يبدو أن اللافت للنظر في نصوص الكاتب الروائية كما القصصية أنها تأتي قصيرة، لا تميل إلى الثرثرة وكثرة الكلام، تنشغل بالكيف لا بالكمّ، وتنقل اشتغالها من المستوى الكمّي إلى المستوى النوعي، موظفة شعرية الإيجاز والتكثيف، مركّزة اشتغالها على الدّال، إلى حدّ يجعلها أشبه بالأحلام والألغاز بآلياتها في التكثيف والتحويل والترميز، وبقدرتها على انتهاك الحدود بين الواقع والمتخيّل، واستنطاق الغريب والمجهول واللامتوقع.
ولم تعد الكتابة مجرد مرآة تعكس الواقع الاجتماعي، تنسخه وتسجله، كما كان الأمر في النصوص السردية التقليدية. صحيح أنها كتابة تنطلق من الواقع اليومي المعيش، إلا أنها سرعان ما تحلّق عاليا نحو فضاءات الخيال والرمز والغرابة واللامعقول. فالتفاصيل اليومية مادتها الأساس، لـكـنـهــا لا تكتفي بالنسخ والتسجيل، وإنما تقوم بالنبش في أماكن ومسالك أخرى لاقتناص ذلك الغريب في واقعنا ووجودنا، ومساءلة قدرنا الكوني واشتغالنا الذهني والاجتماعي.
وكما لاحظ بعض النقاد، فبالنسبة إلى منتصر القفاش، تستمدّ الرواية قيمتها من قدرتها على بناء رؤية معمقة للأسئلة التي يواجهها الإنسان على مدار وجوده. كأنّ الرواية لا يمكن أن تكون إلا نوعا خاصّـا من البحث والشك والقلق وإعادة النظر في كثير من أمور حياتنا واعتقاداتنا ومسلماتنا، بطريقة تمزج بين التخييل السردي والتأمل الفلسفي.
1 ــ مسألة وقت: ملخص الحكاية
تدور الحكاية حول حدث مركزي: زيارة رنا المفاجئة ليحيى، وتحاول من خلال التركيز على هذا الحدث أن تجيب عن سؤالين مركزيين: متى وقعت الزيارة؟ ولماذا زارت رنا يحيى بالذات؟
كان يوم زيارتها أول إجازة يحصل عليها يحيى من عمله الجديد، وكان كل ما أراده في هذا اليوم هو أن ينام براحته، فهو لم يستيقظ إلا في الساعة العاشرة تقريبا، وظل يتقلب في سريره طويلا محاولا العودة للنوم.
فاجأته رنا بزيارتها، كما فاجأته بجرأتها وسرعتها، فقد كانت على عجلة من أمرها، دعاها إلى الدخول، ولم تتوجه كما توقع إلى صالة الضيوف، بل اقتحمت غرفته، ولم تكن راغبة في الكلام الكثير، كأنما جاءت لتقضي حاجة ضرورية وبسرعة من لا يملك وقتا كثيرا، وأمامه مهام أخرى.
كانت معه الساعة الواحدة، وغادرت بيته بعد نصف ساعة تقريبا، تاركة بلوزتها البيضاء المقطوعة من الظهر، بعد أن عرض عليها ارتداء أحد قمصانه. واستغرب يحيى كيف قبلت عرضه دون أن تنشغل بما يمكن أن يطرحه الأهل من أسئلة، لم تكن خائفة أو قلقة من أيّ شيء. قبل مغادرتها أعطته رقم تلفونها ورقم صديقتها ناهد، وفي خروجها الهادئ كانت تبدو كأنها من أهل الدار.
بعد مغادرتها، رأى يحيى زيارتها المفاجئة قد أتت في الوقت المناسب. فمنذ انقطاع علاقته مع زميلته في العمل السابق والجفاف يضرب أيامه، ومع استغراقه في العمل الجديد وجد نفسه مربوطا في عجلة كبيرة لا تكفّ عن الدوران.
ولهذا قرر يحيى أن يتصل برنا في اليوم نفسه ليلا ليقترح عليها مقابلته في الغد. وكانت المفاجأة أن عرف بغرقها، وكانت المفاجأة الأكبر لمّـا سأل عن وقت غرقها، فقيل له حوالي الساعة عشرة الصبح. وأعاد الاتصال مرة أخرى، وكان التأكيد على أن رنا توفّـت الساعة العاشرة تقريبا. ومع ذلك لم يتأكد من وقت موتها إلا بعد ما ذهب للعزاء، فعرف أنها غرقت الساعة العاشرة صباحا قبل المجيء إليه، وأنهم عثروا على جثتها عند قاع النيل بعد خمس ساعات من غرق المعدية، ولا أحد يعرف سبب تأخرهم في العثور عليها: ” هل لكثرة من تمّ انتشالهم من الأحياء والجثث أم لتأخر الغواصين في الوصول إلى موقع الحادث أم لأنها لم تعد إلى مكانها عند القاع إلا بعد مرور هذا الوقت؟”(ص 10).
سؤالان حيّـرا يحيى: أتكون رنا زارته فعلا بعد الموت أو أثناء بحثهم عن جثتها؟ ولماذا زارته هو بالذات؟
لو ظلّ موضوع رنا قاصرا عليه لحاول إقناع نفسه بوجود خطأ في التوقيت، لكن ظهور ناهد في حياته بعد يومين من الزيارة أكّـد صحة كل شيء، فهي أيضا تعرف أن رنا زارت يحيى بعد موتها، وتملك دليلا على ذلك: ورقة طلبيات كانت بقميص يحيى الذي أعطاه لرنا.
ومع ذلك، وان كانت ناهد تعرف ما يعرف يحيى عن توقيت الزيارة، فهي لم تساعده كثيرا في الإجابة عن السؤال الثاني: لـمـاذا زارته هو بالذات؟، ” وقد لا يجد إجابة بقية عمره”(ص 21).
ما يجمع بين يحيى وناهد أن الاثنين ” اقتنعا بأن زيارتها ــ زيارة رنا ــ تحققت لوجود فاصل زمني بين غرقها والعثور على جثتها”(ص 43)، وهما يملكان من الحجج المادية( بلوزتها البيضاء عند يحيى، ورقة طلبيات عند ناهد كانت في قميص يحيى الذي ارتدته رنا بدل بلوزتها المقطوعة ..) ما يؤكد أن رنا زارت يحيى في الوقت الفاصل بين غرقها واكتشافها جثتها، والمسألة كلها هي مسألة وقت. ولكن، وماذا بعد؟ ماذا تؤكد هذه الحجج؟ وماذا قد يعني أن يقول يحيى للناس إن ” بيته صار معبرا للموتى في رحلتهم إلى النهاية”(ص 38)؟
ومع ذلك، فالاثنان معا، يحيى وناهد، كانا مقتنعين بأن الحكاية فيها لغز، وأن هناك أجزاء أخرى ستظهر. وحاولا معا، أو كل واحد من جهته، البحث عن الأجزاء الضائعة من الحكاية، وملء الفراغات والبياضات، وإيجاد أجوبة مقنعة للأسئلة المطروحة، لكن دون جدوى.
