تواصل نظرها للوردة الذهبية غير المكتملة وتجيب: مسافر.
أسألها: أين؟
بلا انتباه تجيب: تحت الأرض.
أجيبها مذعورةً: وكيف لا يسقط؟!
تترك وردتها وتنظر من النافذة وتقول: لعله ممسك الآن بعمود خشبي يمنعه من السقوط.
أسألها: كما المسيح؟
تقول مغمضةً وعلى وجهها ترتسم ابتسامة خفيفة: كما المسيح.
أمسكْت “كارلا” وأخذت أحرك أناملي في فرائها: “ألا يوجد لديهم هناك تليفون نكلمه خلاله؟
– لا، فوقتما يكونون مستيقظين نكون نائمين.
– كيف؟ ها، كيف؟
– هناك فارق وقت بيننا، الشمس تأتي هنا أولًا، وتتأخّر عنهم إحدى عشرة ساعة كاملة، وقد لا تذهب إليهم، إذا ما خافت من التأخر في السهر حتى تأتي إلينا في الموعد غدًا.
تدحرجت كرة الخيط من يد أمي، قفزت القطة وجرت نحوها: إمممم، إذن لنذهب إليه، افتقدته كثيرًا، هكذا أقول، فتجيبني وقد ضجرت من أسئلتي: قد نسقط.
أقول لها: لنذهب إذن بعمدان خشبية مدببة.
– قد نذهب إليه ويعود هو من جانب آخر.
ثمّ تجذب كرة الخيط من براثن القطة وتشير مستكملة حديثها: إذا ذهبنا من هنا، وأتى هو من هنا، سوف نضيّع فرصة التقائه في البيت، ها هنا بجوار المدفأة المخلصة.
هاااه، كانت أمٌّ عظيمة، لم تتفتح عيناي على الموت وقتها، رغم أنني حضرت مراسم دفنه، إلا أنها قالت: “إن الطريق الى أسفل الكرة أسهل وأقصر إذا ما عبرتها قطعيًّا”، وقد صدقت بالفعل.
حين أتممت الرابعة كانت هدية العيد أن أحضرت لي أمي كلبًا، بعد أن ذهبت “كارلا” لزيارة أبي، وباءت محاولات أمي العديدة بالفشل في إنجاب أخ لي، وقتها كنت أظن أن غياب أبي لن يعوق تحقيق أمنية أن يكون لي أخ، هه، حسنًا، كان الكلب أفضل لأنه لن يطلب لِعَبًا وحلوى تنقص من حصّتي.
لم أعرف أن أبي لن يعود، شأنه شأن كل من رحلوا، لم أعرف ذلك سوى من “إدوارد” في أحد أيام ديسمبر الأخيرة، أعتقد أننا كنا في الإجازة الدراسية – ما قبل امتحانات نصف العام – أجلس على جذع شجرة مقطوعة مجاورة لشجرة كافور عالية، وارفة ولها ظلال، أجلس ممسكة بيدي فرعًا نحيفًا أرسم به دوائر على الأرض الطينية من أمامي، في الجهة المقابلة لمحت فتى يفعل مثلما أفعل، يرفع عينيه خلسة نحوي، وحين تلاقت أعيننا أدرك أنني رأيته يقلدني، فرمى الفرع من يده وغادر المكان برقعتي احمرار تصبغان وجنتيه خجلًا، قمت من جلستي ومسحت تنّورتي من أوراق الخريف، وذلك الحَبّ الصغير الساقط من شجرة الكافور في كل مكان، اقتربت من كلبي الذي أطلقنا عليه “كارل” – تيمُّنًا بـ “كارلا” أعادها الرب بخير – وأخرجت حبلاً ملفوفًا من جيبي، وفردته، ثم ركّبت طرفه في طوق “كارل” وسحبته عائدة إلى منزلي.
كانت أمي تجلس أسفل السلم، وما إن رأتني إلا ومسحت عينيها، واصطبغ وجهها بابتسامة خفيفة، جلست على حجرها وأطلقت سراح “كارل”، كانت في أبهى حلّة كما اعتدتها دومًا، بفستان أبيض مكسور بقليل من اصفرار الحساء، تزيّنه تطريزاتها بالأزرق السماوي، تمامًا كما يرتدي تمثال “مريم” أمام مرآة حجرتي، حسنًا، فلم تعد مريم في مكانها هذا، ولعلّي لا أعرف أين وضعتها أمي بعد أن باعت أغلب أثاث بيتنا.
مالك تجلسين هنا؟ سألتها وهي تحرك أناملها في شعري كما يحرك البحّار مجدافه بين الماء المقاومة، لم تجبني، احتضنتني ووقفت، وأنا على يديها، يبدو أنني كنت أثقل من أن تحملني، أفلتتني واقفة واختل توازنها، كادت أن تقع لولا أن استندت إلى الباب، ودخلنا.
انتهينا من تناول الغداء، وجلسنا أمام التلفاز نشاهد حلقات “القط والفأر”، عادة ما كان يقتلنا الضحك أمام هذه الحلقات، لكنني كنت أضحك وحدي يومها، وضعت صينية الشاي وأخذت أضع مكعبات السكَّر وأقلِّبها، لمحتها تنظر إلى البقعة الداكنة التي خلَّفتها صورة أبي على الحائط، زادت سرعة الملعقة في يدي، وأصدرت صوتًا حادًا خطف انتباه أمي، سألتها: “مالك يا أمي لا تضحكين؟”، بينما لا زلت أنظر لسطح الشاي في الفنجان، وللفقاعات ذهبية اللون، لقد استعدت كمًّا هائلا من الذكريات وأنا أذيب السكر في فنجان الشاي منذ قليل، وربما كان هذا سبب حكايتي لكِ من الأساس.
المهم، أجابتني في سأم: “شاهدت هذه الحلقة من قبل”، واقتربت لتأخذ فنجانها، مسَحَت قاعدته المبتلة بمنديل، ووضعت إصبعها على حافته، طوقته بأناملها مرات عديدة، كما تقرأ إبرة الجرامافون فراغات الأسطوانات القديمة فى المدرسة.
“ليكن، ليست المرة الأولى التي يكررون فيها عرض الحلقات، رغم ذلك كنت تضحكين في السابق” هكذا أردفْتُ معلقة على تبريرها، أغلقَت التلفاز والتفتت نحوي قائلة: “سننتقل من هنا“.
ارتبكت قليلا وسألتها: “إلى أين؟”
– أي مكان، هه، لن يشكل هذا فارقًا.
قالت هذا ثمّ ارتشفت جرعة من الشاي، يبدو أن سخونته قد لسعت لسانها، فابتلعتها وابتلعت الألم ولكن شيئًا منه تسرب إلى ملامحها، وعادت بنظرها نحو الحائط مجدّدًا، وشيئًا منه أيضًا دفعنى إلى السؤال:
– ومدرستي؟
اكتفت من النظر نحو الفراغ الداكن عن لون الحائط، ونظرت إلى ساعتها ثم قالت: “لا أعرف أصلاً هل ستتمكنين من التسجيل في مدرسة أخرى هذا العام أم لا”
– لماذا؟ وأصدقائي هنا؟
– مَن؟ أنت لم تحكى لي عن أية أصدقاء
– كل من في الفصل أعرفهم ونتحدث بين الحين والآخر
– هؤلاء لا نعتبرهم أصدقاء، كانت لي صديقة في يوم ما، كنا نتشارك الحياة، لا نفترق، وإن فعلنا تظل الواحدة منا تفكر في الأخرى
– امممم، لكن لماذا؟ وماذا لو عاد أبي ولم يجدنا؟
وقتها أعتقد أنها كانت المرة الأولى التي لم تجبني فيها على الإطلاق، وحتى لم تلتفت لي، نزلت من عينها دمعة عنوةً، واتخذت مجرى أظنّه لم يجف ليلتها.
في اليوم التالي، رحت لجذع الشجرة نفسها دون “كارل”، كان في يدي كيس به حبّات من الذرة المسلوقة المملّحة، وجدت الفتى يجلس قبالتي مجدّدًا، ذهبت نحوه أتفحّصه بنظري، فيما ينظر هو نحو الأرجوحة التي تشبه طواحين الهواء، سلّمت عليه فتفاجأ، ثم تحدث على استحياء، أخبرني أنه يدعى “إدوارد”، يعيش برفقة خالته، وأن أبناءها لا يسمحون له بأن يلعب معهم، لا يعرف السبب في هذا، لكنه يرجّح أن أمهم تواصل سباب أبيهم عندما تأتي سيرته وسط مشاجراتهم اليومية ما قبل النوم، وذلك سبب كافٍ للأمر، تقاسمت معه حبات الذرة، وسأل عن “كارل” فأخبرته أنني آثرت تركه مع أمي اليوم لأنها تحتاج رفقته أكثر مني، ثمّ سألته:
– ماذا عن أبويك؟
– ماتا في حادث سيارة، كنت معهم، يقول القس إنني نجوت من الموت بأعجوبة.
– كيف ماتا؟
– كما قلت لكِ، في حادثة.
– لا، أفهم الحادثة، لكن كيف ماتا؟
– لا أعرف، خالتي تقول إنهم يسبقوننا وينتظرون هناك.
– هناك أين؟
– عند الله.
حكيت بدوري عن حالي، ولما انتهيت قال إدوارد: “أبوكِ أيضا عند الله، أمك تكذب عليكِ”، فأجبته يومها منفعلة: “لا، أمي لا تكذب قطّ، ربما يكون الرب هو الآخر أسفل الكرة“.
انتقلنا إلى مشغل للخياطة في آخر الشارع، صاحبته عجوز تُدعى “إيفون”، لا تجيد الكلام، وأيضًا لا تطيقه، لا أعرف، كنا نخفض صوتنا حين نتكلم أنا وأمي، كي لا تسمعنا، بالنهار كانت العاملات يعملن كلٌّ في صمت، صوت آلات الخياطة وسحب الأثواب من فوقها وإلقائها فوق بعضها مطبّقة كانت هي الأصوات الوحيدة التي نسمعها طوال اليوم، غير أنه في أيام المطر كان الله يعزف فوق سقف المشغل الصاج مقطوعات موسيقية جميلة، تقطع على “إيفون” صفوها، فتصبح عكرة المزاج، وتصيح كثيرا فيمن تخطئ من العاملات، وتواصل زمجرتها إلى أن تهدأ الأجواء، أو ينتهي العازف من حفله الموسيقى هنا، ويمضي نحو حفل في مكان آخر.
كنت ألعب مع أمي بين الأثواب والفراء والخيوط، لما يحل الليل وتذهب زميلاتها لبيوتهن، أرتدي ثوبًا كبيرًا وأدور، إلى أن يلتف ذيله حولي ويعيق دوراني، فأجلس مجهدةً وأراقب أمي تدور في فستانها وتقفز وتخطو وكأنما تحملها نقاط على السلم الموسيقي، ترقص حتى تتعب، فتجلس إلى جواري، ونضحك بصوت خفيض، وأحيانًا كان يعلو صوتها فنسمع صياح “إيفون” من غرفتها في الطابق الثاني، هههه.
ظللت على صداقتي بـ “إدوارد”، كنا نشكل عصابة مشاغبين، نضايق الأطفال ونأخذ الألعاب منهم، أذكر انني طلبت من مايا وستيلا وآرييل أن ألعب معهم لعبة لا أذكر اسمها، إذ كانوا يلقون حجرًا على الأرض من خلفهم فوق رسمة من المربعات المتراصة، وتقفز من ألقت الحجر إلى مكان سقوطه، ثم ترفعه وتقفز إلى مكان آخر، آآآآه، لم أعد حتى أتذكر اللعبة، لكن ما يظل ممسكًا بموقعه في ذاكرتي هو أننا كنا نتركهم حتى يقتربوا من نهاية اللعبة، ثمّ نخطف الحجر ونجري، وكانوا يجرون خلفنا، وبهذا نشترك عنوة في اللعب معهم، لكنهم كانوا يتضايقون منا.
كان إدوارد يبكي حين وجدته يجلس على أرجوحة ثابتة في الفسحة بين الحصص، مددت يدي بمنديل قطني ومسحت دمعته، دفع يدي وأشاح بوجهه متهرّبًا مني، جلست الى جواره صامتة، قال: “أفتقدهم، أعتقد أنهم لم يحسنوا الاختيار“.
– من؟
– أمي وأبي
– خيار ماذا؟
– أن يلعبا لعبة الاختباء تلك، لماذا تركاني وحيدًا هنا؟
–لا أعرف، حتى أمي لا تعرف، يبدو أنه لا أحد يعرف، حتى الأستاذ لورين لا يعرف
– لا، الأستاذ لورين يعرف كل شيء
آه، كان “لورين” موسوعة أو ويكيبيديا متنقلة بالفعل، لماذا تركتموني بين هذه الجدران الباهتة والنافذة الوحيدة التي تطل على عديد من النوافذ سجينة الإسمنت، عندما تضيء واحدة منها ليلاً أجلس لأراقبها، وأدقق النظر فيما فيها من عالم دائر، تارة يغلفه الشغف وحميمية الحب، وتارة لا يفرق عن حالتي من رمادية الانتظار، أحسّه انعكاسًا لغرفتي، وكأن بيني وهذا المبنى المقابل مرآة، أغلق الضوء لعلّه ينطفئ هناك، لكنه يزيد وضوحًا، وتتكشف ملامح المأساة التي أجاهد نفسي طويلًا كي أنساها وأتعايش، سأخبركِ سرًّا، أنتِ كبرتِ الآن وستتفهمين، أنا أحدث نفسي أحيانا – أعرف أنني أطيل النظر إلى الفراغ، يعرفني وأعرفه، يحكي لي ويعرف عني كل حكاياتي، وإلا لما كنت هنا – أعني أنني أفكر، فيما يجول بخاطري ويكاد يكسّره، كما لو أنكم: أنتِ وأبوكِ وجدتِك، ذهبتم في رحلة سياحية إلى مدينة الأحلام والعجائب، وأنا تعلّلت بخوفي من ركوب الطائرة، فبدلًا من هذا ركبت السرير، يكبلونني في قوائمه كل حين، ويرغمونني على الأكل، الأغبياء لا يفهمون أن الطعام يجول بيني وبينكم، بيني وبين حلو الحياة.
المهم، أين توقفنا؟ آه، كان “إدوارد” يشعر ببالغ الضيق والوحدة، خاصة وأن يومها كان موافقًا لعيد ميلاده، ولم يتذكره أحد في منزل خالته.
– هاه، لماذا لم تقل؟ كنت أحضرت لك هدية، عيد ميلاد سعيد على كل حال
واسيته فابتسم نصف ابتسامة، وردّ عليّ بهز رأسه وبكلمة مقتضبة: شكرًا
– لكن تُرى ما الذي كنت أستطيع إحضاره لك
– أبي أعطاني هدية في عيد مولدي قبل السابق، كانت كتابًا
– هل قرأته؟
– لا، لم أكن أجيد القراءة بعد
– إذن لم لا تقرأه الآن
قلت هذا فصمت قليلا، ثم ابتسم وكأنما فرِحَ لاقتراحي هذا، كي يتظاهر أن أباه قد أعطاه هذا الكتاب الآن، وأنه يحتفل معه بمولده حتى بعدما سبقه إلى يسوع، الكتاب اسمه “مزيد من كل شيء”، اسم مثير للفضول، ها! كان “إدوارد” يحمل الكتاب طوال الوقت ولا يتركه من يده.
“أعرني الكتاب لألقي نظرة عليه”، طلبت منه هذا لكنه لم يلتفت لي، جلست إلى جواره أعقد شرائط بلاستيكية ملونة، اعتدت أن أحملها معي لقتل الوقت عبر صناعة سلاسل ودلايات، هاااه، لطالما دأبت أمي على إقناعي بألا أقتل الوقت إلا فيما ينفع، مللت الصمت، فأمسكت الكتاب وجذبته من يديه، سقطت منه ورقة مطوية، انزعج لوهلة ظنًّا منه أن الورقة قُطِعت من الكتاب، لكن سرعان ما نظر كلانا في دهشة نحو الورقة صفراء اللون، دنا منها وفتحها، استعجلته: “ماذا بها؟”، فأشار لي أن “اصبري قليلا“،
ثم أخبرني أن أباه قد كتب في هذه الورقة: “إذا ما أردت مزيدًا من كل شيء، اترك المسيح خلف ظهرك في مكتبة كنيسة العذراء، وانظر نحو ما تنظر إليه الشمس عبر عينيه، وقت الشروق أيام الثلوج تغطي الأرض من حوله“.
كنا في فبراير، وكانت الثلوج قد ذابت، وبدأت الشمس تبسط سطوتها على السحب، تساءلنا عن معنى ما جاء في الورقة، وهل كتبها أبوه حقا؟ أم اشترى الكتاب بها دون أن يدري أو يلحظ وجودها؟ ولم نصل إلى جواب، دخل كل منا فصله، وأكملنا حصصنا الدراسية لهذا اليوم، بينما كان ذهنانا معتلين، نفكر في الرسالة وإلام تشير.
صباح اليوم التالي، تقابلنا بدلًا من الذهاب للدراسة، وانتظرنا حتى فُتِحت المكتبة بعد الثامنة صباحًا، وبمجرد دخولنا نظرت نحونا عاملة المكتبة باستغراب، كوننا نرتدي ثيابًا مدرسية، وقف “إدوارد” أمام المسيح على زجاج النافذة، نظر نحو الشعاع النافذ من ثقب زجاجي في بؤبؤ عينه اليسرى، ودخلت أنا نحو الرفوف، أسأله: “هنا؟“
– لا، نحو اليمين قليلًا
– هنا؟
– لا، يسارًا
– هنا؟!
– كدت تصلين، نعم، ها، هنا
– لقد كنت واقفة هنا وأنت قلت يسارًا
– كنت أمزح، ههههه، ابقي مكانك
قالها وترك المسيح وأتى، أخذنا ننظر للأرضية الملمّعة بإتقان، ونرفع طرف السجادة لعلها تخبئ غطاءً لسرداب ما، عاملة المكتبة تراقبنا من خلف نظاراتها: “ماذا تفعلان؟” وتصيح على فترات متفاوتة، بينما نجيبها: “لا شيء، نبحث عن كتاب”، واستمر الأمر هكذا حتى نظرنا نحو الرف من خلفنا، فوجدنا ثلاثة كتب تحمل الاسم نفسه – مزيد من كل شيء – لعن “إدوارد” أباه، أو كاتب الرسالة أيًّا كان، وهمّ بالخروج، بينما أخذت أنا واحدًا من هذه الكتب وفتحته – وكأنني أعلم – هززته فسقطت ورقة مطوية أخرى، “هاااه” تنهّد إدوارد ثم قال: “ليس مجددًا”، بينما كان يخلع حقيبته المدرسية ويرميها أرضًا وهو يزفر نفسا ثقيلا، هذه المرة فتحت أنا الورقة ومن خلفي عاملة المكتبة، وجدت رسالة مكتوبة بالخط نفسه: “البحث عن مزيد لا ينتهي، ولن ينتهي، فقط نحن نشبع، وأنصحك ألا تأكل حتى الشبع”، لم نفهم شيئًا ممّا كُتِبَ، أخذت الكتابين المتبقيين على الرفّ وهززتهما معًا فسقطت منهما ورقتان تحملان الرسالة نفسها، وكأنه يحافظ على الرسالة في حال استعار أحدهم الكتاب أو شيء من هذا القبيل، قال إدوارد: “لماذا لم يترك لي الرسالة من الأساس في هديته؟!”
قالت لنا عاملة المكتبة بعد أن فهمت كل شيء: “لو فعل هذا لما كان الأمر مهمًّا، لن يكون للرسالة معنى إذا لم تأت بحثًا عن مزيد من كل شيء”.
يبدو أنه حلّ موعد نومي. أعرف يا صغيرتي أنك تحبين سماع الحكايات، لكنني كبرت على السهر وقت كبرتِ على النوم باكرًا. أعدكِ أن أحكي لكِ غدا ما فعله صغير الدُّب بالفهد الصياد، تصبحين على خير سأبقي الضوء الخافت حتى تزوركِ جنيّة الأحلام ثم أطفئه.
…………………
*نص من المجموعة القصصية “مزيد من كل شيء أو لا شيء على الإطلاق” الصادرة عن دار الربيع 2016