رواية “ولا غالب” ..رومانسية العرب لن تغير التاريخ للأفضل!

ولا غالب
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد سمير ندا 

في روايته الحديثة “ولا غالب” يقدم الروائي الكويتي الموهوب “عبد الوهاب الحمادي” نحن أمام تجربة سردية مختلفة، تمزج بين الميتافيكشن والفانتازيا وأدب المراسلات، وتدمج الحاضر بالتاريخ، وتجاور في إطار مزدوج بين صورتين يتلخص فيهما مشهدين للانهيار والسقوط العربي. وقد يتساءل سائل ما؛ ما هي أوجه التشابه بين غزو العراق للكويت، وما أسفر عنه من سقوط مروع لبغداد، وسقوط غرناطة منذ خمسة قرون؟ ما هي العلاقة التي قد تفرز عملا روائيًا يصهر الماضي بالحاضر حتى يقف على تخوم استشراف المستقبل، وما قد ينتج عنه تغيير التاريخ؟ الإجابة متروكة للقارئ ليغزل منفردًا صورته الخاصة، وإن سُألتُ عن إجابتي، فسوف تكون بكل أريحية؛ السقوط!
لدينا هنا العديد من العتبات السردية، والكثير من الشخوص والعناصر التي يجمع بينها كاتب قرر أن يكون محايدًا حد التلعثم والسعي الحثيث للحصول على مشورة كُتاب آخرين فيما يكتبه، الكاتب المحايد هنا لا يبدو واثقًا من عناصر روايته وكيفية تحديد مسارات السرد وتقنياته، فهو يبتدئ الأحداث على لسان الطبيب الكويتي المسافر إلى إسبانيا مطاردًا طيف الحبيبة الراحلة، ثم يستجيب إلى نصائح يتلقاها من كاتبين شهيرين على ما يبدو، فيقرر خلق الراوي العليم، ثم ينصاع إلى المزيد من التوصيات المتضاربة فيقحم تعدد الأصوات على نصه الآخذ في الاكتمال، حتى يتحرر نهائيًا من سطوة الأصوات التي تحاول مشاركته بناء النص، في الستين صفحة الأخيرة، لينهي منفردًا نصه المرتبك، كأفضل ما يكون.

الأصوات والرواة:
بخلاف الراوي العليم، الذي منحه الحمادي لقب “الكاتب”، لدينا ثمانية أصوات تقتحم النص عبر مراسلات، منها صوتين أساسيين مؤثرين في كتابة النص، كاتب كبير (سنًا) ومشهور مفاخر بمنجزه الروائي حد الادعاءد وهو هنا يمثل التيار القديم من الأدباء الملتزمين بتقنيات كتابية أكثر وفاءً للخلطات الجاذبة للقراء، هو واصل الشرقاوي، وكاتب آخر ينتمي إلى جيل جديد يميل إلى الحداثة، هو فرحان السيوفي، علاوة على أستاذ في التاريخ يسترشد به الكاتب فيما يخص القسم التاريخي من الرواية، ثم صديق عائلة قديم، وثلاثة أصوات أخرى يتضح لنا في نهاية النص أنها تمثل الأشخاص الحقيقيين الذين استحضرهم الكاتب لتأدية أدوار الشخوص الرئيسية في النص.

التناول الرومانسي للتاريخ:
يقر الحمادي في نصه بجنوح الشخصية العربية إلى العاطفة والرومانسية حال استحضار التاريخ العربي المندثر، نحن نناجي صفحات التاريخ كعاشق ينخرط في مناجاة معشوقة غائبة، ولدينا هنا نقطة تماس جليّة تتلخص في سفر الطبيب إلى غرناطة، وفاءً لتاريخ يجمعه بحبيبته التي راحت ضحية لنقص توفر الدواء إبان الغزو العراقي، كذلك هو حال العربي كلما فتح أوراق التاريخ، يتحسر ويخفق قلبه ويندم على تفويت الفرص وقلة الحيلة، ويبني في مخيلته قصور من خيال يصور له حال العرب المُشيد فوق فرضية “ماذا لو” التاريخية لنا نحن معشر العرب.

البناء الموزاي للنص:
الحمادي أبدع في خطواته حيال بناء الكاتب لنصه، كان القارئ شريكًا على التحولات التي طرأت على تكنيك السرد، عملا بنصائح انهالت على رأسه مستحضرة المزيد من التشتت، عبر آراء متعارضة ونقد متبادل بين جيلين من الكتاب، كان هناك نص يقرأه القارئ، ونص مواز يشيده الكاتب مسترشدًا قدر الإمكان بما يرد إليه من وصايا يظن صاحبيها أنها تفيد النص وتزيد من جماليته، في ظل تلعثم الكاتب وحيرته حيال نصه.

الحبكة المضفورة بالفانتازيا:
ثلاثة مسافرين من الكويت، طبيب لم يعرف عن التاريخ سوى ما تلته عليه حبيبته الراحلة، وداعية ديني عجوز يؤمن بقدرته على إدخال النصارى إلى الإسلام، وإذاعي قديم عروبي النزعة، ثم دليل وسائق فلسطيني يتولى تنظيم شؤون الرحلة، ويحمل في ميداليته صورة صدام حسين. ما يجمع الشخوص الأربعة هو لحظة الغزو العراقي للكويت، والتحولات التي أثرت بالسلب على حياة كل منهم، فالطبيب فقد حبيبته المريضة كما أسلفت، والداعية شهد اقتحام الجنود العراقيين للقصر الأمير واستشهاد الشيخ فهد الأحمد، والإذاعي فوجئ بخسارته لقطاع عريض من أصدقاء مثقفين أبدوا من الشماتة والتبرير ما يعارض ثقافاتهم، والفلسطيني فوجئ بطرده وأسرته من الكويت عقب التحرير، وقد اتهم الأب الممرض – كسائر الفلسطينيين وقتئذ- بالخيانة والانضمام إلى جند صدام، ظلمًا!
تنفتح في جوف الزمن كوة سحرية ينفذ عبرها الأربعة إلى لحظة سقوط غرناطة، ليجدون أنفسهم في بلاط الملك أبو عبدالله الصغير، إبان انتظاره لتحقق نبوءة تنجيه من حصار فيرناندو وإيزابيللا. يتصور الجميع مصير غرناطة إذا ما افلتت من الحصار، ويسهم كل منهم في حصر غنائمه حال النصر، المال والسلطة والجاه واسترداد الحبيبة الملتحفة بالغياب، وينخرطون في محاولات لإنقاذ العرب والإسلام، كل وفق تصوره، إذا ما تمكنوا من تغيير التاريخ! وارتكازًا إلى هذا التصور، يميل أغلبهم إلى الاستقرار في بطن التاريخ، عوضًا عن العودة إلى واقع تشظى فيه العرب وتشرذموا حتى انحسر مد الإسلام وانطفأت شعلة العروبة، وقد كان الظن أن القادم ليكون عظيمًا إذا عُصمت غرناطة من السقوط والذلل.

الحيادية والنزاهة:
كان الحمادي مجيدًا ونزيهًا في حياديته إزاء تباين الشخوص في القالب الروائي لنصه المميز، هو لم يجرم العراق كوطن ولا العراقيين كعرب، ولم يجعل من سائر الفلسطينيين جناة استحقوا الطرد والعقاب، ولم يعمم خطيئة بعض المثقفين المصريين حيال الاحتفاء بالغزو وقبولهم بتوزيع الثروة النفطية على الجياع من الأمم، فعاد وأشار إلى الكرم المصري الشعبي في آونة الاحتلال، ربما احتفظ بصورة صدام كمجرم حرب، وهو في ذلك له كل الحق، ولكنه مع ذلك لم يظهر الشماتة عندما استحضر إعدامه صبيحة أول أيام العيد.

“ماذا لو؟”
هنا تتبلور الرسالة من هذا النص الممتع، وإن كنتُ لأكتفي بتحقق المتعة من القراءة دون ليّ أعناق الصفحات ليبحن بالمكنون من الرسائل. ولكن نصنا هذا استحق أن تتوّجه نهاية تتحقق من خلالها الرسالة. دون الخوض في تفاصيل الرحلة الفانتازية السردية للحمادي، يقذف بنا الكاتب إلى مستقبل أبطال روايته، الذي هو جزء من تاريخنا اليوم، تمكن الرباعي من تغيير التاريخ عبر عمل انتحاري فتت التاريخ مستخدمًا بارود المستقبل. وقذف بهم الزمن إلى ٢٠١١، فكيف وجدوا واقع العرب إذا ما تغير التاريخ؟
هل ظلت غرناطة صامدة عبر القرون الخمسة التالية؟ هل غزا صدام الكويت؟ وهل سقطت بغداد فيما بعد؟ هل تغير حال العرب والمسلمين فظلوا أمة عظيمة متطورة، متحدة؟ أم اختاروا السقوط مرة أخرى وصولاً إلى ذات المصير والمآل؟ هل يفيض مد الثورات العربية في ٢٠١١؟ أم يفقد العرب المتحضرين أسباب الثورة؟

تلك أسئلة لن أجيب عليها في قراءتي هذه، وقد أجاب عليها الحمادي بما يحرر التاريخ من مشنقة العرب التي يتأرجح فيها متحملاً مسؤولية الحاضر والقادم فوق كل ألسنة المثقفين والمحاضرين، أولئك المغرقين في الرومانسية كلما ذكر التاريخ فاستقرت كلمة الأندلس على شفاه مطبقة على الندم.

تحية وتقدير لعبد الوهاب الحمادي على هذا النص الحافل بالتجريب السردي الجرئ، على اللغة المتماسكة المغزولة بالصور والتشبيهات، على كتابة نصه بلسان كاتب محايد يسرد حكاية تفتح بطن التاريخ بمبضع سارد متمكن، دون أن يحولها إلى كتاب تاريخ يضج بالأسماء والتواريخ وجغرافيا الزمان والمكان.

رواية أتوقع أن أرى عنوانها في قائمة البوكر هذا العام، أو الشيخ زايد، وهو توقع ممزوج بالتمني، والرغبة في إنصاف هذا النص المختلف، الممتع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقد وروائي مصري 

مقالات من نفس القسم