ولم يعد يحيى يردّ على مكالمات ناهد، إلى أن فاجأته بزيارتها، لائمة إياه على الغياب والنسيان، مقتحمة غرفته، متمددة على سريره، كأنما اللحظات التي قضاها مع رنا تتكرر مرة أخرى، أو كأنما رنا تحضر مرة أخرى من خلال صديقتها ناهد..
ما أن استيقظ يحيى حتى رأى المعدية على حائط غرفته. نزل من السرير ووقف وسط الغرفة ليتأكد من أنه لا يحلم. مستحيل أن يكون في حلم إلا إذا كان من الأحلام التي ترى نفسك فيها وأنت تحاول أن تستيقظ وتتخلص مما تحلم به. فهو رأى المعدية بكل الأوصاف التي قالتها ناهد. ودقق النظر في وجوه الركاب ولم يلمح رنا بين الركاب. وماذا يعني أنها ليست موجودة؟ ولماذا جاءت المعدية إلى غرفته؟ ربما كانت ساعدته رؤيتها على تذكر شيء نسيه في هذه الحكاية. مثل ماذا؟ أن تكون رنا اختارته ليفعل شيئا لم تستطع فعله. وهل عدم رؤيته لها بين ركاب المعدية حلم من أحلامها؟ أحلمت بألا تكون من بين من غرقوا؟
قرر أن يركب رقم التلفون الذي قالته رنا والذي عرف أنه تليفون شقة ناهد القديمة. أتاه صوت رجل، وعرف منه أن آخرين سبقوه إلى السؤال عن رنا، وأنه لا يملك أية معلومات، ونصحه بأن يتعامل مع الأمر مثل حاجات تنتهي من غير ما نأخذ بالنا. لكن يحيى اعتبر كلامه أشبه بمن يعطيك حكمة تتلهى بها حتى تستقر على قرار. لو كان سمعها في البداية ربما ساعدته، أما الآن فيجدها نصف الحقيقة.
منذ بداية هذه الحكاية لم ير أحدا يبكي على رنا أو بسببها. فهو دخل الحكاية بعدما انتهى فاصل البكاء، ومسحت الوجوه دموعها. والرجل على الهاتف نفى أن كان يبكي، وتساءل متى تنتهي مكالمات أناس يظنون أنه يملك معلومات، مع أنه هو الآخر يجمع تفاصيل الحكاية من كلامهم. انطلق الرجل في حديثه بينما يحيى يكرر ” الو “، ” كان الصوت واضحا ولم تفته كلمة، لكن الصوت صار صوت رنا، ثم تناوب الصوتان تدريجيا على صدى الصوت، وواصل يحيى إنصاته إلى ما يحكيه الرجل أو تحكيه رنا إلى أن سمع صوتا يسأله، ولم يعرف يحيى من سأله هل الرجل أم رنا أم أمه تسأله: ” أنت إجازة النهارده؟ أجابهم كلهم بالكلمة نفسها، فتلاشت أصواتهم جميعا.
1 ــ هل يمكن أن توجد الذات خارج الزمن؟
تتناول الرواية الفارق الزمني بين لحظتين: لحظة الغرق ولحظة اكتشاف الجثة، بشكل يخلخل تصوراتنا للزمن والحياة والوجود كما نقولها ونكتبها: زارت رنا يحيى في الساعة الواحدة زوالا، هذا ما يعرفه يحيى، ويملك من الحجج ما يثيت ذلك، لكن الآخرين يقولون إن رنا قد غرقت المعدية التي نقلتها في الساعة العاشرة صباحا، وهو ما يعني، حسب تصوراتهم الإنسانية الطبيعية، أنه لم يكن ممكنا أن تزور رنا يحيى بعد غرقها وموتها. والشيء المحيّر هو أن جثة رنا بالذات لم يتمّ اكتشافها إلا بعد مرور خمس ساعات، والسؤال الأساس هو: لماذا لم تكتشف جثتها باكرا؟ ماذا كانت تفعل رنا ما بين العاشرة صباحا(وقت غرق المعدية) والثالثة زوالا(وقت اكتشاف الجثة)؟ أتكون فعلا قد زارت يحيى في الساعة الواحدة زوالا؟ أمن الممكن أن تسافر رنا الزمن، وأن تحيى وتوجد، قبل أن تكتشف جثتها؟
في كل الأحوال يتعلق الأمر بــمسألة وقت.
بالنظر إلى طبيعة عقولنا وعقائدنا وادراكاتنا، ما يمكن أن يقال ويكتب هو أن رنا من الممكن أن تكون قد زارت يحيى قبل غرقها وموتها، وما لا يمكن أن يقال ولا أن يكتب هو أن رنا يمكن أن تزور يحيى بعد غرقها وموتها. ويعني هذا أن المنطق الذي يحكمنا يعرف شيئين لا ثالث لهما: وجود رنا في زمن ما قبل غرقها ممكن/ وجود رنا في زمن ما بعد غرقها غير ممكن.
لكن ماذا تعني هذه الــ”غير ممكن”؟
هي جملة نفي، والنفي ينطلق من احتمالين لا ثالث لهما: رنا موجودة في هذا الزمن السابق على الغرق/ رنا غير موجودة في الزمن اللاحق للغرق. والسؤال هو: ما معنى السابق واللاحق؟ ألا يمكن لرنا أن توجد خارج الزمان كما نفهمه ونتصوره؟ أليس من الممكن أن يكون هناك زمن آخر خارج الزمن كما ندركه؟ ماذا عن فارق التوقيت هذا بين لحظة الغرق ولحظة اكتشاف الجثة؟ ماذا لو كانت رنا فعلا قد سافرت في الزمن من أجل أن تحقق رغبتها الأخيرة قبل أن تكتشف جثتها؟ ألا تدعو هذه الأسئلة إلى إعادة النظر في مفاهيمنا للزمن والوجود، للحياة والموت؟
يحيى وناهد مقتنعان بأن رنا زارت يحيي بين لحظة الغرق ولحظة اكتشاف جثتها. وعقولنا التي يحكمها منطق الزمن الإنساني لا يمكن أن تصدق ذلك، لكن العقل الرياضي يمكن أن يصدق ذلك، ويحيى متخصص في الرياضيات، والمنطق الرياضي يقول انه من الممكن أن نسافر داخل الزمن كما نسافر في المكان والفضاء.
مسألة الزمن مسألة جوهرية في رواية مسألة وقت، وانطلاقا من العنوان يتضح أن الزمن هو ” بطل ” الرواية. والغريب أنه بعد أن ننتهي من قراءة الرواية تأخذنا الحيرة بعيدا: هل تصوراتنا للزمن منطقية وحقيقية ومعقولة كما نتصور أم أنها تصورات فيها من الوهم والخيال أكثر مما نتصور؟ ألا تفتح الرواية أعيننا على إدراك موسع ومعمق للزمن أكثر واقعية مما قد لا نتصور؟
مع رواية منتصر القفاش، لم تعد الرواية تصور الزمن التاريخي المتسلسل من الماضي إلى المستقبل مرورا بالحاضر، بل هي تعمل جاهدة من أجل أن تصور هذا الذي نسميه: خارج ـ الزمن، وأن تقنعنا بأن الوجود ممكن في زمن آخر يقع خارج الزمن كما نعرفه ونحدده.
والرواية، بهذا العمل، تسمح برفع الحواجز والحدود التي تحكم الزمن كما يتصوره الإنسان، وتسمح بتصوير زمن هو مقصي وغائب عن تصوراتنا ومفاهيمنا. فهي تكتب حكاية زمن آخر غير الزمن الذي تجري فيه عادة الأحداث والوقائع. كأنما الرواية المعاصرة، كما لاحظ بيير ووليت(Poétique de la posthistoire,2008)، تسير عكس التاريخ، أي عكس مجرى الأشياء، لأن هناك زمن آخر لابد من إعادة بنائه بالرغم عن عجز العقل عن تصوره وإدراكه، انه الزمن الذي نلجأ إليه من أجل الهروب من الضرورة أوالحتمية التي تحكم الزمن التاريخي.
وكما لاحظت مي التلمساني(في دراستها: الكتابة على هامش التاريخ، مصر الغياب)، فالزمن الذي تتحدث عنه الرواية هو أشبه بالزمن النفسي الذي تكون بنيته بنية العماء التي تستدعي الفوضى وتتحالف ضد الثبات وضد الزمن التاريخي المحسوب.
والواقع أنه في مسألة وقت يتعلق الأمر برؤية جديدة للزمن والوجود هي في الوقت نفسه واقعية وحلمية واستيهامية، تجمع بين ما نعتبره منطقيا ومعقولا وبين ما ننفيه باعتباره غير منطقي وينتمي إلى مجال اللامعقول.
وهكذا يبدو العالم الذي تصوره الرواية كأنه فوق واقعي يتركب من صور تنتمي إلى سجل الغرابة والفانطاستيك، وتتقدم الرؤية التي تنسجها الرواية فانطاسمغورية للزمن والوجود والحياة. فمن الصعب في رواية منتصر القفاش أن نعرف هل يتعلق الأمر بحكاية ” واقعية ” ” حقيقية ” أم أنها مجرد حلم أو استيهام، أيتعلق الأمر بواقعة حدثت فعلا في الزمن والمكان أم أن الأمر كله مجرد تهيؤات وتخيلات؟
تفتتح الرواية بزيارة رنا، وهي زيارة جاءت في سياق ملتبس، إذ كان يحيى في يوم إجازة(أيعني ذلك أنه خارج الزمن الاجتماعي والتاريخي؟)، وظل ذلك الصباح بين النوم واليقظة، أي بين الحلم والواقع، ولا يمكن أن نحسم هل تحققت الزيارة فعلا في وقت اليقظة أم في وقت النوم. ونحن من جهة أمام زيارة استثنائية لا يمكن أن تتحقق إلا في الأحلام، لأن الحلم، وبالتالي اللاوعي، هو لازمني كما تقول نظرية فرويد لا يعرف الزمن، ولا يعترف بوجوده، وفي الأحلام فقط يمكن للموتى أن يعودوا، وأن يسافروا في الزمن، وأن يحيوا من جديد، وأن يحققوا رغباتهم التي لم يتمكنوا من تحقيقها، وأن يوصلوا رسالة نسوا إبلاغها. ولكن من جهة أخرى هناك من الحجج المادية(بلوزة رنا، القميص، الورقة، ناهد) ما يؤكد أن رنا قد زارت يحيى فعلا في وقت ننفيه من كلامنا وحكينا: بين لحظة الغرق ولحظة اكتشاف الجثة. وقد انتهت الرواية بالالتباس نفسه، فقد كان يحيى في يوم إجازة(مرة أخرى خارج الزمن الاجتماعي والتاريخي؟)، وأجرى مكالمة على الرقم الذي قالته رنا، ومن خلال الصوت الرجولي الذي ردّ عليه، كان يحيى يسمع صوت رنا، أتكون رنا عادت من موتها مرة أخرى؟ أتكون قد سافرت في الزمن مرة ثانية؟
في كل الأحوال، تعود قيمة مسألة وقت إلى أنها تحاول أن تخلخل هذا المنطق الذي يحكم تصوراتنا وادراكاتنا، وهو منطق ثنائي يتألف من الثبوت والنفي: يمكن/لايمكن، ولا يعترف بوجود احتمال ثالث. ومهمة الكتابة التخييلية أن تقول وتكتب هذا الاحتمال الثالث المنفي والمقصي: لأن هناك شيء آخر بين الممكن وغير الممكن، بين الوجود واللاوجود، وما يؤكد ذلك أن رنا قد زارت يحيى بعد غرقها وموتها، ويملك يحيى من الحجج المادية ما يتبث ذلك، مع أن الآخرين يعتقدون استحالة وجود رنا بعد غرقها وموتها.
رنا موجودة وغير موجودة في الوقت نفسه، ومسألة الوجود نسبية، ففي نهاية الرواية نجده يسمع صوتها، وهو ما يعني أنها موجودة، مع أن الجميع قد سلّم بأنها ميتة. وقبل ذلك، ففي بداية الحكاية كان يحيى قد جرّب اللعب بمسألة الوجود. فقد كان يحكي لأحد أصدقائه ــ أحمد ــ في بداية الأمر عن علاقته برنا، وبعد موتها الذي لم يعلم به صديقه، استمر يحدثه عنها ويتناقشان حول علاقته بها كأنها موجودة، فقد ” وجد يحيى مسار الكلام بينهما أفضل مما لو عرف أحمد بموت رنا، فهو يراها الان ليست فقط على قيد الحياة، بل يرى ما فعلته بعد موتها على أنه جزء من شخصيتها، وينتظر أن تفعل شيئا في الأيام القادمة.”(ص 30).
