الزَّاجِلَة

فن تشكيلي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ناصر الحلواني

يكون المساءُ، يبدأ الصبي في سطوحه الصغير يلملم خيطان طائرة ورق.

في نافذته، يراها نون وخفقَ بدنها الرهيف، تتجاذبه  يد الصَّبي والريح. ترغب في الصعود، الخلاصِ من تعلُّقِها بالتراب، تهبطُ، تحلمُ بطيران حُرٍّ، تنحدرُ، أن تصير نفساً خالصةً من خيط عودتها إلى نقطة بعينها، يزداد انجذابها إلى الأسفل، حتى تختفي من إطار نافذته، يقوم، يراها في كفِّ الصبي، يمضي بها، وخلفها كانت ذرَّاتُ حُلمٍ ترسمُ طريق عودتها إلى حجرة رطبَة صغيرة، تحت سطوح كهل.

تمرُّ الحمَامَاتُ أمامَه عائدة إلى ليلِ أكنانها، يمرُّ بعضُها عبر نافذته والباب المفتوحين، تبقى إحداها، تقف، غير خائفة، فوق رسم مفرود على منضدته، يصور “كولمبس” جاثيا أمام “إيزابيلا”، الجالسة على عرشها، وخلفه ركام من صناديق، تحوي ثرواتٍ جلبها من العالم الجديد، لأجل استعادة بيت المقدس.

تخشخش الورقة تحت قدمي الحمامة، الساكنة إلى المكان، تدور بعينيها إلى حيث يقف “دون كيخوتة” فوق جبل الفرح، ينظرُ إلى حُلمِ “كولمبس” المنقوش زخارفَ على الهيكل،  تطير إلى القبة المرسومة في أفق اللوحة، المعلقة على الجدار، تحاول أن تحطَّ عليها بقدميها الرقيقتين، تُهوي، تعاود، تحاول مرة أخرى، تضرب بجناحيها بشدة، تنزلق قدماها، تدرك الاستحالة، تدور في فراغ الغرفة دورة تامة، وتنفذ عبر الباب إلى كنِّها.

ويجتاز نون الباب خارجا، يمضي إلى الطريق، تحت مساء ينفرد على ما بقي من ضوء نهار غارب، فيُحيلُه ليلا، يمشي في الشارع الصغير، يتبع المشَاعِلِيّ وهو يفوت على فوانيس الزيت المعلَّقة في جنبات البيوت، يحطُّ النَّار نورا في فتائلها، فيسُودُ الشارعَ مِزاجٌ من الصُّفرة الدافئة والعتمة، يمر بدكان أم الخير، يراها تخرج، لها ريحُ ريحان وعينا النَّرجسِ، وفي فمها مضغة مِستِكَة، يجتازها بخطوه، وبنفسه يصير إلى رَند، الماضية في عِرفَانِها، تسعى للخلاص من تيهِهَا لتأتيَهُ.

تمضي أم الخير إلى المَقَامِ عند ناصية الشارع، تخلعُ نعليها تحت قوس بابه، تنحو بطرفها نحو شمعتها المحطوطة على إفريز شُبَّاكه، لم تنطفئ، تدخل تحت نور السِراج، المعلَّق فوق الشيخ الجالس إلى صحائفه وريشات كتابته، أمامه قارورة من زجاج عتمَت شفافيته بسواد المِداد، تقعد إلى يمينه، لا تتفوه بكلمة أو تحرِّكُ سوى فيض الهوى من طِيبِ ريحانها، ترقبُ الكفَّ الكهلة تحنو على ريشة كتابةِ، يغمسُ طَرفَها في المداد، وبالمعنَى يسوِّدُ صحائفه المفرودة أمامه، ثم يضعُ ريشتَه، ويصير إلى الحاضرة في جواره، يمدُّ الكفَّ للكفِّ، ويحنو على وجودها بنظرة من قلبه، تنفذُ إلى روحها، وتردها بنظرة تحمل شوق الولهانة، من دون كلام، وتضعُ له في عينيه ابتسامة، يتلألأ بها ثغرُها، تحت سراج يشهدُ لحظة الهوى في سكون العارف، وتقوم، يتابع الشيخ خطوَهَا، تعود إلى الباب، تضع نعليها، وتمضي إلى دكانها، وهو إلى معارفه.

يمضي نون إلى طُرُقات مدينة تخلع في الليل أردية أزمانها، لتجذبَ أسبابَ يومٍ جديد، وتمنحُ الوالجين لذةَ التَحوِيمِ في فراغات هيأتها لهم.

تنُوشُه غربةُ متوحِّدِ، يدور في هَرَج الميادين، وزحمة أضواء تُخفي زخارف أزمان حفرها في جدران مساجدَ، ومدنا كانت له، وأهلَهَا، فأسلموها إلى حتفها، ولم تعد سوى تاريخ، يمر تحت ذكراه، ويعود إلى شارعه الصغير، تحت سمائه الصغيرة، ودكاكين غلَّقَت أبوابَها واستسلمت لهجعة الليل، ودفء صُفرة نور يمتزج بعتمة أليفة، وتألق شمعة وحيدة تدلُّه على المقام، يتجه إليه، يخلعُ نعليه تحت قوس الباب، يدخل إلى براحِ نورِ سراج، تحته يخطُّ الشيخُ تواريخَ من بادوا وأبادوا، وحظَّ من بقِيَ، وقَدْرَ الأحلامِ في نفوس الوالهين.

يهمس نون بالسلام، يُكمل الشيخ عبارته، يخطُّها في حرفٍ أندلسي جميل، يضع نقطة نهايتها، وينظر إلى الواقف بين يديه، يقعد، يناوله الشيخ ما خطَّ من صحائف، ودواة مداد، وريشة يعرف ملمسها بين أصابعه، يقعد نون إلى لوح كتابته، يضع أشياءه، ويجهز صحائفه، ويشرع في نسخ المخطوط، وبين العبارات يرى حبيبته تدنو من مرادها، تخطو، فتنبتُ في آثار خطوِهَا حبَّاتُ ذهب، يلمُّها جنودٌ يتبعون تيهها، يكدِّسُونَها في سفائن غزوهم، ويبحرون إلى أرض رغبتهم، يتبعون حلمَ قائدهم “كولمبس”، الذي يضع منظاره على عينيه، ويمر ببصره على طول الشاطئ، يدبِّر لأرض الميعاد زمنها الآتي.

يرى “كولمبس” خضرةً الممدودة ، طواطمَ منصوبة، لتمنع، عن بكارة الأرض، غزاة لمَّا يصلوا بعد، ألَّههَا شعب يمارس حضارة البقاء، وبساطة وجود تشغله أفراسٌ برِّية وطيور، وأرضٌ تمنحُ ساكنيها الحكمةَ ووسائلَ العيش الكافية، يحجبون عوراتهم الفطرية، ويحيون بحسب عقائد الطبيعة وفضائل الإدراك البدائي.

تدنو السفائن من مُرساها، تحمل بحارة تبدَّلَت أرواحهم ببريق ذهب يرجُونَه، وفضائلُهم بشهواتٍ كمَنَت في أبدانهم زمن رحلتهم، تراودهم أحلامٌ بملامس نساء تخمَّرن لهم، ويتتابعون على الحجر المهيأ لشحذ سيوفهم، التي وهبوها لفناء دَمٍّ يستوطن عُشبَ حضارته، ولا يملك لنصالهم دفعا.

على مذبح الرَّبِّ يضع جنودُ “كولمبس” شعبَ العُشبِ قربانا، ويجمعون لقائدهم الغنائمَ، فيجثو في محرابه المتواضع، يصلي، ويقوم إلى أوراقه، يكتبُ إلى مُطرانه:

لقد جرى الاضطلاع بهذه المهمة لننفق ما سوف نكسبه منها في ردِّ الديار المقدسة إلى الكنيسة المقدسة(1)

ويكتب إلى ملكيه فرناندو وإيزابيلا:

عندما بدأت الاستعدادات لاكتشاف جزر الهند الغربية، كان ذلك بقصد مناشدة الملك والملكة عاهلينا، اتخاذ قرار بإنفاق الموارد التي يمكن أن ترد إليهما في استرداد القُدس(2)

