مشهد خارجي

سوسن الشريف
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سوسن الشريف

(1)

السرقة حرام

في إشارة المرور رأيته …

بوجه عابس خالٍ من الابتسام، مكسو بخليط من البؤس والشقاء وتراب الشارع، لا يتعدى الثانية عشرة، يطوف حول السيارات متوسلًا ليمسح الزجاج. لا يلتفت إليه أحدهم كأنه غير موجود، وآخر يغلق الزجاج في وجهه، وآخر ينهره بتعال، قليل من أعطاه جنيهًا أو أكثر. نظر ليرى ردة فعلي فيحدد ما إذا كان سيقترب أم يبتعد، أشرت إليه، أعطيته بسكويتًا وطلبت منه ألا يمسح السيارة، ابتسم ابتسامة بائسة كلها شقاء وملامح من طفولة.

لاحت دمعة متسائلة في عينيه، “هل ما زلت طفلًا؟!”

لن تلفت النظر بهذه الملابس الباهتة والجسد المنطوي، لن يراك أحد إلا عندما تأخذ أرغفة الخبز، سيراك الجميع، يلتفون حولك، السرقة حرام… هروبك كل يوم من أخوات بطونهم خاوية، انكسارك أمام أمك المشفقة على حالك، الجيران وكل منهم يتناوب دعوتكم على بضع لقيمات.

السرقة حرام …

تقول المذيعة لن نتكلف في إعداد هذه الوجبة، نحتاج بقايا من طعام أمس، بقايا الدجاج، بقايا الأرز، بقايا الخبز، قليل من الزيت والسكر لصناعة الحلوى. تتسمروا أمام الشاشة مشدوهي الأفواه، تلتقط أعينكم كل هذه البقايا، تغلق أمك التليفزيون ريثما تشعروا بالشبع، أو تستغيث البطون الجائعة بالنوم، انتهت وجبة العشاء لهذا اليوم. تُجبركم على تناول غذاءٍ متأخرًا، لكي لا يزوركم الجوع قبل النوم، وإن زاركم، فعليكم ببقايا ما تجود به الشاشات الملونة.

حصلت الأم من البائع على موزة واحدة، لو قسمتها عليكم ستطلق بداخل معدتكم الخاوية وحش الجوع، يقولون لا يمكنك الشعور بقدر جوعك إلا مع أول كسرة خبز تتناولها. فكرت تعطيها لأصغركم، يتمدد بجوارها ملتمسًا الدفء من ثوبها الباهت المتهرئ، سيأكلها كلها بمفرده وقد تشبعه للظهيرة.

يخبرها الشيوخ أن الصدقة من شروطها تحقيق الغنى والشبع، وأن الله يحب الفقراء.

تتساءل في سرها .. هل يعني ذلك أن الله لا يحبكم ؟!!

لا يهم .. المهم أنه يحب أولادي

 

(2)

ذاكرة الدجاج

قفز صوت المذيعة بانزعاج ملحوظ، وهي تصيح في الجمهور بانفعال وحماس غير مبرر، تتحدث عن أضرار اللحوم المستوردة وخطرها على الصحة، ولا ينطبق عليها مواصفات الطعام الصحي، الضروري للمحافظة على اللياقة والنضارة. تصوب كلماتها نحو غير القادرين والفقراء قائلة “يا بختكو إنكم مش قادرين تشتروا لحمة من أضرارها، ولو نفسكم فيها هاكرهكم في سيرتها وتعرفوا إنكم محظوظين!!”.

يشاهدها ذو الحادية عشرة في تليفزيون المقهى داخل الخرابة التي تحتضن غرف مكدسة بجوار بعضها البعض، سقفها من صفيح وكراتين قديمة، الحمام مشترك للأسر القاطنة في هذه البقعة المحسودة لأنهم لا يتناولون اللحم. قطع اندماجه في مشاهد اللحوم والدجاج الصوت المعتاد لسيارة المصنع بجوارهم، تُفرغ مخلفاته، ذهب مسرعًا ليلتقط ما يمكنه من أشياء وبقايا قبل أن يسبقه أحد إلى هذه الثروة. انتبه إلى كيس به دجاجة كاملة، عليها كدمات وبقع زرقاء وبنفسجية اللون، رائحتها كريهة للغاية، راودته صورة الدجاج الذهبي المرصوص بمحل الطعام في الميدان على الشواية، كم تمنى أن يمسك دجاجة كاملة بيديه الصغيرتين القويتين، يلتهمها دون رفق، تذكر والديه وإخوته. حمل الدجاجة مع ما جمعه من مخلفات، أعطاها لوالده، بينما أخذت والدته تقلب وتشم الدجاجة الكبيرة السمينة، وضعت عليها كثير من البهارات، وكل ما طالته يدها من الخضروات والبصل والثوم.

اختفت الرائحة إلى حد ما، ولن ينتبه أحد للطعم، فلم تمر دجاجة على ذاكرة معدتهم من قبل.

 (3)

كعب عالي

سيدة ترتدي عباءة سوداء، تحمل أكياسًا بلاستيكية ممتلئة بالخضروات والبقالة، تتأرجح من ثقلها مع كل خطوة، تقف لتستريح قليلًا وتلتقط أنفساها، تضعهم على الأرض، تستعيد توازنها، تحملهم مرة ثانية.  تنظر في يأس وترجي للسيارات تنهش الطريق، تتسابق للفوز بجائزة لا يعرف عنها أحد شيئًا، كل ما تأمل العبور إلى الرصيف المقابل. تتطلع في عيون المارة لعلها تجد من ينقذها، الشارع صار خاليًا، حتى من عسكري المرور الذي كان يساعدها أحيانًا في هذا الطقس اليومي من رحلتها إلى السوق.

توقفت السيارات فجأة، تزعم حركة توقفهم باص كبير تابع للهيئة الوطنية للمواصلات، الجميع انزلق في فجوة زمنية ساد فيها الصمت، بما فيهم أصوات آلات التنبيه المرتفعة، التي تباغت وتهزم رغبة أي سيارة في التوقف لمرور أحد، وكأن سائقها ارتكب فعلًا مشينًا.

تنتهز ذات العباءة السوداء هذه المنحة الإلهية لتعبر إلى مبتغاها، في الاتجاه المقابل تعبر سيدة تحتضن بخفة كوب بني اللون يحمل العلامة المميزة لذلك المحل الشهير بصناعة القهوة. ترتدي بنطالًا ضيقًا من الجينز، ينسدل عليه بالطو أحمر طويل يصل إلى ما قبل ركبتيها، وقميصًا أبيض مزينًا بسلاسل ذهبية، وحذاء بوت بكعب يكسر بخطواته الصمت، تتطاير خصلات شعرها وهي تسير بدلال غير مبالية بتوقف الزمن حولها وكأن كل ما عداها غير مرئي. تلتقي في المنتصف مع ذات العباءة السوداء، التي تدقق النظر إليها، لا تتبين لون عينيها خلف نظارتها الشمسية المرصعة بقطع الماس من كريستيان ديور، تترنح قليلًا بفعل عطر ذات الرداء الأحمر الأخّاذ، تتعثر، تنتفض على أصوات السيارات، تختلط مع عبارات تأنيب وما تيسر لهم من سب بألفاظ مسيئة.

تسرع الخطى، يصاحبها صوت الكعب العالي، والسُباب …

(4)

لقــطـــــــــــــــــــــــة

على رصيف القطار المغادر بعد منتصف الليل، البرد يحتوي الجميع، ما إن ركبنا القطار، بدأ الدفء يتلمس طريقه لأوصالنا.

يسير ببطء .. يمر على أكوام متفرقة من البشر، أب وأم وابنة يلتفون ببطانية وحيدة بائسة، ثمة رجل عجوز متكوّم في جانب ما، طفل مشرد يحتمي بالظلام وحده من أمين الشرطة والبرد.

غرفة المحطة يطل منها تليفزيون عتيق يعرض برنامج لأحد المذيعين من أصحاب البدل السينيه (الماركات)، يتحدث عن الغلابة …

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

قلب