عبور

أحمد برحال
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد برحال

اِستيقظت ذات صباح، فوجدت كل شيء قد تغير، وجدت البلدة قد غيرت بِنيتها. وسكانُها تحولوا عن عاداتهم، أصابني الذهول أول الأمر. كيف تتنكر البلدة لتاريخها؟ وكيف يتخلى الناس عن هوياتهم؟ لكني استوعبت التحولَ بعدما تأكدت أنه أمرٌ واقع.   

 أصبحت البلدة نظيفة المظهر، بشوارع متّسعة، وأماكن ومساحات خضراء واسعة، بحدائق تنتشر فيها الكراسي وبعض الطاولات، تتوسطها مكتبة مفتوحة، يمكن لكل مستريح على كرسي من الكراسي أن يأخذ كتابا يطالع فيه، وعندما يغادر يُرجعه إلى رفه، على جنبات الشوارع أشجارٌ أصبحت لطيفة، تَنفُث الرطوبة على المارين بلطف شديد.

 الممرات تتنوع، منها ما هو خاص بالراجلين، وأخرى للدراجات، وحتى هواة المشي والركض فكر فيهم المخطط والمنفذ فَرَسمَ لأرجلهم مساراً خاصاً في الفضاء.   

منظر الدكاكين التي تعرض السلع بمختلف أنواعها تجذب الزبون كلما مرَّ بواجهة من واجهاتها البلورية. كم أصبحت جذابة عندما نظمت سلعها في الداخل وأعادت ترتيب نفسها. وتخلت عن غُنجها في الشارع أمام الدكان كما كانت عادتها أيام الفوضى.

 اختفى الباعة المتجولون بعرباتهم البئيسة، وزاد فرحي لما وجدتهم منظمين في سوق عصري، بأجنحة حسب نوع البضاعة. الخضر في جناح خاص بها، وفي مقدمة الزقاق المؤدي إليها يُنضِّدُ بائعو الزيتون ومشتقاته مادتهم المخْضرّة، السمك في جناح معدٍّ لاستقباله والاحتفاظ بطراوته في ثلاجات عصرية وبشكل أنيق.

سلوكيات ساكني البلدة تحيي فيك بَذرة العشق للحياة، كلما التقيت بأحدهم، يرمي عليك التحية قبل أن تبادره. ينتظرون وسائل النقل في محطات مجهزة بكراسٍ حسب الحاجة. والناس يصعدون الحافلة في صفوف متراصة وبهدوء تام. لا يتحدثون كثيرا، وأكثرهم منشغل بكتاب جيب ينظر إليه طول المسافة التي يركب فيها الحافلة.  وقتهم ثمين ويحاولون استغلاله بما يليق من نشاط. يحرصون على ألا يضيع في تفاهات الكلام والأفعال، أما الحركة فقد أصبحت ديدنهم، عندما تخرج في الصباح الباكر يخيل إليك وأن المدينة صاحت كلها من النوم وارتدت الألبسة الرياضية لِتركضَ بكل سكانها. مدينة حيَّة تصحو مع العصافير التي تبيت على أغصان أشجارها، لقد أصبح للصحة مُتّسعُ حساب في عقول ساكني البلدة الطيبة، والاهتمام بالجسد كما بالعقل يسيران في توازن وتلازم دائمين.

 على مداخل الإدارات تم الاستغناء عن كل شركات الحراسة، يدخل المرتفق بكل هدوء وهو يحمل في يده جواله، يجلس على الكرسي وعندما يتأكد أن مؤشر ساعته وقف على الموعد الذي أخذه عبر الأنترنيت يتقدم نحو المكتب ليدلي بأوراق أو يأخذ أوراقا، ثم ينصرف وقد تبادل مع الموظف ابتسامات تعبر عن الشكر والامتنان، محملة بكل معاني الرضى.

بلدة تعيش الهدوء والسكينة. تتساكن فيها النفوس، وتتآلف الأرواح، في وفاق أسطوري.

أصبحت العلاقات دافئة بين الجميع، اقتربت الطبقات بعضها من بعض، وذابت الفوارق التي سبق لبشرٍ أن صنعها جداراً بين الإنسان وأخيه الإنسان.  حتى بعض الكائنات القريبة من البشر أحسّت بالتغيير، فرأيت الحمام ينزل في الساحات العمومية دون أن يخاف ركلات الصغار، أو وابل الأحجار التي يُمطَر بها عندما ينزل في ساحة من الساحات العمومية. رأيت كل البنايات وقد تخلت عن الشبابيك الحديدية التي أحاطت بالنوافذ، وعوضت الأبواب الحديدية بالزجاج، وحتى الكلاب تخلت عن عادة النباح بتلك الطريقة التي كانت عليها، أما القطط فإنها تبدو في وضع هادئ وقد نَصَعَ لونها.

عمي العربي يجلس على كرسي بلاستيكي مائل الظهر، وقد أرخى رجله اليمنى وهو يضعها على اليسرى، أمام بناية منزله الزجاجي الواجهة، لقد أخذ نصيبه من الجهد الذي بذله عندما كان عاملا بإحدى الشركات، لمّا أعادت جدولة التقاعدات لمستخدميها، وجبروا ضرره بمبلغ اشترى به هذا المسكن، وبقي معه مبلغ يكفي لتغطيَة عيشه حتى الوفاة، وقد تخلى عن عربته اليدوية التي كان بواسطتها يستطيع إكمال ما كان ينقصه ليغطي نفقات التغذية والدواء له ولزوجته وكان لا يستطيع ذلك إلا بمساعدة بعض المحسنين.

الهواء الذي يدخل إلى رئاتنا غير تأثيره على نفسياتنا، وبدأنا نحس أنه يدخل إلى أعماق في جسدنا لم يكن يصلها في سابق الأيام، فالمناخ العام للبلدة تغير، والايجابية تنتشر في كل مكان، الابتسامات على الوجوه والرأفة تسكن القلوب، أما الصلاح فقد أصبح ديدن كل ساكن من سكان البلدة.

فرحت لاختفاء مظاهر البؤس، وحياة الفوضى.

 وأنا أعيش متعة الحياة في البلدة الجميلة، فاجأني منبِّه هاتفي اللعين ليُرجعني إلى بؤسي، عندما رَنَّ بلا رحمة يُعلن عن وصول قطار الصباح. 

 

        

 

مقالات من نفس القسم