ثم يملأ صفحة يومياته، ويخرج إلى الأرض الجديدة، ينتهك عراياها، وأسبابَ حضارة يُخضعها للاهوته، ويمنح أهلها الكساء، والخَرَزَ الملوَّن، والموتَ، ليجني من فِردَوسها أحلام غزو قُدسٍ تلغَط بالهَمِّ، وترقبُ حوافر أفراس “دون كيخوتة” وهي تمرُّ على أبدان أنطاكية، وطرابلس، والرَّهَا، تنثرُ خلفها مِزَقَ الآبهين بأرضهم، ودمَ المنافحين عنها، وبقايا من دافعوا عن الأسوار، وماتوا تحتها، وهولَ من رجفوا، فقدموا مفاتيح الولوج إلى مدائنهم قربانا، وهلكوا. 

ومن حومانها الحرِّ تُبصر ماريانا سبلَ الدَّمِ، وتأسى لإيمانها، تَدُفُّ بوجعها وجُوعِها إلى أرضٍ تقبلُ بها، وفي مسار طيرانها تنثرُ خوافيها، رسائل محبةٍ وسلام، وتمر في سماء “دون كيخوتة” فلا يراها، ولا يحُولُ إلماحُها إلى قلبه دون أن يكيل الطعن للآهلين، أو أن يخوض برمحه في دروب مدينة الرَّبِّ، القابع على جبل التجربة يبكي، ويرقب من عليائه سقوطَ “بيت لحم”، ووصولَ حملة الغزاة إلى مشارف المدينة المقدسة، يرقبون أسوار المدينة، التي تُهيئُ لهم من حدودها نارا، فينصبون الحصار، أبراجا من خشب، ويتنازعون في نفوسهم العرشَ المقدَّس.

تَحملُ عليهم المدينةُ بأحجار بيوتها، وسهامٍ تعرف مصارعها، وشذراتِ نار، وافتخار بصمود لم يلبث أن تحطم تحت فيض حملة الصليب، يدكُّونَ الأسوار، ويبسطون الموتَ على طرقات مرورهم إلى مسجدٍ أقصى، ويفخرون بمفاتيح “يافا”، ويأخذون أهلها أخذ الفناء، لتصعد الأرواح المغدورة إلى سمائها، تمرُّ بطائر يحوِّم فوق مواقع شهادتها.

تمضي ماريانا في سفرها محلِّقة، تجذبها لمحةٌ من ريح لوركا، تصيرُ إلى حيث تخطرُ رَندُ عبر بستان أسرها، تحمل في الكفِّ ورقةً وجدتها تحت الريح، تستدفئ بقصيدِها، وتصير إلى دار خلاصها في أطراف البستان، تدنو من نبوءتها، يغمرُ سَمعَهَا صوتٌ، يأخذها إلى باب دخولها، تدهشُ لروعة زخارف على ضلفتيه، تصوِّرُ معارفَ سُرَّت قبل الآن، وطيورا، وتواريق، وقبضة من نُحاس، تمدُّ إليها كفَّها، تطرق بها، فلا أحد.

تذكرُ ما كان من تجربَتهَا فتردد اسم الحبيب، ينفتح  لدخولها، تشمُّ رائحة زهر البرتقال، وتسمع ترنيما مبهم الحروف يأتيها من الأنحاء، وترى نوافذ شاهقة، مرسومة بالنور النافذِ عبرَها، وألوان ملكوت بعيد، ينثال الضوء منها إلى بُسُطٍ معلقة، تحوي رموزا منقوشة باليد، تملِّسُ عليها بيدها، تصير للأنسجة لون الروح، ويخفت النور، ويكون شعاع له طعم اللوعة وهدوء نفس استقرَّت، تتبع رند وجهته، فيأخذها إلى محراب بآيات تعلمها، وخطوط تقرأها:

فلو لم يكن لموجود فعلٍ يخُصُّه، لم يكن له طبيعة تخصُّه، ولو لم يكن له طبيعة تخصُّه، لما كان له اسم يخصُّه، ولا حدٌّ، وكانت الأشياء كُلّها واحدا، ولا شيئا واحدا(3)

