر معالمه ومكوناته، لتنطلق من ذلك فى طرح الأسئلة وإثارة الشكوك، عبر أدواتها الخاصة فى السرد.
خلال مشوارها الأدبى المتميز، استلهمت شخصيات من حكايات «ألف ليلة وليلة»، فى رواية «جبل الزمرد»، واستدعت قصصًا من التراث الأدبى العربى، ثم قدمت لنا رواية تجريبية مميزة «أخيلة الظل»، كانت لها تجربة مع أدب الرحلة من خلال كتابة «خطوات فى شنجهاى»، وخاضت تجربة أدبية متفردة من خلال رواية «بساتين البصرة» حيث مزيج مدهش بين الأحلام والفلسفة وتناسخ الأرواح، تلك الرواية التى وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر». فى السطور التالية نتحدث معها حول أحدث أعمالها الأدبية «أطلس الخفاء»، الصادرة عن دار الشروق، وهى رواية تدور حول بطل واحد وهو شخصية «مراد».
> متى بدأت كتابة رواية «أطلس الخفاء» وما هو منبت الفكرة الخاصة بالرواية؟ وما هى الأجواء التى أحاطت بكتابتها؟
ــ كُتِبت الرواية فى 2018، وبدأت فكرتها بتخيل شخص بلا حياة تقريبًا أو بحياة شبه خالية من الأحداث. كتبت المشهد الافتتاحى وأعدت كتابته أكثر من مرة، ومع كل كتابة جديدة كانت شخصية «مراد» تتبلور أكثر فى مخيلتى وكنت أقترب أكثر من معالم عالمها وتفاصيله. اعتدت الكتابة صباحًا، مع رسم رسومات كروكية وتخطيطات لمشاهد بعينها، وكان فى ذهنى وقتها أن العمل من الممكن أن يحتوى أيضًا على لوحات داخلية مصاحبة لـ«تجليات» مراد، ثم غيَّرت رأيى لاحقًا. أنهيت الرواية فى شنجهاى، وتركتها فترة، ثم عدت إليها لتحريرها ووضع اللمسات النهائية عليها خلال إقامتى الأدبية فى باريس من يناير إلى أبريل 2021.
> هل تنحازين إلى الراوى العليم أم غير العليم فى تقنية السرد أم أن الضرورة تفرض ذلك فى العمل الأدبى؟
ــ لكل نوع من الرواة جمالياته الخاصة وأدواره، واختيار الراوى الملائم لكل عمل نقطة أساسية عند بدء الكتابة لأنها تحدد زاوية النظر الذى يُقدِّم من خلالها الكاتب عالم روايته للقارئ. المسألة لا علاقة لها بانحيازاتى الشخصية بل بطبيعة كل عمل وزاوية النظر الأنسب له وقدرة الراوى المختار على الإيفاء بمتطلبات العمل واحتياجاته الفنية. وأحيانًا يتعدد الرواة فى العمل الواحد تلبية لحاجة فنية. فى «أطلس الخفاء» مثلًا يوجد الراوى العليم الذى يحكى عن مراد من مسافة معينة، ثم هناك حكى بضمير الأنا فى تدوينات مراد.
> نلاحظ أن هناك دلالات مميزة ولافتة فى اختيار العناوين الفرعية «السير على كسر الزجاج، شارع واحد فى أماكن متعددة، ذكرى الطوفان، نافورة مضيئة، فم الأرض»، فى رأيك كيف يخدم ذلك العمل الأدبى؟
ــ أهتم دومًا باختيار عناوين الفصول؛ إذ أرى أنها جزء من جماليات الرواية ككل. ستلاحظين مثلًا أن عناوين الفصول عنصر مهم فى «جبل الزمرد» و«أخيلة الظل» و«بساتين البصرة» أيضًا، فمعظمها يرسم صورة بصرية ما قد تكون دلالتها موازية للعمل وتفتح باب التأويل فى اتجاه مختلف، وقد تكون من معبرة عن جوهر الفصل. فى «أطلس الخفاء» لا توجد عناوين للفصول، بل أرقام وقد اخترت هذا لأننى شعرت أن الأرقام مناسبة أكثر للتمييز بين الفصول لأنها تجعل الانتقالات من فصل للذى يليه أسهل وبلا نتوءات، لكن فى المقابل تدوينات البطل كان لا بد لها من عناوين تعبر عنها وتبدو كعلامات إرشادية، فالتدوينات وإن كانت تصدر من مخيلة واحدة وعقل واحد هما مخيلة مراد وعقله إلّا أنها يمكن تقسيمها، فمنها ما يبدو أقرب إلى تحوير لذكريات بعينها ومنها ما هو أقرب لمحاولة إشباع احتياجات غير مشبعة فى الواقع، ومنها ما هو شطحات تعبر عن الشخصية وما تكتنزه من خفايا وأسرار.
> ما الفرق بين «أطلس الخفاء» وباقى أعمالك السابقة؟
ــ هى أكثر رواياتى تمحورًا حول شخصية واحدة. «متاهة مريم» كانت متمحورة بالأساس حول شخصية مريم، لكنها احتوت أحداثًا أكثر كما شغلت الشخصيات المحيطة بالبطلة مساحة أكبر مقارنة بمن يستدعيهم مراد فى ذاكرته أو يتحرك بينهم. العالم فى «أطلس الخفاء» يبدو كأنما يجرى بأكمله فى داخل مراد وعلى صفحة ذهنه وذاكرته. التحدى خلال الكتابة تمثّل فى كتابة عمل بأقل قدر من الأحداث وببطل حياته رتيبة ولا يكاد يحدث فيها شىء، ومع هذا يجد فيها القارئ ما يثير اهتمامه، وأتمنى أن أكون قد وُفقت فى هذا.
> البطل مراد فى «أطلس الخفاء»، والبطل «هشام» فى «بساتين البصرة»؟ لماذا لا نرى الشخصيات الرئيسية من السيدات وهل قصدتِ ذلك؟
ــ فكرة العمل وطبيعة العالم هما ما يقترحان ذلك. فى «بساتين البصرة» نبعت من حلم وارد فى كتاب «تفسير الأحلام الكبير» المنسوب للإمام محمد بن سيرين، وهو حلم رآه رجل مجهول وحكاه للإمام الحسن البصرى كى يفسِّره له، وبطل الرواية بشكل ما هو محاولتى لتخيل حياة معينة لهذا الرجل المجهول وعلاقة هشام ــ كما يتصورها ــ به. وبالتالى فالبطل رجل، وإلى جانبه شخصيات أخرى؛ رجال ونساء. وفى «أطلس الخفاء» بزغ بطلها فى ذهنى منذ البداية فى صورة شخص ستينى. ولا أرى مشكلة فى هذا، بل على العكس أتحمس له. فى روايات سابقة لى البطلات نساء: «متاهة مريم» و«وراء الفردوس» و«جبل الزمرد» و«أخيلة الظل» أهم شخصياتها نساء وليس البطلات فقط. «وراء الفردوس» محورها أوضاع النساء فى بيئة ضاغطة، و«جبل الزمرد» فيها درجة من تأنيث العالم بكل ما ينطوى عليه هذا. طوال الوقت لا أسعى لتحديد مخيلتى التضييق عليها بأطر محددة أو أفكار ثابتة، بل أحاول إطلاق العنان لها. ودائمًا، فيما يخص الإبداع، حين أُسأل: لماذا؟ يكون ردى التلقائى: ولِمَ لا؟.
> «أطلس الخفاء» البطل يقدس الصمت والعزلة ويجيد خلق مسافات كبيرة بينه وبين الناس.. هل تتفقين على أن ذلك بات له صدى فى الواقع لدى عديد من الأفراد، ولماذا؟
ــ نعم، تزداد العزلة فى عصرنا الراهن وتتسع المسافات بين الناس نفسيًا حتى داخل الأسرة الواحدة فى ظل شيوع أنماط من التواصل الافتراضى هى فى جوهرها تكرس اللا تواصل، هذا بخلاف عوامل أخرى لا مجال للتفصيل فيها هنا. لكن من ناحية أخرى، عزلة مراد مختلفة إذ هندسها ووضع أسسها بنفسه وأجاد هو خلق المسافات بينه وبين الآخرين كما أشرتِ فى سؤالك. لقد أعجبنى تأويل الروائى السورى سومر شحادة لهذه العزلة فى مقاله عن الرواية، حيث رأى أن مراد فى تدويناته «يصوّر عالما عناصرهُ متباعدة، وناسه يظهرون اجتماعيين كى ينفوا حقيقة مناقضة، وهى أنّهم ليسوا كذلك. كأنّ فى تمثيل السلوك الاجتماعى تأكيدا قهريا أنّ الإنسان بات يعيشُ معزولا»، وخلص إلى أن العزلة فى «أطلس الخفاء»: «تقيم فى الخارج بين الآخرين، بينما الداخل غنى بالحكايات التى تأتى مرّةً من الخيال ومرّةً من الذاكرة».
> هناك محاولة واضحة للبعد عن «المباشرة» فى «أطلس الخفاء» ما أهمية ذلك؟
ــ بالفعل هناك محاولة للبعد عن المباشرة ولجوء إلى الإيحاء بدلًا من القول المباشر، على سبيل المثال، تأثير المجتمع وطبيعته واضح على شخصية البطل خاصة فى إحساسه بأنه تحت المجهر وفى افتقاده للأمان، لكن تأتى الإشارة إلى هذا لمحًا، فأنا مع البحترى فى قوله: «الشعر لمح تكفى إشارته»، وأرى أن بيته الشعرى هذا يصلح دستورًا لكل الفنون وليس للشعر فقط. الإيحاء يفتح باب التأويل بطبيعة الحال ويجعل القارئ شريكًا فعليًا فى النص الأدبى.
> من وجهة نظرك، هل ترين أن الأعمال الأدبية هدفها المتعة فقط أم يجب أن يكون لها أدوار تتخطى ذلك إلى حد غرس القيم وإحداث التغيير؟
ــ المتعة عنصر أساسى ولا أرى تعارضًا بينها وبين أن نبحث فى العمل الأدبى عن ما يتعداها. غير أن علينا الانتباه إلى أن مفهوم المتعة متسع ويختلف تعريفه من قارئ لآخر، فهناك من لا يمتعه سوى الأعمال الخفيفة التى لا يحتاج أن يشغل ذهنه عند قراءتها بأى فكرة، وهناك من لا يشعر بالمتعة سوى عند قراءة ما يفتح أمامه آفاقًا جديدة أو يحفز عقله على التفكير والتساؤل.
وفيما يخص دور الأدب أو أدواره، عادةً ما أكون حذرة عند التطرق لهذه النقطة، إذ قد يوحى هذا بالتفكير فى دور تلقينى وتوجيهى ما للأدب، ما قد يضر به من الناحية الفنية.
ففى رأى أنه ليس مطلوبًا من الأدب أن يؤدى إلى تغييرات اجتماعية وسياسية مباشرة، يكفيه أن يكون مخلصًا لقيمه الفنية والجمالية وممتعًا لقارئه محفزًا عقله على التفكير والشك والتساؤل.
وسواء قصد الكاتب أم لا، للأدب الجيد طريقته الخاصة فى التغيير والتأثير، حتى ولو ببطء وبطريقة غير مباشرة وعلى نحو فردى. إذ بإمكانه تغيير طريقة تفكير القارئ الفرد، وإعادة تشكيل الكيفية التى يرى بها العالم من حوله والتى يتفاعل بها معه.
وعمومًا، أفضِّل التخلى عن مفردة «التغيير» لصالح مفردتَىّ «التأثير والأثر»، إذ أراهما أكثر تعبيرًا عن الآلية التى نتفاعل بها ما نقرأه وأقرب لطموح منتجى الأدب أنفسهم. فمهما زعم هذا الكاتب أو ذاك أنه غير عابئ بعملية تلقى أعماله أو غير مشغول بالقراء، أجازف بقول إنه لا يوجد كاتب لا يطمح فى أن تترك كتاباته تأثيرًا ما حتى ولو على قلة قليلة.
> فاز كتابك «خطوات فى شنجهاى» بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة حدثينا عن ذلك؟ ما رأيك فى أدب الرحلات؟
ــ هذه الجائزة عزيزة جدًا علىّ لأنها فى منطقة مختلفة بالنسبة لى وهى «أدب الرحلة»، كما أنها تحمل اسم أحد أهم الرحالة على الإطلاق وهو ابن بطوطة، هذا بخلاف أن الثقافة الصينية القديمة جزء من تكوينى الثقافى، وبالتالى كانت فترة إقامتى فى شنجهاى بدعوة من اتحاد كتاب شنجهاى ثم زيارتى التالية لبكين وجوهاى بدعوة من مركز مو يان الدولى للكتابة الإبداعية فرصتين مهمتين للاقتراب من ثقافة لطالما اهتممت بها. فى الرحلتين دونت الكثير من المشاهدات والملاحظات فى صورة يوميات كتبت فيها عن الأماكن الجديدة والجغرافيا المختلفة وبالأساسى عن نفسى فى هذه الأمكنة وتفاعلى معها وعلاقة هذا بالكتابة ومفهوم المسافة مجازيًا وفعليًا.
بالنسبة لأدب الرحلات فأنا من قرائه، بل حتى بدأت علاقتى بالقراءة معه، ثم مع الوقت قرأت أدب رحلات قديم ومن ثقافات مختلفة، وأرى أنه فى بعض تجلياته الأفضل لا ينفصل عن الإبداع، فالأدب عمومًا ينطوى على رحلة ما، والملاحم القديمة قوامها الرحلة فى معظمها. وهناك مقولة أتفق معها تمامًا هى: «الأدب العظيم واحد من أمرين: شخص يبدأ رحلة أو غريب يصل إلى المدينة«. وفى الحالتين نحن أمام رحلة».
يتجلى اهتمامى بمفهوم الرحلة والانتقال من مكان إلى آخر وتأثيره على الشخصيات فى كتابتى الإبداعية أيضًا، فى «جبل الزمرد» اشتباك مع «ألف ليلة وليلة» وألف ليلة قائمة على الترحال، وجبل الزمرد بالمثل كل شخصياتها تقريبًا فى حالة ارتحال، وعلى الدرب تكتشف الشخصيات ذواتها أو تضيِّعها، وتكتشف العالم أو تتيه فيه، والتيه من وجهة نظرى نوع من الاكتشاف، بل ربما يكون الطريق الأمثل للاكتشاف. فى «أخيلة الظل» كذلك هناك ارتحالات وتنقلات بين الأماكن، وكذلك فى «وراء الفردوس» و«بساتين البصرة»، وحتى فى «أطلس الخفاء» مع أن البطل لم يغادر بلده، ولم يذهب أبعد من الإسكندرية، نراه يبتكر طريقة ما للارتحال والرؤية.
لكن إن تحدثنا عن أدب الرحلة حاليًا بمعزل عن الإبداع، أرى أنه يواجه تحديات كبيرة فى ظل الانفتاح على العالم وسهولة التحرك فيه مقارنةً بعصور سابقة، هذا بخلاف أن أى شخص بإمكانه التجول افتراضيًا فى أماكن بعيدة عبر تطبيقات تقنية، كما يوجد من يعرضون رحلاتهم المصورة عبر قنوات على موقع يوتيوب، وفى رأيى أن ما قد يميز أدب الرحلة المكتوب فى ظل هذا التنافس هو التمسك بأدبيته وذاتيته، أى أن يكون نصًا أدبيًا مميزًا فى حد ذاته ومعبرًا عن ذات كاتبه وخصوصية رؤيته للأماكن ودرجة تفاعله معها.
> ذكرتِ قبل ذلك، «كل شىء أعرفه عن الكتابة تعلمته من اهتمامى بالزراعة» كيف كان ذلك؟
ــ نعم، هذا صحيح. الزراعة من الهوايات التى تشكِّل الشخصية وتؤثر فيها تأثيرًا كبيرًا وتهذبها على نحو ما، وهى ليست فريدة فى هذا فكثير من الهوايات يفعل هذا فى حالة الانغماس الكبير فيها والانفتاح على التعلم منها، الصيد مثلًا يغيِّر الشخصية ويصقلها على طريقتها الخاصة، لكننى أتحدث عن الزراعة لأنها هواية مقربة منذ الصغر وحتى الآن. وقد لاحظت تأثيرها علىّ ككاتبة كما انتبهت إلى العلاقة الكبيرة بينها وبين الكتابة، وكيف دفعتنى لرؤيتها والتعامل معها بطريقة مغايرة مع الوقت. فمن بين ما أعرفه عن الكتابة وألهمتنى إياه الزراعة: الصبر، العناية بالتفاصيل، الانتباه إلى البيئة المحيطة، بذل أقصى ما أستطيع من جهد على أمل أن يثمر إذا كانت الظروف مواتية.
فى الكتابة كما فى الزراعة، نغرس بذرة ما، نرعاها ونحنو عليها دون أن نكون واثقين من النتيجة النهائية. فقط نأمل أن تتضافر كل العناصر معًا للوصول إلى أفضل نتيجة ممكنة، كلاهما يتطلب مرونة لا نهائية وعدم الخضوع التام لقواعد محددة سلفًا، بل أحيانًا ما يكون كسر قاعدة ما بابًا للتميز والاختلاف. وكلاهما يتطلب التواضع أمام ظروف ومحددات قد تكون أقوى من طاقتنا وحساباتنا.

…………………

*نقلاً عن “الشروق”

مقالات من نفس القسم