وما أكد ليحيى أن مسألة الوجود ليست باليقين والثبات الذي نتصوره هو ظهور شخصية أخرى، صديقة رنا واسمها ناهد التي جاءت تساعد يحيى في البحث، لكنها تبقى هي الأخرى شخصية يحكمها منطق الاحتمال الثالث: هي ناهد كما أنها ليست ناهد/ هي رنا كما أنها ليست رنا. ويمكن أن نقول إن ناهد هي ناهد ورنا في الوقت نفسه. نقرأ في الصفحات الأخيرة من الرواية: ” ناهد لم تكن إلا ميتة، وقد أكملت ما بدأته صديقتها”(ص 115)، وهو ما يعني أن ناهد التي نعرف أنها حيّة ليست في الواقع إلا ميتة، لأن رنا هي التي تحيى من خلالها.
وليس غريبا أن تنتهي الرواية ببحث يحيى عن رقم التليفون الذي قالته رنا قبل مغادرتها، وهو تلفون شقة ناهد القديمة. ركّب الرقم، فجاءه صوت رجل، تكلما قليلا، وكان الرجل يدخن كثيرا، وفجأة غاب صوت الرجل، وصـــار ” الصوت يصله واضحا ولم تفته كلمة، لكن الصوت صار صوت رنا”(ص 122). وسماعه صوتها دليل على أنها توجد حيث لا يدرك الآخرون أنها توجد، وبهذا المعنى فهي توجد ولا توجد في الوقت نفسه، ويمكن القول إنها توجد خارج الزمان، أو في زمن آخر لا ندركه ولا نتصوره.
هل يمكن أن توجد الذات فعلا خارج الزمن، على الأقل كما نتصوره وندركه؟ أهذا هو السؤال الذي تريد الرواية أن تطرحه؟ أليست الحكاية كلها مجرد حيلة من أجل أن يجد يحيى جوابا لسؤاله: ما معنى أن الإنسان يحيى ويوجد؟
2 ــ من رواية “الحقيقة” إلى رواية الاحتمالات:
اللافت في رواية مسألة وقت شيئان أساسان: الأول أن الحكاية من البداية إلى النهاية هي لغز لا أحد استطاع الوصول إلى سرّه وحقيقته. وقعت الواقعة، فانخرطت الشخصيات المحورية(يحيى وناهد) في بحث من أجل فهم ما وقع ولماذا وقع ومتى وقع. فتحولت الرواية إلى محكي بحث عن أجزاء الحكاية وتفاصيلها ودوافعها وأهدافها…
والثاني أن رواية منتصر القفاش تختلف عن محكيات البحث التقليدية. فإذا كان الغالب هو أن تبدأ محكيات البحث بحركة انفتاح على معان واتجاهات وحلول ممكنة ومتعددة، ثم تنتهي في اتجاه أو معنى أو حلّ ممكن، وهو ما يشكّـل حركة انغلاق، وإذا كان السائد هو أن تضمر حركتا الانفتاح والانغلاق قاعدتين ضروريتين: في البداية، ينبغي إخفاء الحقيقة على طول الكتاب، وفي نهايته ينبغي أن يبلغ القارئ الحقيقة، فان أول ملاحظة يمكن تسجيلها بخصوص رواية مسألة وقت هو غياب حركة الانغلاق وهيمنة حركة الانفتاح أو لنسميها حركة الاحتمال. فاللغز الذي يحاول المحكي فكّ أسراره والوصول إلى حقيقته بقي مفتوحا على كل الاحتمالات دون أن ينغلق على حقيقة ما على أنها ” الحقيقة”، وتبقى الأسئلة مطروحة دون جواب: هل ماتت رنا قبل زيارة يحيى أم بعدها؟ هل زارته فعلا أم لا؟ أمن الممكن أن تزوره بين لحظة الغرق ولحظة اكتشاف الجثة؟ هل رنا واقع أم حلم وخيال؟ لماذا زارت رنا يحيى بالذات؟ وكيف جاءت إليه بعد موتها؟ أهي جزء من الماضي أم أنها الحضور المستمر؟ ومن تكون ناهد؟ أليست ناهد هي رنا؟ أليست ناهد امتدادا لرنا؟
في رواية مسألة وقت، يجد القارئ نفسه أمام حكاية لا تملك الشخصية، كما السارد، كل أطرافها وأسرارها. فالحكاية ملغزة محيرة تبدو خارج المنطق والعقل، وتثير من الأسئلة أكثر مما تقدم من الأجوبة. ويبدو كأن الشيء الأساس في الرواية هو حركة البحث نفسها، فليس هدف الرواية كتابة حكاية لها بداية ونهاية، لأن الكتابة لا تعني في الأصل إلا هذا البحث المتواصل اللانهائي، واللذة القصوى لا تتحقق إلا مع هذه الحكاية التي لا تنتهي إلى يقين، أي مع حكاية تلعب لعبة الاحتمالات، وتراكم أسئلة عديدة تبقى من دون جواب، وتنتهي دون أن تحسم أيّ شيء، فكل شيء يبقى معلقا.
وهكذا يتضح أن الرواية لا تقول ” الحقيقة ” قدرما تقول الاحتمالات كلها، والمنفية المغيّبة منها بالأخص، وتكشف عن مخبوءات لا ننتبه إليها في حياتنا ووجودنا، وتدفعنا إلى القلق والشك واللايقين. والواقع أن قيمة الكتابة الأدبية، والروائية، تكمن بالذات، كما لاحظ الناقد الفرنسي المعاصر بيير بيارPierre Bayard ، في هذه اللابتّـية Indécidabilité، فالأدب لا يبتّ في الأمر، ولا يحسم، ويبقي الأمر في نوع من الغموض والالتباس والتردد والحيرة، فالأمر ممكن وغير ممكن في الوقت نفسه، فلا وجود لأيّ تفسير حاسم في رواية مسألة وقت، وما يشغل محكيّ البحث لا ينحصر في البتّ والحسم، بل إن ما يشغله أكثر هو أن ينفتح على الفضاءات المعقدة والاحتمالات المتعددة، فهذا ما يجعله نقيضا لكل الخطابات السياسية والإيديولوجية وكل الخطابات الأحادية القاهرة التي تدّعي امتلاك الحقيقة.
غالبا ما تنطلق قراءاتنا لمحكيات البحث من فكرة مفادها أن إنتاج معنى يقتضي تفكيك لغز وحلّه، ومن فكرة أنّ هناك حقيقة ما في مكان ما، وأنّ بحثا ما يمكنه أن يكشف ” الحقيقة “. لكن قليلا ما نتساءل: ماذا عن محكيات البحث التي لا تبلغ ” الحقيقة “، وغايتها ليست أن تصل إلى ” الحقيقة “، بل أن تظهر ” الحقيقة ” مستحيلة فاتحة أعين القرّاء على احتمالات متعددة ملتبسة محيّرة، على ” ألف طريقة وطريقة” في البحث عن ” الحقيقة “؟
ويعني الانتماء إلى منطق الشك والاحتمال أن الغاية من الكتابة ليست النجاح في بلوغ الحقيقة، بل العكس تماما، فالفشل هو العلامة على أننا أمام كتابة أدبية أصيلة. قد تبدو الشخصية كما قد يبدو السارد في مسألة وقت باحثا فاشلا سلبيا لم يستطع بلوغ ” الحقيقة “، كأنما هاته شيء مستحيل لا يمكن بلوغه، وهو ما قد يجعل من الجهد الذي بذله يحيى جهدا مأساويا من دون جدوى، فما يسعى البحث إلى اكتشافه هو غير قابل للانكشاف. كأنما قدر الإنسانية، كما قال نيتشه، هو الفشل والعودة في كل مرة إلى نقطة الصفر، نقطة البداية.
والفشل ليس علامة سلبية دائما، فدون كيشوط (سرفانتس) كان يعرف أنه سيفشل، كما أن الأب غوريو(بلزاك)، وأنا كارينين(تولستوي)، والأمير ميشكين(دوستويفسكي)، كلهم كانوا يعرفون أنهم سيفشلون. لكن بثقل وعيهم بالفشل استطاعوا، كما سجل كارلوس فوينتس(في مقالة تحت عنوان: A la louange du roman )، أن يجعلونا نستطيع حماية طبيعة الحياة نفسها كما هي معيشة ومخزونة عبر كل الأزمنة.
وبهذا يبدو كأن البحث الذي يمارسه الروائي هو أشبه بالبحث الذي ينخرط فيه ذلك الفارس الدونكيشوطي التائه الذي لم يعثر أبدا على شيء ما، ولم ير أبدا كل شيء. والرواية الحقيقية، حسب كونديرا، هي التي تشبه دون كيشوط دون أن تتطابقا تماما، أي هي التي تحدد هدفها في إظهار الوجه الآخر للواقع، ذلك الوجه ـ اللغز الذي ليس سهلا فهمه وتفسيره والوصول الى حقيقته.
هناك حكاية، لكن ما أشبهها بالمتاهة، متاهة بدون مدخل ولا مخرج. فعبر المقاطع المتتابعة للرواية تنبني، كما لاحظ جابر عصفور، ” شبكة دوالّ لا تكفّ عن توليد الالتباسات، كأننا في حضورها الملتبس، قاب قوسين أو أدنى من متاهات بورخيس ومراياه … (انه) السرد الذي يبدأ بسيطا لكنه سرعان ما يغدو متاهة، ندخل إليها من أي مكان شئنا، لكن من دون أن توصلنا إلى نهاية محددة.”( هوامش للكتابة ــ مسألة وقت، جريدة الحياة، 20 ـ 2 ـ 2008.).
وفي كل الأحوال، فالفشل والتيه من العلامات التي تؤكد أن الغاية من الـكـتـابـة الــروائــية عند منتصر القفاش ليست إبلاغ حقيقة ما أو نقل الواقع المعطى كما هو، قدرما هي مساءلة ” الحقيقة” والنظر إلى ماوراء الواقع المعطى، بشكل يجعل من الـتـخـيـيـل مــرآة نـقـديــة لما يقدّم عـلـى أنه ” الحقيقة ” في عالم من التوافقات والاصطلاحات. فبواسطة الكتابة الروائية يمكن اختبار العقل والشك في عقائده والسخرية من يقينياته، وذلك بالدخول إلى عالم الاحتمالات، والنظر إلى ” الحقيقة ” على أنه مشكوك في أمرها، وأن كل شيء يسبح في فضاء اللايقين. فالبحث الذي دشنه يحيى هو بحث ذلك الباحث الذي لا يعلم كل شيء، ولم يكتشف كل شيء، ولم يجد كل ما يبحث عنه. وقيمة الرواية في أنها تطرح السؤال الأساس: أهناك احتمالات وإمكانات أخرى للإنسان في عالم أصبحت تصوراته وتحديداته ” للحقيقة ” قاهرة وضاغطة وساحقة؟
اللافت أن جمالية محكي البحث وأصالته في هذه رواية منتصر القفاش تعود إلى قدرته على جعل القارئ يجد في استحالة فكّ أسرار اللغز وبلوغ ” الحقيقة ” أشياء أخرى عديدة غير يقينية، كأنه محكيّ بحث يجعل من اللايقين الصيغة المركزية للمعرفة.
3 ــ الرواية محكي بحث ” بألف طريقة وطريقة “:
يملك يحيى مجموعة من الكتب والعناوين التي تقدم حلولا لكل المشكلات في أقصر وقت ممكن: كيف تحقق النجاح، كيف تكون سعيدا، تخلص من القلق، كيف تعيش الحب …
عندما زارته رنا كانت قد اقتربت من هذه الكتب قبل مغادرتها، لكنها خرجت دون أن تطلب استعارة كتاب ما، وهي عندما حكت لناهد عن زيارتها ليحيى وصفت لها أشياء الغرفة وأماكنها كلها، لكنها تجاهلت هذه الكتب التي تضم وصفات مضمونة للنجاح في الحياة. كأنما كانت في قرارة نفسها لا تؤمن بوجود وصفة جاهزة للنجاح، أو كأنها لا تعتبر النجاح معيارا، إذ يمكن للفشل أن يكون أهم من النجاح، كما وضحنا أعلاه.
ما يهمنا هنا هو كتاب كان يعود إليه يحيى، من حين لآخر، منذ انخرط في جمع تفاصيل الحكاية، والبحث عن فهم وتفسير ألغازها وأسرارها. وعنوان هذا الكتاب شديد الدلالة: ألف طريقة وطريقة، وذلك لأنه عنوان يختلف جذريا عن العناوين الأخرى المذكورة أعلاه. فلم يعد الأمر يتعلق بوصفة جاهزة للنجاح، بل بألف طريقة وطريقة، وقد يكون الفشل إحدى هذه الطرق.
ومن الطرق التي لفتت انتباه يحيى في كتاب ألف طريقة وطريقة نذكر ثلاثا أساسا:
ــ طريقة التكرار: غالبا ما يجد يحيى صفحات مكررة في الكتب التي يشتريها، وخاصة في تلك الكتب التي تهدف إلى تحفيز النفس. وعندما يجد يحيى كتابا منها دون صفحات مكررة يحس بأنه نسخة غير مكتملة، ذلك لأن التكرار في نظره رسالة واضحة للجميع لكن يندر من يراها.
بعد عشرة أيام من زيارة رنا، عثر يحيى على الصفحة المكررة في كتاب: ألف طريقة وطريقة، وهو يعتقد أنه مادامت قد تكررت، فهذا يعني شيئا مرسلا إليه. عن ماذا تتحدث هذه الصفحة المكررة؟
لا تتحدث الصفحة المكررة إلا عن الحكي وطرقه، ومضمون الرسالة التي تريد الصفحة المكررة ابلاغه هو باختصار أن الحكي يمكن أن يكون بألف طريقة وطريقة، فمثلا عندما لا نستطيع حكاية ما حدث لنا، نلجأ إلى طريقة مضمونة هي أن نحكي الحكاية على أنها حدثت لصديق نثق في صدقه. يمكنك أن تحكي حكايتك بطريقة مباشرة، فتنسبها إلى نفسك، ويمكنك أن تلجأ إلى طريقة غير مباشرة تجعلك تحكي براحتك متحررا من كل ما قد يثقل عليك، وذلك بنسب الحكاية إلى صديق ما، تختفي أنت داخله.
سؤالان قد يشغلان القارئ، الأول هو: كيف استفاد يحيى، الشخصية المحورية، من هذه الطريقة في البحث الذي انخرط فيه؟ هل استفاد من طريقة التكرار أم من مضمون الصفحة المكررة في كتاب ألف طريقة وطريقة؟
ربما استفاد من الاثنين، فقد يكون وظّـف طريقة التكرار في بحثه، إذ على طول الحكاية لم يكن البحث يتقدم، قدر ما كان يتكرر ، ويدور حول أسئلة لم يجد، وربما لن يجد، لها جوابا: لماذا زارته رنا هو بالذات في ذلك الوقت بالذات؟
وربما ليس الأهم أن يتقد م البحث على الطريقة التقليدية، ولا أن نجد الجواب لكل سؤال، ذلك لأن الأهم ربما هو أن نطرح الأسئلة، وأن نكرر طرحها بألف طريقة وطريقة.
وقد يكون يحيى استفاد من مضمون الصفحة المكررة في الكتاب، وتعلقه برنا وإصراره على معرفة حكايتها ليس ربما إلا حيلة فنية، وما ينبغي أن نقرأه في حكاية رنا هو يحيى نفسه، إذ على طول الحكاية نشعر أن يحيى عندما يسأل عن رنا وحقيقتها وشخصيتها ووجودها وموتها وحياتها، فهو في الواقع لم يكن يسأل إلا عن نفسه، عن علاقته بالزمن والوجود، بالحياة والموت. وحكاية رنا ليست إلا حكاية يحيى. وقد لا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ: ألا يمكن أن تكون حكاية يحيى هي حكاية السارد، وحكاية السارد هي حكاية الكاتب؟ وفي النهاية، أليست حكاية رنا هي حكاية الكاتب؟ ألم يقل فلوبير إن مدام بوفاري هي أنا؟
والسؤال الثاني هو: هل استفاد السارد، وبالتالي الكاتب، من طريقة التكرار؟
سجلنا أعلاه أن رواية مسألة وقت، بالرغم من تجريبيتها، فهي أشدّ تعلقا بأصول السرد والحكي، كما هي في أعمال مؤسسة من مثل دون كيشوط، أو كما أعيد إنتاجها في أعمال كتّاب معاصرين من مثل ميلان كونديرا وبورخيس …
وأهمية هذه الخاصية أن الكاتب عندما يعيد كتابة عمل أدبي سابق، فذلك يعني أن الكتابة ليست محاكاة للواقع الذاتي أو الاجتماعي، بل هي محاكاة لأعمال أدبية سابقة. كأن الكتابة لا تكتفي بحكاية إنسان ما، بل تقصّ علينا الرواية العائلية للأدب نفسه، أو الأصح أن الكتابة هي تلك التي تكرر تلك الحكاية التي لا ينفكّ الأدب يكررها عبر تاريخه.
ولا يعني التكرار هنا إلا إعادة الكتابة، وإعادة الكتابة ليست مجرد نقل سلبي لنص سايق، وليست مجرد تكرار لمكتوب ما، بل إنها عمل حقيقي، لأنها تقوم على أساس التحويل، والسؤال الذي قد يشغل الكاتب هو: كيف أعيد اليوم كتابة دون كيشوط مثلا؟ كيف أجعل دون كيشوط تخضع لعملية تحويل بالشكل الذي يبدو معه النص كما لو أنه لوح ممسوح أعاد الكاتب كتابة ما كان فيه بالطريقة التي تسمح له بأن ينقش عليه حكايته الخاصة. فكتابة نص قديم من جديد يعني أننا أمام كتابة مضاعفة مزدوجة، أي أنها كتابة تعيد النسخ والنقل، ومن خلال ذلك تبتكر وتبدع، وهذا ما يجعل منها كتابة ذات طابع إشكالي، وذلك لأن إعادة الكتابة تكشف أن وراء كل نصّ نصّـا آخر أو نصوصا أخرى، وأن الكاتب لا يكتب فقط، بل انه يقرأ ويكتب ويكتب ويقرأ، بشكل لا يمكن الفصل فيه بين الكتابة والقراءة، فبينهما علاقات جدلية إلزامية. وفوق ذلك، فالنصوص، التي تقوم على إعادة الكتابة، تبتكر محاكاة جديدة مؤسّسة على متخيّـل يشتغل أو على الأصحّ يعيد الاشتغال على مصادر مكتوبة.
والخلاصة أن طريقة التكرار تستتبع تأملا في طرق السرد والكتابة، وتفكيرا في حدود الأدب الروائي، ففي رواية منتصر القفاش ّ ندرك أن الكتابة باعتبارها حكيا وسردا وبحثا تكون موضوعة، هي نفسها، موضع السؤال، كأن الرواية لا تحكي أزمة الإنسان ومصيره فحسب، بل إنها تحكي أزمتها هي نفسها، وتكتب حكايتها الخاصة التي لا تملّ الأعمال الروائية، في كل الأزمنة، من كتابتها وإعادة كتابتها.
ــ طريقة المرآة:
من عناوين الطرق في كتاب ألف طريقة وطريقة عنوان: ” طريق طويل “، وقد ظنه يحيى يشير إلى الأشياء التي تحتاج وقتا طويلا حتى تتحقق، إلا أن الكتاب تحدث عن شيء آخر، تحدث عن: المرآة، مركزا على مزاياها وخصائصها.
المرآة، تبعا للكتاب، هي الأداة التي تسمح لك بمعرفة وجهك: ” هل هو وجهك أم وجه تراه لأول مرة؟”(ص 57). وهي الأداة التي تسمح لك بأن تمنح نفسك الوقت اللازم قبل الإجابة عن هذا السؤال، فالمرآة ” لا تعرف معنى للوقت، ولا تستطيع استعادة شيء مرّ من لحظة، تعكس ــ فقط ــ الموجود أمامها الآن، وما تحديقك فيها إلا لتعوضها عما ينقصها، وتتيح لها رؤية الماضي والمستقبل من خلالك؟”(ص ص 57 ـ 58).
من بين الأسئلة التي شغلت يحيى سؤال يتعلق بالعلاقة بين المرآة والمرأة. ففي غرفته، خلعت ناهد الجاكت الجينز الذي كانت ترتديه، وارتدت بلوزة رنا، أكانت ناهد بذلك تتحول إلى مرآة تعكس امرأة أخرى اسمها رنا؟
وسألت ناهد عن مرآة، ثم أضافت شيئا استغرب له يحيى ولم يجد له تفسيرا، فقد قالت ناهد إن رنا حدثتها عن مراة ثانية كانت موجودة على الحائط تواجه مرآة الدولاب، وأن رنا ” استطاعت رؤية نفسها من الأمام والخلف، وتمنت لو ظلت تنظر فيها، لكن ” ما كانش فيه وقت ” . “(ص 41).
نفى يحيى وجود مرآة كانت معلقة على الحائط، فهو لم يغير أيّ شيء في غرفته منذ أن زارته رنا. ويبقى السؤال معلقا: أكانت هناك فعلا مراة؟ أهناك مرآة تراها رنا ولا يراها هو؟ ما معنى أن توجد في غرفته مرآة تحدثت عنها رنا؟
أسئلة لا جواب عنها، إلا أن يحيى سيستيقظ ذات مرة في الأيام اللاحقة ليجد المعدية التي نقلت رنا على حائط غرفته، بركابها وحيواناتها وعرباتها وسياراتها وقططها.
رقد يحيى على السرير، وظل ينظر إلى المعدية التي رفض الذهاب إليها، فوجدها تظهر له في غرفته، وكأنها لم ترض عن قراره. دقّـق النظر في كل الوجوه، فلم يلمح رنا بين الركاب. ما معنى ذلك؟ ما معنى أن تحضر المعدية إلى غرفته بكل ركابها وحيواناتها وعرباتها من دون رنا؟
كان، يحيى وهو يسأل ويحاول أن يفهم حكاية رنا، يستحضر أحلامه، ويستدعي أحلام الآخرين، ويترك خياله الداخلي ينشط، ويحاول أن يرى الأشياء في وجهها الآخر الأكثر غموضا والتباسا، والأكثر قربا من الحلم والاستيهام. ومع يحيى، صار العالم الداخلي مرآة يعكس العالم الخارجي، كما صار العالم الخارجي مرآة تعكس العالم الداخلي، وتتقدم الحكاية كلها كأنها جمع إشكالي من الصور والمرايا والاستعارات والتضعيفات التخييلية. فجانب من الحكاية يمكن اعتباره ” حقيقيا ” و ” واقعيا “، غير أن هناك جوانب أخرى ذات علاقة وطيدة بالحكاية تحيّر القارئ برمزيتها وغموضها، وهي تأتي في شكل أحلام واستيهامات وتخيلات وتهيؤات. فالحكاية لم تعد موحدة بالمعنى التقليدي، بل هي منقسمة بعضها يقول الواقع، وبعضها الآخر يقول الحلم والاستيهام. أو الأصح أن بعضها يعكس البعض الآخر. وهو ما يفترض الاحتكام إلى لعبة المرايا ، فالحكاية في مجموعها هي مجموع من المرايا والعاكسات والتضعيفات التخييلية التي تجعل من الحكاية، أو جزءا منها على الأقل، رمزا أو استعارة و مجازا.
الخلاصة أن لعبة المرايا تعني أننا أمام نص روائي يقوم أساسا على التضعيف والازدواج والتعدد(نص داخل نص، حكاية داخل حكاية، النص والميتانص)، فالمحكي يبدأ بسيطا لكنه سرعان ما يتعدد ويتضاعف بشكل يمنح النص ملامح واقعية وحلمية واستيهامية، فالنص الروائي لم يعد يكتفي بمحاكاة الواقع، بل هو يحاول إخراج النص التخييلي إلى دوائر أوسع وأغنى ينسجها الحلم والاستيهام والمونولوج والاستعارات الداخلية والمحكيات النفسية التي تحاول بلغتها الرمزية الاستعارية أن تقول ما لا تستطيع لغة الواقع أن تقوله، مؤلفة بذلك رؤية استيهامية غريبة ومقلقة، كما في هذا النموذج:
” ما إن استيقظ حتى رأى المعدية على الحائط. نزل من السرير ووقف وسط الغرفة ليتأكد من أنه لا يحلم …كل الأوصاف التي قالتها ناهد عن المعدية رآها على الحائط … دقّ يحيى بيده على الحائط لكن المعدية ظلت واضحة عليه. رقد على السرير وظل ينظر إليها. معدية رفض الذهاب إليها وجدها تظهر له في غرفته.” (ص ص 115 ـ 116).
وبهذا تبدو الكتابة كأنها تتكلم لغة الحلم، وتحاول أن تقول المعنى المنفلت، وأن تدخل إلى دائرة اللامعنى، وأن تستنطق الحكاية في احتمالاتها الأخرى، المغيّبة أو اللامفكّر فيها.
ــ طريقة الصياد:
” الصياد ” من الطرق الأخيرة في كتاب ألف طريقة وطريقة. والصياد هو ذلك الذي يمعن التفكير في الكيفية التي يصيد بها طريدته، ويحسب لها ألف حساب، ويركز فيها على قدر استطاعته لعلمه أنها لن تسلم نفسها له طواعية، والصياد هو الذي يفكر في كل شيء يحيطه على أنه احتمال مساعد له في عملية الصيد سواء صغر أو كبر.
هل نقول إن يحيى صياد يفكر في الكيفية التي يحصل بها على حقيقة رنا، ويستخدم ألف طريقة وطريقة لعلمه أن حقيقتها لن يكشفها بسهولة، ” حتى النوم قد يفكر فيه على أنه وسيلة ليظفر بصيده. كأن طريدته صارت في كل مكان وفي كل وقت”(ص 118)؟
هل نقول إن السارد، وبالتالي الكاتب، هو ذلك الصياد الذي يفكر أكثر ما يفكر في الكيفية التي يصيد بها طريدته: حقيقة الإنسان، حقيقة وجوده، حقيقة حياته وموته. وهو يستخدم ألف طريقة وطريقة، ويستحضر مختلف الاحتمالات، لوعيه بأن ” الحقيقة ” لن تسلم نفسها له طواعية؟
إجمالا، لابد من تسجيل ملاحظتين حول كتاب ” ألف طريقة وطريقة “: تتعلق الملاحظة الأولى بعنوان هذا الكتاب الذي جاء على وزن كتاب هو اليوم من أهم مصادر الإنسانية في الحكي والسرد: ” ألف ليلة وليلة”: ميزته هي بلاشك تحرير الخيال وتوالد الحكايات بألف طريقة وطريقة. وقد نجحت رواية مسألة وقت في تشغيل بعض التقنيات السردية اللافتة في ألف ليلة وليلة ، وبالطريقة التي تخدم رؤيتها وغائيتها.
وتكفي الإشارة إلى أن الحكايات تتوالد في رواية منتصر القفاش تحت نسق ينطلق من العجيب(زيارة رنا ليحيى) إلى الأعجب(وقت الزيارة ومغزاها) إلى الأكثر عجبا(سماع صوت رنا على الهاتف، وهي التي في حكم الموتى)، في ظل حكاية إطار كبرى(حكاية يحيى ورنا) تولّـدت عنها حكاية أخرى كبرى(حكاية يحيى وناهد)، وهما معا حكايتان مترابطتان متشابكتان، تعكس كل واحدة منهما المرجع الواقعي الخارجي، دون أن يمنعهما ذلك من أن تعكس كل حكاية الحكاية الأخرى. وفوق ذلك، فعن هاتين الحكايتين تتفرع حكايات أخرى بعضها ينتمي إلى الواقع، والبعض الآخر ينتمي إلى الحلم والاستيهام والخيال، بشكل يجعل حكايات مسألة وقت أشبه بحكايات ألف ليلة وليلة التي تسبح في فضاءات حلمية وفوق واقعية وفانطاستيكية ولازمانية، تدعو قارئها إلى فضاء مفتوح متحرر للخيال، من دون حدود ولا حواجز.
وتتعلق الملاحظة الثانية بحضور كتاب ” ألف طريقة وطريقة ” داخل الرواية، وبلا شك كقوة مرجعية فاعلة. فالجديد في رواية منتصر القفاش أن التخييل لم يعد يتحدد مرجعه في الواقع العائلي والاجتماعي والنفسي والتاريخي، بل إن بعض مراجعه ذو طبيعة نصية أيضا، فهناك اقتباسات من كتاب ” ألف طريقة وطريقة ” هذا الكتاب الذي ندري إن كان حقيقة أو أنه منى المصادر النصية التي يحيل عليها النص هي من صنع خيال الشخصية.
ما يهمنا أن نسجله هنا أن الرواية لم تعد تخييلا سرديا فقط، بل إنها تخييل تأملي أيضا، فهي لا تكتفي بسرد حكاية ما، بل إن الرواية هي بحث ودرس وتأمل في حكاية كاللغز، لا يملك السارد كما الشخصية كل أجزائها وأطرافها، ولا يعرف كل ملابساتها وخلفياتها. وبمعنى آخر، فالرواية تتحول إلى بحث ودرس وقراءة، وتقدم نصا يبدو أقرب إلى ما يسميه الناقد الفرنسي المعاصر دومينيك فيار Dominique Viart بـــ ” Essai – fiction “.
4 ــ تبدو رواية مسألة وقت في أقصى البساطة، بشخصيات قليلة، وفضاءات معدودة، وحدث مركزي يتحول هو نفسه إلى موضوع للتأمّـل. وهكذا لم تعد الرواية ضاجّـة بالأحداث والشخصيات، بل صارت تراهن على حكاية بسيطة قصيرة، بتأملها تتكشف خيوط وتفاصيل وأسئلة، وتنفتح فضاءات معتمة، ويزداد البحث عن بقية الحكاية لغزا لا حلّ له، لغزا يقع خارج عقولنا العملية ومنطقنا الاجتماعي، ويبقى الحكي من دون نهاية، ويعلن فشله في ملء بياضات وفراغات عديدة، لأن ما يهمّه ليس الوصول إلى نهاية أو حقيقة ما، فالجوهري في الرواية هو حركة البحث نفسه، هو هذا البحث الذي لا ينتهي إلى جواب أو يقين، لأن الغاية هي نفض الغبار عن الأسئلة العديدة التي لا تقال، أو التي تبقى من غير جواب.
في رواية منتصر القفاش لم تعد الكتابة مجرد استنساخ للواقعيّ والمرئيّ من الأشياء، بل إنها أصبحت أكثر ميلا إلى اللامرئي واللاواقعي، مفتونة بتلك الاحتمالات الأخرى التي تبدو مستحيلة، غير قابلة للتصديق، لا تكتفي بنقل الواقع، بل تقول ما وراء الواقع، وهي لا تكتفي بنقل الأحداث كما تقع في الزمن المسترسل من الماضي إلى الحاضر، بل هي تركز على واقعة واحدة يصعب الحسم في الزمن الذي وقعت فيه.
وبذلك تتقدم الكتابة كأنها دعوة إلى تأزيم اليقينيات الراسخة والعقائد التابثة، دون أن تكون مهمتها إيجاد حلّ للأزمة. فهي تتقدم كأنها التفاتة إلى هذا المنفي المقصي الغريب في داخل ما نعتبره منطقيا ومعقولا ومألوفا في حيواتنا الخاصة والعامة، في عوالمنا الداخلية والخارجية، في علاقاتنا المعقدة بالزمن والمكان وبذواتنا والآخرين… وهي في كل ذلك، تدعونا إلى الانفلات من الزمن الذي يؤطر تجربتنا وإحساسنا وإدراكنا للعالم، وتدعونا إلى سماع صوت آخر عبر الهاتف، هاتفنا الداخلي، يملك نغمة خاصة تحملها الكلمات، وتبدو النغمة، القادمة من مكان آخر، من زمن مغاير، قلقة من كل هذه الغرابة التي تملأ حياة الإنسان وقدره ومصيره.
وبهذا يبدو أن الوظيفة المركزية للرواية المعاصرة لم تعد هي نشر رؤية للإنسان والعالم والتاريخ موضوعة مسبقا، بل وظيفتها أن تكشف، بطرقها الخاصة، ” ما لا يمكن أن تقوله إلا الرواية” (حسب عبارة هرمان بروخ التي عمّقها ميلان كونديرا). فالأمر صار يتعلق باستخراج ما لا يقال في التاريخ الرسمي، وباستكشاف مناطق التجربة الإنسانية التي يقصيها المؤرخون، وبخلخلة اليقينيات والمسلمات والتصورات الجاهزة، وباكتشاف الوجه الآخر للإنسان الحديث في علاقته بالزمن، وبكشف النقاب عن ” المكبوت ” في التاريخ الرسمي وفي المجتمع الشمولي القاهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ناقد وأكاديمي مغربي