حياة حرف

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد بوعبدالله

 

لم يكن ذلك يوما عاديا على الإطلاق بالنسبة ل م. الشاب الذي يجاهد نفسه الآن لينهض من الفراش، فالألم الذي يحس به في رجله اليمنى والضيق الذي يهاجم صدره يسببان له ألماً فظيعا، زيادة على جعلِ عملية التنفس لديه أكثر عُسرا. وبينما لا يزال قابعاً في فراشه، راح يتحسس جدار الغرفة على يساره باحثا عن مكبس الإنارة، ظل على هذه الحال لدقائق قبل أن يستسلم بمجرد شعوره بوخز في يده. كان يحس برأسه ثقيلا لدرجة أنه لم يقوَ على رفعه من على الوسادة القطنية التي كانت هدية من والديه في عيد ميلاده الخامس عشر. أصابته الحيرة وهاجمه سيل من التساؤلات حول هذا الوضع غير المألوف الذي وجد نفسه فيه، فهو بعادته دائم النشاط والحيوية واعتاد منذ سنوات أن يكون الأول في الوصول إلى مقر العمل، محاولاً بذلك كسب رضا مرؤوسيه، بل إنه، ولفرط استيقاظه الباكر كل يوم، يجد أكثر من ساعة إضافية ليطالع جرائد الأمس، التي يتخلص منها، في نهاية كل يوم، صاحب المقهى الذي يحتل الطابق الأرضي من العمارة التي يقطن بها. فتجده يقرأ المقالة تلو الأخرى مالئاً الصفحات بخربشاته ورسوماته، ولا يكتفي بذلك فحسب، بل إنه ينهي ألعاب السودوكو بمستوياتها الستة بالإضافة إلى الكلمات المتقاطعة، ويعبث بصور المشاهير، ورجال الأعمال، والكتاب الذين لا يجيدون الكتابة، وصحافي الجرائد أو صورة أي شخص آخر: يضع شعرا لصحافي أقرع، يرسم لحية لمثقف علماني وشارباً لشيخ متشدد وآخر لراقصة أو لممثلة تعرّي أو رئيسة حزب سياسي لا تفقه في السياسة شيئا...

لكنَّ شيئاً ما قد تغير في صباح ذلك اليوم. بدأ يفكر عن سبب واضح لهذا الشلل الذي أصابه وأفقده تلك الهبة التي لطالما افتخر بها، لكن عملية التفكير كانت بمثابة عذاب آخر بالنسبة له، فوحده الله يعلم كم كان يتألم بمجرد محاولة التركيز وتوجيه جميع حواسه نحو عملية التفكير.

كان صباحاً من أول أيام فصل الشتاء، الذي أقبل بكل أوزاره: الأمطار الغزيرة، الغيوم الداكنة والسماء الرمادية الباعثة عن الكآبة. هذا الجو كان يزرع الحزن في نفوس الصغار قبل الكبار، لكن م الآن لا يهتم بالفرح أو الجو أو بسعادة الأطفال أو حتى بنهاية العالم بقدر ما يهتم بإيجاد وسيلة لينهض من الفراش ويستعيد قدرته على الحركة. كان يمني النفس بالتخلص من الألم الذي يسحق مفاصله لكي يستطيع اللحاق بموعده مع حبيبته الجديدة بعد ساعة ونصف من الآن. ظن أن كل شيء سيعود كما كان إذا عاد إلى النوم، لذلك فقد اتخذ وضعية الطفل الصغير ووضع يده تحت رأسه وانتظر النوم.

كان الوقت ظهرا. بمجرد ما أن فتح عينيه، كان بمقدوره أن يقفز من فراشه برشاقة كنغر أسترالي، بل إنه فعل ذلك بشكل سريع كرد فعل طفل حين يلمس النار، دون تفكير. كما أنه لم يمنح نفسه أي وقت ليتعجب من تغير حالته بهذه الطريقة العجيبة. أسرع إلى التواليت ليأخذ حمّاما باردا ليستطيع اللحاق بموعده الذي كان بالفعل قد فات.

استحم بسرعة وارتدى ملابسه بسرعة لا تقل عنها. خرج من الشقة وأسرع على الدرج وقذف بجسده نحو الشارع المكتظ منتظرا الحافلة. طوال هذه المدة الزمنية لم يفكر قطّ فيما حدث هذا الصباح، بل إنه لم يفكر حتى في التفكير في ذلك، بدا ذلك كأنه قد رسم في عقله خطا أحمر مطوقا هذه الحادثة، مانعا عقله من الانسياب وراءها، لأن ذلك، كما يبدو، يوفر عنه الكثير من الوقت الذي هو في أتم الحاجة إليه. توقفت الحافلة على ناصية الشارع. ينزل رجل ستيني أشيب الشعر بشارب خفيف، طالب يحمل حقيبة دراسية وامرأة شقراء تحمل بين يديها طفلا صغيرا. يصعد م وتقلع الحافلة. يتخذ لنفسه مكانا بالمقعد المحاذي للنافذة بجوار عجوز تضع أكياساً كثيرة مملوءة عند رجليها، بينما إذاعة الراديو تبث أغنية فرنسية قديمة. بعد ربع ساعة، قضاها في تأمل الشارع من خلال النافذة، وصل إلى وجهته. أكمل بضعة أمتار مشيا على الأقدام قبل أن يصل إلى مقهى “إل توليبان”، حيث كان من المقرر أن يلتقي حبيبته الجديدة. لم يبقى له الآن سوى أن يصلي لأن تكون منظرة إياه، رغم أن ساعة كاملة قد مضت عن موعدهما. دخل المقهى وتفحص أنحاءه فلم يجدها. تقدم لسؤال النادل : ( آآ.. أود أن أسألك سيدي، هل رأيتَ فتاة جميلة جالسة تنتظر قدوم أحدهم ؟)

أجاب النادل: (جميلة؟) يبتسم (لا سيدي، لقد تسلمتُ نوبتي للتو). وراح ينهي عمله دون أن يكترث له.

أخرج م هاتفه من جيب معطفه. هنا تحتم عليه التفكير مرة أخرى، هل يقوم بمهاتفتها للاعتذار وتحديد موعد جديد، أم أنه سيقلب صور فتيات أخريات باحثا عن واحدة جديدة للمواعدة. ورغم الألم الذي يسبب التفكير له، فقد استغرق وقتا طويلا ليقرر أخيرا : (أنا لم ألتقِ بها من قبل، بل إننا لم نتحادث إلا عن طريق الرسائل الهاتفية، إذا فليس هناك شيء لأخسره.) صمت قليلا قبل أن يضيف محادثا نفسه: (يبدو أيضا أنني وفرتُ على نفسي بلاءً عظيما، لأن فتيات عديمات الصبر مثل هذه لا يستحقن حتى ثانية من وقتي.) وقرر أن ينسى أمرها ويبحث عن بديلة لها. (الآن أنا جائع، تُرى ماذا سأطلب؟) قال مخاطبا نفسه.

 يجب عليه التفكير مرة أخرى. حاول قدر الامكان الاسراع في التقرير، فنادى النادل : (كارسو..) اقترب النادل. كان في الخمسينات من عمره، سمين وقصير، أصلع الرأس، يملك شاربا خفيفا ويلبس ملابس بيضاء. كان يحمل بين يديه صينية فارغة فضية اللون. اقترب من م ووقف دون أن يقول شيئا.

(أعطني كأس قهوة وفطيرة بالشكلاطة) وجلس إلى طاولة في وسط المقهى.

أثناء انتظار حضور الطلبية، بدأ يتفحص صور الفتيات على هاتفه علّه يجد من تناسب ذوقه. لكنه بالتأكيد يحتاج ليفكر ليعرف ذوقه من الأساس. وجميعنا نعلم أن العقل البشري يميل إلى الكسل والخمول والتراخي. بما أن عقل م فريد من نوعه، إذ أنه وصل لدرجة من الكسل عجز أي عقل بشري وُجد على تحقيقها، فإنه قرر اختيار صورة بطريقة عشوائية، وقام مباشرة بارسالها لصديقه ليوافيه بحسابها على الفيسبوك ورقم هاتفها. ثم أعاد الهاتف إلى جيب معطفه وبقي ينتظر قدوم طلبيته، تارة ينقر على الطاولة بأصابعه، وتارة يدندن بلحن أغنية أندلسية. في هذه الأثناء كان نظره مصوبا نحو لوحة معلقة على الجدار. (لماذا استعمل لونين مختلفين للبحر في اللوحة؟ لماذا تم رسم ظلال للأشياء في حين أن السماء غائمة في اللوحة؟) ظل جاهدا يحاول كبح جماح أفكاره، لأنها، بكل بساطة، لن تسبب له سوى المزيد من التعب وستستنزف طاقته التي ما يزال في حاجة إليها لبقي اليوم. التهم قطعة الحلوى بحركة خاطفة. كما أنه في الغالب لا يعترف بأن القهوة أخت الوقت، كما يقول درويش، فقد قام في هذه المرة أيضا بعبّ كأس القهوة في جرعة واحدة.  

“من أنتَ؟ من أنت زرعت بنقر خطاك الدرب ورودا جورية” يصدح صوت ماجدة الرومي من مذياع قريب بينما يهم م بمغادرة المقهى. احتار هل يقدم بقشيشا للنادل أم يكتفي بدفع ثمن الوجبة. ها هو التفكير يقف في طريقه مرة أخرى. أخذ من جيبه بطريقة عشوائية قطعة نقدية ووضعها في يد النادل وغادر بسرعة، وائداً كل فرصة لتكوّن فكرة ما.

عند باب المقهى، انحنى ليلتقط ورقة مطوية كانت ملقاة على الأرض. عندما فتحها وجد فيها بضعة أبيات شعرية قرأها بصوت مرتفع : “لابد للمرء أن يكون ثملا على الدوام. كل شيء هنا. إنها القضية الوحيدة. لكي لا تشعروا بالعبء الفظيع للزمن الذي يحطم أكتافكم ويدفعكم إلى الأرض، يجب أن تثملوا بدون هوادة. لكن بماذا؟ بالنبيذ أو بالشعر أو بالفضيلة. كما تشاؤون، لكن اثملوا”. للوهلة الأولى ظن أن السماء قد أرسلت له هذه الورقة عن قصد، فربما الحل الوحيد المتبقي للجميع هو… فجأة انقطعت سلسلة أفكاره. حاول بعدها تذكر اسم قائل الأبيات، هل هو لوركا أم رامبو؟ بودلير أم هاردي؟. وجد نفسه في موضع يحتّم عليه التفكير، لذا فقد دس الورقة في جيبه وتابع طريقه. وصل إلى نهاية الشارع وتخلص منها في علبة قمامة لألا تراوده خاطرة التفكير في المرة القادمة التي يخرجها فيها.

 إن التفكير بالنسبة له كابوس حقيقي، بل هي لعنة يحاول أن يتخلص منها بكل ما يستطيع من حيلة. لكن هل يعقل حقا أن يعيش أحدهم بدون أن يفكر.؟ هذا ما كان يقوله ر، صديق م الوحيد. دعونا نقول أن ر هو الوحيد القادر على استحمال حياة م بكل ما فيها من رتابة. وإذا كانت الإناث بالنسبة ل م مجرد وسيلة للترفيه عن نفسه، فإن ر لا يملك مكانة لدى م، بل إنه لا يلقي له بالا عندما يكون في شقته. يتركه يتصفح رسوماته في الجرائد الملقاة على الطاولة في الصالة، في حين يكون م يحاول مجاراة عقله وشغله عن التفكير.

ذات يوم زاره ر في شقته. كان يحاول كعادته استفزاز م وإغاظته. بينما م يركز نظره على الحائط ذي اللون الرمادي الكئيب.

 يقول ر: (هل لك أن تعطيني سببا منطقيا واحدا، واحدا فقط، يفسر اتجاهك هذا إلى إبطال عقلك؟ لربما أقتنع وأنضمّ إليك في جنونك هذا.)

(إذا كان التفكير يعطينا كل هذه الحروب وهذا الدمار والشر الذي تغرق فيه الكرة الارضية .. فلا حاجة للبشرية للتفكير..)

(هراء.)

(اعتبره ما شئت. لكن لا تتعبني بغبائك.)

(وماذا تسمي عدم استعمال العقل ؟ أهي عبقرية؟)

(ربما.)

(الغبي الحقيقي هو من لا يستعمل عقله ولا يفكر.)

(أشياء مثل هذه تظل نسبية.) أضاف م هازاً كتفيه في نفس الوقت.

(إذا كيف تنعتني أنا بالغبي؟)

(أحيانا.. أمور كالبلادة والشجاعة والخيانة تكون واضحة في وجوه الناس.)

(وماذا ترى في وجهي؟) قال ر ملقيا الجريدة على الطاولة.

(لا شيء.)

يواصل ر طرح أسئلته المعتادة، بينما يستمر م، كعادته، في إعطاء إجابات قصيرة وردود باردة.

يكمل م طريقه إلى شقته. حان وقت كتابة مقاله اليومي لجريدة المدينة المحلية، التي أتمم أكثر من عشر سنوات وهو يكتب في العمود المعتاد في الصفحة الأخيرة، خمسة مرات في الأسبوع وبدون انقطاع. يرتمي بثقله كاملا على الكرسي في غرفته. يخرج قلمه الريشة ماركة “دوكاتي ميني أوفيتشينا” وأوراقه البيضاء، ويبدأ بالكتابة. رغم التقدم التكنولوجي لا يزال يصر على الكتابة بخط يديه، ولا يجد مدير تحرير الجريدة فرصة للاعتراض على ذلك، يكفيه أن م يكتب ببراعة ولا يزعجه كبقية الصحافيين والناشرين بالجريدة.

انكب م على أوراقه وظل يكتب لمدة نصف ساعة متواصلة دون أن يرفع رأسه عن الورقة. نهض بعدها مباشرة من مكانه ليعد كوب شاي. كانت الساعة تشير للخامسة بعد العصر. إنه الموعد الدائم لقدوم ر، الذي سيحضر معه معلومات الفتاة التي اختارها م بالإضافة إلى المثلجات والحلوى التي اعتاد أن يجلبها. سأل م نفسه قائلا : (يبدو أنه من اللائق أن أعدّ كأس شاي ل ر أيضا. هل علي أن أفعل ذلك؟)

هذه المسألة تحتمل الإجابة بالتأكيد أو النفي، ونحن نعلم جيدا أن ذلك يستلزم بعضا من التفكير. لذا فإن م قرر أن يعود إلى كتابة مقالته بسرعة قائلا: (ربما هو لا يحب الشاي.)

بعد عشر دقائق سمع طرقا على الباب، لكنه لم ينهض من مكانه. استمر للكتابة لخمسة دقائق أخرى قضاها الطارق دون أن يعاود الطرق. يبدو أنه اعتاد على مثل هذه الأمور.

أنهى المقالة. نهض وفتح الباب ووجد أن ر هو الطارق. سمح له بالدخول بينما خرج هو مباشرة ليودع المقالة عند صاحب البقالة المقابل للعمارة التي يقطنها ليهتم بأمر إيصالها إلى بواب مقر الجريدة. يعود م بسرعة إلى الشقة حيث يجد ر جالسا على الأريكة يأكل من كيس شيبس أحضره معه.

لم يستطع ر أن ينتظر أكثر، إذا أسرع بطرح السؤال المعهود على م :

(كيف تستطيع الكتابة وأنت تصر أنك لا تفكر ولا تستعمل عقلك أبدا؟)

(لا أعرف. أنا أكتب فقط.)

(لا تعرف؟ كيف يعقل ذلك؟)

(لا أدري.) يقول م وهو ينزع معطفه الأسود ويضعه على كرسي مكتبه.

كان م يدرك جيدا تفاصيل هذه العملية، لكن ضجره ونفسيته لا تسمحان له بخوض نقاش مع أي كان. فمن الصعب جدا أن تُفهم أحدهم شيئا ما دون أن تُتعِب نفسك. الأمر الذي كان م يحاول تفاديه ليحافظ على حيويته حتى العاشرة مساءً عندما يخلد إلى الفراش.

يضيف ر : (يبدو أنك لم تسأل عن رقم هاتف الفتاة)

ردّ م الذي، على ما يبدو، لم ينتبه لاسمها (ولماذا أسأل وأنا اعرف أنك ستمد لي الورقة برقم هاتفها وبريدها الالكتروني؟)

(آه نعم، تحاول أن تحافظ على طاقتك كالعادة.)

(بل أتفادى إزعاج الآخرين فحسب.)

قال ر في نفسه : (وهل يوجد إزعاج أكثر مما تسببه للجميع بسبب أسلوب حياتك هذا.)

يرتمي م على الأريكة بينما يقوم ر بتمشيط ثنايا الشقة كأنه يبحث عن شيء مفقود. ينهض م ويحمل كتابا من على الرف في غرفته ويعود إلى مكانه. يجدها ر فرصة مناسبة لمعاودة هجوماته، آملا في الأخير أن يتمكم من التغلب عليه وإقناعه بما يقول.

(كيف يمكنك القراءة وأنت لا تفكر، إن الأمر أشبه بالرسم من دون فرشاة ولا ألوان؟)

(إنني أقرأ فقط، ولستُ أرسم.)

(ألا تفهم ؟ إنه مجرد تشبيه. بالإضافة إلى أن القراءة أكثر تعقيدا من الرسم بكثير.)

(ربما.)

كان م في داخله يعي كل ما يقوله صديقه. كيف لا وقد راودته مثل هذه الأفكار منذ مدة طويلة. لكنه وضعها داخل السياج الأحمر في عقله، حيث لا يمكن لأي أحد أن يصل، ولا يمكن لأي فكرة أن تدخل هناك إلا بأمر م، ولا فكرة تقوى على الهرب من هناك على الإطلاق.

كان من الطبيعي جدا أن يقرأ أو يكتب أو يفعل أي شيء دون إعمال عقله. أشياء كهذه أصبحت روتينية مع مرور الأيام. تماما كتذكر طريق العمل ورقم الهاتف الأرضي ومكان الثلاجة واسم البلد وسبب تسميتها كذلك واسم الرئيس وعدد عقارب الساعة وعدد سكان الصين… لن نحتاج إلى التفكير أبدا حينما نود بتذكر أو القيام بهكذا مهام. نحن بشر، وقبل ذلك نحن كائنات حية عادية. خاصيتنا هي التأقلم مع جميع الظروف. لكن الخاصية التي أهملها الجميع هي إمكانيتنا  للانغماس في نمط حياة معين، فنصبح عبيدا له مع توالي الشهور والسنوات. سندخل في دوامات النمطية والتكرار ونصبح روبوتات تتنفس وتنمو وتتكاثر، وتموت. سنكون تماما مثل حيوانات الفضاء، يتم في الأول اختيار الكلب أو القرد، ثم تلقينه مجموعة من الأوامر، ثم يوضع على متن مركبة فضائية حيث يقوم بتنفيذ كل ما تعلمه من قبل، يضغط الزر تلو الآخر، يدير كرسيا أو يسحب رافعة، لكن دون إدراك ودون فهم، ثم تموت بعد ذلك. لن نكون سوى أرقام، مجرد أرقام في كود برمجي أو حروف خالية من المعنى. ولن نحصل على احترام الآخرين ولا مكانة بين الناس في الغالب إلا بعد موتنا، فنحن في الموت فقط نحظى بأسماء وهويات، لأننا في الموت لا نصير جزءاً من المهمة – مهمة البقاء والنجاة على هذه الأرض.

لكن على الرغم من أن الموت قد يكون منبوذا وغير مرحب به، إلا أن الحياة قد تكون أكثر شقاء من الموت إن لم نعِشها كما ينبغي. لكن م يطرد هذه الفكرة كلما قفزت إلى شاشة عقله الأمامية، تماما كما اعتاد أن يفعل لتفادي الانزعاج. فهو شديد الانزعاج لدرجة أنه لا يحتمل صراخ أو ضحكات طفل صغير.

 يبدو جليا أنه لا هدف من حياتنا سوى المحافظة على الجنس البشري على هذا الكوكب الوحيد في هذه المساحات الشاسعة من الفراغ، حيت لا نبض ولا حركة غير الكواكب التي تدور والأجرام التي تحتل مكانها بشموخ في منتصف اللامكان. إن هذا مبهج حقا بالقدر نفسه الذي هو محزن.

(روبوتات، كائنات آلية، هذا ما أصبح عليه أغلب البشر في أيامنا هذا.) – يقول م.

يزفر ر ويقول بغضب: (مرة اخرى؟)

يصمت كلاهما ولا يُسمع سوى صوت عقرب الساعة وهو يتحرك بهوادة : تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك.

الساعة تشير إلى السابعة والنصف. يُخرج ر قرص الفيلم الذي سيشاهدانه اليوم. يتخذ كل منهما مكانا ويجهز ر بعض رقائق الشيبس والمكسرات ويضعها على الطاولة. تمر الساعتان برتابة. كان الفيلم كوميديا لكن لم يظهر أحد منهما على الأقل ابتسامة صغيرة. لم يتذكر م موضوع الفيلم، أما ر فلم يكن يشاهده على الإطلاق، إذ اكتفى بالاستلقاء في مكانه في محاولة منه لنيل قسط من الراحة بعد يوم عمل طويل.

ينهض ر من مكانه ويبحث عن معطفه. يخرج من أحد جيوبه ورقة صغيرة ويمدها إلى م الذي يلتقطها. يتمتم ر : (كالعادة موعدك غدا مع العاشرة صباحا، حاول أن تكون هناك في الموعد، فهي غير صبورة على الاطلاق.)

(طبعا سأفعل. شكرا لك.)

يغادر ر الشقة. يتجه م نحو الحمام ليغسل أسنانه. يذهب بعدها إلى غرفته حيث يغير ملابسه، ثم يلقي بجسده في الفراش بعدما نال منه التعب. يكتب بسرعة رسالة لفتاته الجديدة بُغية تذكيرها بموعدهما غدا، لكنه لم ينتظر قراءة جوابها، إذ بدأ بعدّ الخرفان القافزة حتى نام دون أن يعي ذلك.

في اليوم التالي، يستيقظ م صباحا متأخرا على غير عادته، وهو يشعر بألم رهيب في رجله اليمنى وبضيق في صدره يمنعه من التنفس.        

  

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون