مثاقفة والتواصل: حوار الذات وحوار الحضارات

غلاف كتاب المثاقفة والتواصل
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. مصطفى عطية جمعة

إن حاجة المسلمين إلى الحوار اليوم أصبحت ملحة، لأنها حاجة داخلية وخارجية معا. سواء للحوار الداخلي بين أبناء المجتمع المحلي، أو الحوار التفاعلي بين أقطار العروبة والإسلام؛ فبالحوار تتقارب النفوس، وتتعاظم الروابط، وتتمازج الأفكار، وما يجمع بلدان العالم الإسلامي: عقديا، وفكريا، وثقافيا، وجغرافيا وتاريخيا، أضعافا مضاعفة لما يجمعها مع أقطار العالم الأخرى، لأننا بالحوار سنتقارب، ومن ثم سنبحث عن المصالح المشتركة وما أكثرها، وكلما حققنا مصلحة، وأصبنا هدفا، ازددنا قربى، وصارت العلاقات وشائج، وانمحت بالتالي الخلافات، وتضاءلت الاختلافات، ونبذنا الفرقة، واقتربنا من الوحدة.

ولن يتحقق حوار خارجي إلا بإتمام الحوار الداخلي بين المسلمين، بتجاوز الحدود السياسية، والارتقاء فوق النزعات القومية، والخلافات المذهبية، عبر تفعيل النظر في القواسم المشتركة ليتم البناء عليها. فصورة المسلمين اليوم أمام العالم تبعث على الأسف، وليس السبب في نظرتهم هم، وإنما السبب في تقاعسنا نحن، حتى وإن كانت لديهم أسباب متعددة للتجني علينا، فهي عائدة لغيابنا عن الساحة الثقافية العالمية، ولافتقادنا لحوار داخلي، يخرج برؤية مشتركة حول أبرز القضايا العالمية، ومن ثم نشارك بها في الخارطة الفكرية العالمية، بكل مستجداتها اليومية، فمنها يتم تصحيح الصورة السلبية عنا نحن المسلمين؛ ومنها أننا مضطرون لدراسة ما توصل إليه الآخرون من علوم وفنون وآداب، حتى نستطيع أن نحاورهم، فكيف نحاورهم إن لم نفهمهم؟ وكيف نحاورهم ونحن بلا رؤية مشتركة؟ ونؤكد أنها رؤية مشتركة، وليست رؤية أحادية، فهي رؤية تقبل التنوّع في موضوعاتها، والاختلاف في اجتهاداتها، والتعدد في زواياها.

وعندما نعود ببصرنا إلى جذور الثقافة العربية، فإننا نجد أن الحوار كان هو القاسم المشترك بين القبائل العربية في الجزيرة العربية، يتحاورون شعرا، ويروون أيامهم وقصصهم نثرا. قد تستعرّ الخلافات بينهم، وتشتعل الحروب لسنوات، وقد تمتد عقودا، ولكن في النهاية يجتمع العقلاء منهم والحكماء ويجلسون يتحاورون ومن ثم يتفقون، ليردموا الهوة بينهم، وتتآخى نفوسهم من جديد، ولو إلى حين.

فلما جاء الإسلام، كان الحوار قائما حول العقيدة الجديدة، التي تجبّ العقائد الوثنية والكفرية القديمة، وقد اشتملت آيات القرآن على الحوار، إما في القصص القرآنية، أو في أسباب النزول، فكثير من الآيات نزلت بوصفها أحوبة؛ لأسئلة ومواقف تعرض لها النبي (صلى الله عليه وسلم)، فأنزل الله تعالى آياته، موضحا الحكم الشرعي، وموضحا ما غمض على المؤمنين، أو تحدى بها الرسول الكافرين. فالقرآن الكريم نهجه الحوار، وهو ما التزم به الرسول (صلى الله عليه وسلم) في دعوته للناس، كان يحاور الكبير والصغير، المرأة والرجل، المسلمين وأهل الكتاب والمشركين، يطرح الأسئلة عليهم، فإذا لم يأته جواب صحيح، يقدم هو الإجابة بأيسر أسلوب، وأرقى عبارة. أو ينصت لمن يسأله، فيجيب مستخدما التشبيهات، والأمثلة، والقصص، فيجد السائل الجواب الشافي، بما يجعلنا نقول إن الإسلام قاعدته الدعوية هي الحوار، مصداقا لقوله تعالى: { ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، (سورة النحل، 125).

فلما أتم المسلمون فتوحاتهم الضخمة، والتي جاءت في زمن قصير للغاية، دون أن يجبروا شعبا على الإسلام، ودون فرض للغتهم العربية، وإنما تركوا الإسلام يتفاعل مع نفوس سكان الأقطار المفتوحة، وشجعوا القبائل العربية على الهجرة والاستقرار في البلدان الجديدة، ومن ثم انتشر الإسلام بطيئا، مصحوبا باللغة العربية، في عقود وقرون متتابعة، تبدلت أنظمة الحكم والخلافة، ولكن ظل الإسلام في النفوس كامنا، وللعقول ملهما.

والأهم في كل ذلك، أن المسلمين فتحوا حوارا حضاريا مع الحضارات المعاصرة لزمانهم، أو عبر الاطلاع على كتب الحضارات السابقة عليهم، ومن ثم صهروا كل ما تقلوه من علوم وفنون في بنية الحضارة الإسلامية، التي تمتعت بخصوصية عالية، تأخذ من الحضارات الأخرى، وتضيف عليها، وتحافظ على علومها وكتبها من الاندثار، حرصا منها على الحفاظ على تراث البشرية الحضاري من الضياع، وهذا ما شهد به المنصفون في الحضارات الغربية والشرقية.

في ضوء ما تقدم يأتي هذا الكتاب، عنوانه الأساسي: “التثاقف والتواصل” فهما عمليتان دالتان على خيرية الأمة المسلمة وإنسانيتها، مصداقا لقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (سورة آل عمران، الآية 104). فنحن أمة الخير، لأن دعوة الإسلام أساسها الخيرية للناس جميعا، مسلمين وغير مسلمين، ولن نتبوّأ مكانتنا التي فقدناها إلا بحمل رسالة الخير للبشر، فإذا كانت الحضارات الأخرى تتعامل بمنطق المادة والمنفعة، فإننا يجب أن نتعامل بمنطق الخير والحكمة، وستأتي المنافع تباعا لنا، لأن الشعوب الأخرى إذا وجدت منا الخير، فحتما ستتعاون معنا، وستكون الأواصر أشد، لأنها مبنية على قيم عالية، وأخلاق سامية.

ثم جاء العنوان الفرعي تاليا للعنوان الأساسي: “حوار الذات وحوار الحضارات”، مؤكدا على هدف الكتاب وهو: أهمية ترسيخ الحوار الذاتي الداخلي، بالنظر إلى مكونات المجتمع والثقافة العربية الإسلامية، وقراءتها في منظور جديد، قبل الانطلاق إلى العالمية. فكيف نحاور العالم، ونحن لا نحاور أنفسنا؟ ولم نعرف ما يميّزنا كأمة مسلمة عن غيرنا من الأمم، ولا ندرك ما يجب أن نحاور به الآخر الحضاري والثقافي.

وقد ارتأينا أن يكون هذا الكتاب جامعا للحوار بكل أبعاده وأشكاله وقضاياه، بداية من تأصيل مفاهيم الحوار، وفلسفته، وعلاقته بعلوم أخرى مثل علوم الاتصال والتواصل والسيمياء والإعلام، وما يتقاطع معها من فنون وآداب وتحيزات وقناعات، واقترحنا استراتيجية للحوار تستفيد من علم الاتصال. وهو ما اشتمل عليه الفصل الأول، الذي جاء موضوعه: الحوار مبنىً ومعنىً، وفلسفة ومفاهيمَ وأبعادا.

أما الفصل الثاني فتناول تأصيل الحوار في ثقافتنا العربية الإسلامية، وقد تم التركيز على محاور عديدة، أولها تأصيل الحوار في القرآن الكريم، وكيف أن أساس الحوار القرآني أن يكون بالتي هي أحسن، والذي يشمل مفهوم الحكمة، بكل معطياتها الخيرية، ثم تمت مناقشة الحوار في ضوء فقه الواقع، كي يكون تمهيدا نظريا على أساس فقهي، وكي لا يقبع الحوار في الماضي، وإنما يكون عين المحاور على القضايا المعاصرة والمستجدة، بل يقرأ التاريخ في ضوء مستجدات الواقع، ولن يفهم إشكالات الواقع إلا بفهم التاريخ أيضا.

وكان من الضروري- تبعا لذلك – الوقوف على سلبيات الحوار ونوعية الشخصيات المحاورة، والمعوقات الحادثة، وأيضا دراسة تقاطع الحوار مع مفهوم الاختلاف والتحيز، مقدما أمثلة من حياة الإمام الشافعي، وبعض الأمثلة من حياتنا المعاصرة، فالشخص المحاور هو لب الحوار، فهو الذي يعرض ويناقش، ومتى عرف فنون الحوار- خاصة في وسائل الإعلام- وفهم مختلف الحيل والحبائل، وأدرك الرسائل الظاهرة والمبطنة؛ فهو سيكون محاورا ناجحا متميزا.

وجاء الفصل الثالث، لدراسة آفاق الحوار في أبعاده العالمية، فناقش الباحث حوار الحضارات والأديان والتعدد الثقافي، والمثاقفة بين الشعوب والأمم، وأيضا كيف يمكن تقديم حوار حضاري ناجح، يتجاوز طروحات الصدام الحضاري، إلى الحوار من أجل التحالف والتلاقي والتعايش، وذلك لب رسالة الأمة المسلمة، فهي لا تنظر بمنظور الصدام الحضاري، ولا الصراع النفعي، وإنما بمفهوم تعليم الناس الخير.

آمل من الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا الكتاب إضافة بحثية، تتضافر مع إضافات أخرى، وأن يحقق الهدف المبتغى منه، ألا وهو تقديم رؤية تكاملية حول مفاهيم الحوار وتشابكاته، أساسه المثاقفة والتواصل، اللذان يتأسسان على حوار الذات ومن ثمَّ حوار الحضارات.

كما آمل من الله -جلّ وعلا- القبول والإثابة، والعون والرشاد، فهو سبحانه دوما وأبدا من وراء القصد.

مقالات من نفس القسم