ما إن تنتهي من قراءتها، تبدأ النوافذ في إرسال نورها، تدلُّها إلى الأشياء، وإلى مسارِها، إلى سُلَّمٍ من خشب زيتون له لمعة سِراج ورائحة سلام، تصعده إلى باب مكفَّت بتواريق نُحاس، ومورَّق بأسماء من مروا به، تأنسُ إلى نقوش لها جلال الكون التي تُسِرُّهُ في قلبها، فتضعُ البَصرَ حيث زهرة اسمها، وتدفع الباب، فتكون إلى قبة يتدلى سراجها خافتا، يشرع في ولادة نوره للداخلة، تنمحي العتمة الموصود عليها، وترى صندوقا موشَّحا بتشاكيل أرابيسك، وخزائنَ من أشجار مُدن تعرفُها، وفي أرحامها كتبٌ مذهَّبة الجنبات ، تتفحصُهَا ببصيرة المشتاق، تمر على الأسماء: “شرحُ كتاب السماء والعالم”، “جوامع الخطابة والشِّعر”، “مقالة في العقل”، “رسالة في التوحيد والفلسفة”، “مسألة في الزمان”، “تلخيص كتاب الكون والفساد”، ” فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” وفي أحدها تقرأ:

فبيِّنٌ أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن في سبيله بما قاله مَن تقدمنا في ذلك، وسواء كان الغيرُ مشاركاً لنا أو غير مشارك في المِلَّة، فإن الآلة التي تصحُّ بها التزكية، ليس يُعتبر في صحة التزكية بها كونها آلة لمشارك لنا في المِلَّة أو غير مشارك، إذا كانت فيها شروط الصحة، وأعني بغير المشارك، مَنْ نظر في هذه الأشياء من القدماء وقبل مِلَّة الإسلام(4)

تؤوب من كتابها إلى زمن وجودها، تنفتح النوافذ إلى أقصاها،  تخرج إلى براحِهَا، تفيض عليها السماء بكلِّ نورها،  فتستحيلُ زاجلةً، تطير فوق المدائن، تلمحُ في فضائها رفرفات حُزن تتجه إلى أرض غادرتها، تقترب من الطائر الوحيد، تتناظر الأعينُ، وفي جميعها بريق ألم مكتوم.

تنطلق ماريانا إلى حيث غادرت الحبيب، وتنطلق رَندُ، تكونان إلى حيث الجسد المهدور، يحتضرُ تحت زيتونة جافة، تُهرع ماريانا إلى حيث الروح الخارجة من الجسد المغدور، تنتفض نفسها بالأسى، تتلقى الروحَ السارية إلى عُلاها، تلمُّها بين جناحيها، وتلمحهما رَندُ؛ روحَ شاعر وطائر، روحان تتشابكان في صعودهما، تكملان قصيدةً خلقَاهَا معا، ينثرانها من سمائهما  على الآتين.

تهبط رَندُ إلى الزيتونة، تلتقط غصنا مازال به بعض خُضرة، وتحلِّقُ، تعبر أندلُسَها، يلمحها “بيكاسو” اللاهي على شاطئ كانت قد التقت عنده الحبيب، يرسمُ على الرمال خطوطَ جسدها، وهي تسبح في الفضاء كالوحي، تعبر بحرا، وقُدساً يمرح الدُّون المارق عبرها، يقاتل زخرفات النوافذ، وجذورَ الأشجار، وتواريخ المُدن، وتعبر أزمان ألمٍ، إلى العاشق في مَقَامِه، يقبضُ ريشة لها ألق النَّجمِ، ينتظرُ الحبيبةُ، ويخطُّ في صحيفته:

يا قَينَةَ السُّهَادِ في سَامِرَاتِ الوَصْلِ، تَعَالي؛ فَالليلُ طَويل“.

………………….

([1]) من خطاب أرسله كولمبس (عام 1492م) إلى البابا.

(2) من خطاب أرسله كولمبس (عام 1501م) إلى ملكيه فرناندو وإيزابيلا.

(3) الفيلسوف الأندلسي ابن رشد (1126-1198) “تهافت التهافت”.

(4) الفيلسوف الأندلسي ابن رشد (1126-1198) “فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”.

* الفصل 8 (الأخير) من رواية “مطارح حط الطير”.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون