رمزية اليد والموت في ديوان «كل ما صنع الحداد»

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 44
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. شاكر عبد الحميد

 يستخدم الإنسان اليد كأداة للكتابة والعمل والتواصل الاجتماعي، ويستخدمها أيضًا كسلاح يهاجم به أعداءه أو يدافع به عن نفسه وقد لعبت اليد دورًا أساسيًا في الحياة الإبداعية للمجتمعات الإنسانية فاستخدمها في صناعة الأدوات من الحجر والخشب والمعادن، واستخدمها في الكتابة والرسم والنحت والرقص والتمثيل الدرامي. وقد برع فنانون أمثال ليوناردو دافنشي وميكلانجو والبرخت دورر وإيشر وغيرهم في تصوير اليد كما كُتبت قصائد كثيرة عن اليد لشعراء أمثال كيتس وبابلو نيرودا وماجي بيتمان وغيرهم وكُتبت كذلك قصص كثيرة عن اليدين منها، تمثيلاً لا حصرًا، ما قام به “جي دي موباسان” حين كتب قصتين عن اليد هما “اليد” و”اليد المتحركة” وكذلك لوفانو في “حكاية سروية حول شبح اليد” وجولدنج “نداء اليد” وأرثركونان دويل “اليد البنية” ونرفال “اليد الساحرة” ودريسر Drieser  “اليد” ووليم هارفي “الوحش ذو الأصابع الخمسة” وهكذا.

وقد كان فرويد يقول عن المريض النفسي إنه: “إذا صمت بلسانه؛ ثرثر بأصابعه” وتتعدد الدلالات الخاصة باستخدام اليد، فنجدها في الشعارات السياسية (حركة 6 إبريل حيث القبضة مشرعة إلى أعلى ومضمومة) وشعار رابعة مثلاً (بأصابعه الأربعة) ونجدها في الأغاني (تسلم الأيادي مثلاً)… إلخ

يمكن لليد أن تشير وأن تحذر، وأن تكتب، وأن ترسم، وأن تقسم، وأن تُحيِّي، وأن تعلن، وأن توضح، وأن تعلم، وأن تنفي، وأن تؤكد، وأن تحكي وأن تصور، وأن تسجل وأن تكشف، وأن تعوق، وأن ترحب، وأن تراهن، وأن تتملق، وأن تصرح وأن تلمح، واليد هي “أداة من الأدوات كلما” كما قال أرسطو، وهي التي تتكلم غالبًا بلغتها الخاصة كما أشار كوينتليان: إنها أيضًا قد تطلب، وقد تعد، وقد تسمح، وقد تمنع، وقد تعترف، وقد تهدد، قد تعبر عن الفرح، أو عن الحزن والأسف، عن التردد وعن الإرادة، وعن العدد، وعن الكمية والزمن، عن البعيد وعن القريب، والأعلى والأدنى، عن القوة والبركة، عن التعجب والدهشة والخجل والأسى، ووجودهما كثيف في الأديان السماوية وغير السماوية وفي المعتقدات الشعبية أيضًا (كما في رمز خمسة وخميسة مثلاً، حيث اليد التي في منتصفها عين، كتعويذة لدرء الحسد والسحر والتي تسمى في التراث الإسلامي يد فاطمة، وفي التراث اليهودي يد مريم، أخت هارون وموسى).

كتب ستيفان زفايج، الكاتب النمساوي، ذات مرة، قصة بعنوان: “أربعة وعشرون ساعة في حياة امرأة”، وفيها تحكي امرأة من الطبقة الراقية – للمؤلف – خبرة مرت بها منذ أكثر من عشرين عامًا، كانت هذه المرأة قد ترملت حين كانت مازالت صغيرة، وكانت أيضًا أمًا لولدين لم يعودا يحتاجان الآن إليها. وبينما كانت في الثانية والأربعين من عمرها حدث أن قامت خلال واحدة من رحلاتها التي بلا هدف بزيارة صالات القمار في مونت كارلو وهناك أصبحت مفتونة بمشهد يدين كانتا تفشيان أسرار مقامر تعيس الحظ، بشكل مخيف في دقته وشدته. كانت اليدان لشاب وسيم. وقد قام المؤلف، بجعل هذا الشاب في مثل سن الابن الأكبر للمرأة. وتستمر الحكاية التي يعيد فرويد روايتها في دراسته عن “دستوفيسكي وجريمة قتل الأب”، حيث خسر الشاب أمواله كلها وتنقذه المرأة وتنشأ بينهما علاقة سريعة، وتودعه بعد أن أقسم لها أنه لن يعود إلى القمار أبدًا، لكنها، وفي رحلة أخرى يفوتها القطار، وتذهب إلى صالة القمار، وهناك أصابها الرعب فقد رأت مرة أخرى اليدين اللتين أثارتا في البداية تعاطفها، والشاب وقد حنث بقسمه وعاد مرة أخرى إلى القمار، وتنتهي القصة بانتحار ذلك الشاب. وأيًا ما كان الأمر فقد ربط فرويد بين حركة اليدين أثناء القمار وحركتهما أثناء فعل الاستمناء حيث قال: “إن رذيلة الاستمناء قد تم استبدالها بإدمان القمار”، وربط ذلك كله بتلك الميول الانتحارية التي كانت موجودة لدى ذلك الشاب وكذلك لدى دستويفسكي الذي كان ميالاً أيضًا للقمار والاستدانة ولقتل الأب(1).

لا نقول إن هناك صلة مباشرة بين الديوان الذي بين أيدينا “كل ما صنع الحداد” للشاعر المبدع “محمود خير الله” وبين هذه القصة لستيفان زفايج وتحليل فرويد لها لكننا نقول إن اليد في ذاتها، عالم غني بالدلالات والرموز، وإنها بمعنى ما، تحتوي على مفارقة في ذاتها، تناقض في ذاتها. فهي مزدوجة الطابع ملتبسة الدلالات. فعلى الرغم من ارتباطها بالإبداع والإنجاز والتواصل مع الآخرين والعطاء، فإنها ترتبط أيضًا بالقتل والسرقة والاستبلاء على حقوق الآخرين والإساءة والدمار.

اليد شيء حي يتكون من لحم ودم وعظام، لكنها أيضًا رمز و”فيتيش” وصورة ترتبط بالحياة والموت، لا تمثل الذات الحية فقط، بل قد تكون تجسيدًا لرغباتها ونوازعها التي قد تقودها أيضًا إلى الموت.

فيما يلي إطلالة على ذلك العالم الخاص باليد وعلاقتها بالتكرار والموت في ديوان “كل ما صنع الحداد” للشاعر “محمود خير الله”(2).

في قصيدة “يدي أسوأ مني” يحول الشاعر يده إلى كائن وكيان، ذات حياة مستقلة، هنا تصبح اليد مرآة لذات الشاعر، تصبح كائنًا يحارب وينهزم ويقاوم ويعجز ويصاب بالخشونة والنعومة، بالحرارة والبرودة “أخفيها عن نفسي أحيانًا .. كأنها حبة .. لم تعد خشنة ولم تعد قادرة على ارتكاب شيء”.

واليد تصحو وتنام، تمشي وتتذكر، تتمرد وتسرق، تكبر في السن وتشيخ، وتعود  إليه في صحوه ومنامه، تنفصل عنه وتعود إليه

“يدي مسنة

أصابعها تزداد نحولة كل يوم”

وأنا نائم كأن أحدًا يمسحها بذكرياته

وأنا نائم”

يد تتضخم وتزداد نحولة، تنام مع صاحبها وتموت معه، وتصحو، لا تفارق جسده ولا يفارقها، يحاسبها وتحاسبه، يندم وتندم معه، تمشي معه حتى آخر العمر وتهجره وتعود إليه، تتركه وتنام “في الوحول” “تنسى صاحبها أحيانًا وتذهب إلى أصدقائه وتسبغ حنانها عليهم، تتركه وهو الذي يحن إليهم، ويجن بهم، يؤثرهم على نفسه ولو كان به عوز أو خصاصة. ومثلما يذنب هو، تذنب يده، يسقط ذنوبه وأخطاءه عليها، ينزف قلبه فتنزف عروقها، وتبقى يده حية شاهدة عليه، مرآة لذاته، حائطًا يسقط عليه حياته، تلك الحياة المتراوحة بين الحياة والموت، العقل والجنون،.

وتبقى اليد ميتة وحية، غريبة وقريبة، منفصلة عنه ومتصلة به، لا ينتصر عليها ولا تنتصر عليه، لا تصبح أمس منه، لأنه أبدًا لا يرضى عن ذاته ولا يهنأ ولا يستقر، تصبح القوة الخاصة التي يقوم الشاعر بتثبيت أحلامه وذكرياته وانفعالاته وتهويماته وإحباطاته وانكساراته عليها. وهو يعرف أن اليد مجرد يد، لكنها أيضًا رمز خاص برؤيته للعالم، إنها صورة لذاته وتحولاته، لأصدقائه واحتياجاته، للدنيا التي يعيش فيها، لسماته وثقته بنفسه واهتزازاته، إنها الأرض الثابتة أو التي قد تبدو أحيانًا كذلك، من خلالها ينظر إلى العالم ومن خلاله يعرف كيف ينظر العالم إليه، اليد عالم صغير فيه انطوى العالم الأكبر، أو بالأحرى عالم كبير فيه انطوت الذات وتجلت وتكشفت، “يدي تتصرف دون إرادة مني وتنسى نفسها أحيانًا في قلوب الأصدقاء”

هكذا تكون اليد مرآة كاشفة لاهتزازات الشاعر ومحاولاته لخلق منتج أو تمثيل رمزي إبداعي يواجه من خلاله الخوف، الخوف من أشياء في الحياة، أو فيما بعد الحياة, الخوف من الموت. وهنا استخدام مجازي لشيء مادي، معنوي أو جسدي، وهو اليد، يصبح بدوره أداة ناقلة لقوى رمزية أخرى غير محدودة موجودة في عقل الشاعر ووجدانه، هكذا تتكرر اليد وما يحلق بها من مفردات خاصة بالأصابع وغيرها في ديوان “كل ما صنع الحداد”، تتكرر على نحو وسواسي قهري انفعالي اجتراري لا يقوى الشاعر على مقاومته أبدًا:

“يدي ولدت مسالمة

وبعد دورة أو دورتين

لم تعد بريئة

صارت الأصابع هزيلة أكثر

كأنها آخر الاعترافات”

وفي صراعه معها وصراعها معه تغلب عليه كثيرًا، بتعد عنه، تصبيح غريبة عنه على الرغم من كونها مكونًا أساسيًا من مكونات ذاته:

“أتوقع أن تخلعني يدي ذات مرة وتمشي بعيدًا عني

كيف يعيش المرء بيد لا يحبها

بيد تذهب إلى الموت بمفردها

دون أن تأخذه معها”

هنا تصبح لليد، من حيث ارتباطها بالحياة والموت، بالإبداع والجمود، والرغبة وانطفاء الرغبة، تصبح لها قوة سحرية، فتكون موضوعًا للرجاء والخوف، أقرب إلى معبود أو صنم، أو فيتيش Fetish.

فيتشية اليد:

تعود كلمة فيتشية Fetishism في أصولها اللغوية إلى كلمة Feiticia البرتغالية التي تشير إلى شيء مصنوع معين، وقد استخدمها التجار البرتغاليون خلال القرن السابع عشر للإشارة إلى تلك الصور والتماثيل والمنحوتات والأقنعة التي رأوها تصنع في غرب إفريقيا. أما في اللاتينية فتعود هذه الكلمة إلى الجذر Factitious والتي تشير إلى شيء يصنع من خلال الفن، أي إلى شيء مادي تم اختياره بسبب تلك التداعيات والترابطات والصور المتعلقة به. إنه شيء خاص من حيث شكله مادته، اختير بسبب أصله والدلالات الخاصة بهذا الأصل، مثل الأسنان والفراء، ومخلب الحيوان، أو بسبب طبيعته غير العادية، كأن يكون شيئًا ثمينًا، جروتسكيا، مخيفًا، نظريًا أو لسبب الخبرة الخاصة التي يشعر بها صاحبه بالنسبة إليه، يد الفنان الكاتب، الرسام، النحات، عين المصور، أنف الطهاة أو متذوقي العطور والخمور، في تلك اللحظات التي تكتسب فيها الأشياء تلك الخاصية السحرية والتي يشعر الناس خلالها بنوع من التدفق السيال للعالم، حيث يكون العالم والمعنى، كما قال عالم الأنثروبولوجيا أندرو جيل A. Gell متفاعلين وحضورهما مبهم(3).

الفيتيش كلمة مألوفة تدل على شيء غريب. ويعرف كل الناس أن هذه الكلمة تستخدم للإشارة إلى شيء أو موضوع يدور حوله ولع لا عقلاني ملابس معينة لامرأة، زهرة، كتاب، خصلة شعر، قناع .. إلخ، شيء يبالغ المرء عاطفيًا أو انفعاليًا في قيمته، قوته، الرغبة فيه أو دلالته؛ نوع من التثبيت الشخصي أو الثقافي على شيء أو فكرة أو موضوع. ويمتد تاريخ الاهتمام بهذا الأمر إلى أكثر من قرنين ونصف ويقال بل قبل ذلك. وهذا المصطلح هو غابة من النظريات عالية التجريد والمفاهيم الصعبة المتعلقة به، حيث توجد نظريات اجتماعية حول التشيؤ المؤسساتي ونظريات أنثروبولوجية حول الديانات البداية ونظريات تحليلية نفسية حول الانحراف الجنسي وكذلك نظرية ماركس حول التحول الثقافي للبشر إلى سلع(4).

من أجل فهم السياق الخاص برمزية اليد في هذا الديوان لابد لنا أن نشير قليلاً إلى تحليل ماركس للسلع، حيث أصبحت للسلع – كما قال – سلطة في المجتمع. فبدلاً من أن تكون لها قيمة استعمالية أصبحت تنسب لها سلطة أعلى من البشر، أصبحت إلهًا من نوع خاص، عبادة، حالة يتم البحث عنها والتلبس بها. هكذا أصبحت السلع والأشياء ذات طابع شخصي، أصبحت مشخصة، أصبحت لها شخصيتها، كذلك أصبحت العلاقات بين البشر متموضعة داخل أشياء وتشبه الأشياء. ومن أجل الفهم الأوسع لما يطرحه ماركس هنا لابد من أن نشير سريعًا إلى مفاهيم أخرى متعلقة بها وهي: الفيتشية والتشيؤ والاغتراب حيث تشير هذه المفاهيم إلى معالم جوهرية في العلاقات النفسية الاجتماعية الحديثة الخاصة بتصورات الأفراد عن أنفسهم وعن علاقاتهم بالآخرين وكذلك ذلك الإحساس المدرك بالفقد أو الفقدان للتجانس دالاً رمزي والتوحد والعلاقة العضوية مع الآخرين ومع الطبيعة حيث نوجد، هنا في العالم، شاعرين بالانقسام والتفكك والتشظي والقلق حين يفتقر الإنسان للعلاقات الحميمة مع الآخرين، فإنه قد يقيم هذه العلاقات مع ذاته، بل ومع بعض أجزاء مكونات هذه الذات، مع جسده، أو مع أحد أعضاء هذا الجسد، كاليد، مثلاً، في الديوان الحالي.

تحدث وولتر بنيامين عن ولع بودلير بالأشياء، وعن قدرته على التوحد لا مع البشر، بل مع الأشياء وعن قدرته الخاصة كذلك على التقمص داخل الأشياء غير العضوية والحياة من خلالها. وكذلك توحد فنانون وكتاب مع أجساد حية وميتة، مع صور فوتوغرافية وتماثيل.

وعندما يتوحد المبدع مع جسد حي وميت معًا، فإنه يبدو هنا، وكأنه يتحدث إلى المستحيل، هكذا تعمل الصور الفنية كلها – عند أحد المستويات – كاستبدالات فيتشية للجسد الغائب والذات المفقودة، كمحاولات لشغل المكان الخاص بذات تشعر بأنها غائبة أو مغيبة عن المشهد الذي تعيش فيه، رغبة في التهدئة المؤقتة أو التسكين لقلق وجودي واجتماعي يتعلق بفقدانات لا حصر لها، محاولة لبعث الحياة في موت صارخ صاخب موحش يلف كل شيء.

هنا – في هذا الديوان – كانت اليد أشبه بالجزء الذي يدل على الكل، والحاضر الذي يدل على الغائب والحركة التي تحاول أن تهرب من الرتابة والموت والسكون، رمزًا للعمل والسلطة والسيطرة والوجود في عالم يزخر بالموت والبطالة والتكرار وهيمنة الأشياء وأشباه الأشياء. هنا لا تفهم اليد بوصفها صورة موجزة للجسد الذي تم تقليصه أو تلخيصه أو تهميشه أو تحويله إلى شيء أو نفايات، بل صورة لعالم كبير يفرض وجوده وحضوره من خلال تمرده على صاحبه – صاحبها، الذات التي تتقلص وتتراجع وتنكمش ولا يكون لها من ملاذ أخير سوى يدها التي تكشف من خلالها ذاتها الأخرى ووجودها الحقيقي، في حياتها حياة الإنسان وفي موتها موته.

هنا يجد المرء نفسه في مواجهة عالم كبير لا يرحم، عالم يستبعد الفرد ويهمشه، عالم يسحق الفرد ويجعله يتقلص، يتحول إلى جزء صغير شيء، أحد أعضاء الجسم (كاليد أو الأصابع كما في هذا الديوان) أو حشرة كما في قصة كافكا الشهيرة، (التحول أو المسخ) وفي مثل هذا العالم لابد من أن تقوم الذات بتحويل نفسها إلى شيء كلي القدرة، كلي الحضور، أو تقوم بالتطلع إلى ما وراء الكون أو عالم الميتافيزيقا، فترى خلاصها في الدين والإيمان، أو تقوم، كذلك، بالاحتماء بأفكار في واقعها (اجتماعية – وطنية .. إلخ) أو بجسدها أو ببعض أجزاء هذا الجسد، ويصبح العالم كله مثبتًا ومتمركزًا في هذا الجزء، الفيتش، الحضور – الغياب الذي يكرر نفسه مرة بعد أخرى، في متاهة المرايا التي لا تنتهي والأمر كله مرتبط بأزمة الهوية، فهو أشبه ببحث عن الذات، من خلال اليد ودلالاتها، وعن اليد من خلال الذات، ومحاولة كذلك لرأب صدع هذه الهوية المفككة، رغبة في الوصول إلى الوحدة والكلية المفتقد في هذه الهوية الفردية والجماعية الموجودة الآن.

 

“المذنبة دون أن تفعل شيئًا

المتهمة لأنها موجودة

ولأن عروقها التي نزفت كثيرًا

لا يغيب عنها الدم

نعم

يدي أسوأ مني”

ربط فرويد بين دوافع الحياة وبخاصة الدوافع الجنسية وبين دافع الموت المرتبط بالحروب والقتل والتدمير، وقال: إن أي مناقشة لدافع الموت لن تكون كاملة دون ذكر الفيتيشية والتي يتحول فيها الاستخدام الليبيدي للطاقة من البشر إلى الأشياء غير الحية عادة وربط فرويد كذلك بين هذه الفيتشية وبين عقدة الحضارة والخوف من الخصاء، لكن الخصاء لا يفهم هنا على أنه الخصاء الجنسي المرتبط بعقدة أو ذنب فقط، بل بمعنى الحرمان والفقد من أي شيء ضروري وحيوي في حياة الإنسان، الحرمان من العمل خصاء حياتي والحرمان من الحب خصاء عاطفي، والحرمان من الوطن خصاء قومي، الحرمان من التحقق خصاء وجودي وسيكولوجي، الحرمان من الآخر الحميم خصاء اجتماعي وهكذا. وقد نظر فرويد وقبله ماركس إلى الفيتيشة على أنها فعل من أفعال المحو أو الإبعاد في المقام الأول. ولدى فرويد يرتبط هذا الأمر أيضًا بجسد الأم، ولدى ماركس يرتبط بعمل العامل، أما جيل ديلوز فقال إن الفيتيش ليس رمزًا على الإطلاق، لكنه صورة متجمدة ثابتة ثنائية الأبعاد، صورة فوتوغرافية يعود المرء إليها على نحو متكرر كي يطرد أو يستبعد، من ناحية، تلك النتائج المحفوفة بالمخاطر المترتبة على الحركة، وأن يصل، من ناحية أخرى إلى تلك الاكتشافات المترتبة على عمليات الاستكشاف المتتالية للواقع والذات، وهكذا فإن الفيتيش، (وفقًا لـ”ديلوز”) يمثل تلك النقطة الأخيرة التي لا يزال ممكنًا عندها أن يعتقد المرء في شيء ما أو أن تصدقه.

“عرفت أناسًا يعيشون سعداء

لأن أيديهم انتصرت عليهم

وصارت أحسن منهم

أتوقع أن تخلعني يدي ذات مرة

وتمشي بعيدًا عني.

كيف يعيش المرء بيد لا يحبها

بيد تذهب إلى الموت بمفردها

دون أن تأخذه منها”

هنا، في هذا الديوان تكون اليد أداة التراوح بين الجزء والكل، الحياة والموت، الذات والمجتمع، العالم الصغير والعالم الكبير.

هنا الذات انطوائية تطل على العالم من خلال نافذة خاصة بها هي اليد وأصابعها هنا أيضًا تحول ما للجسد الحي، العضوي، إلى جسد ميت، بمعنى ما، قريب من عالم الجثث البقايا الأطلال والبدد. لكن هذه الذات التي فقدت اكتمالها، تحققها، معنى وجودها، تتحول وتتمركز في جزء منفصل منها، هنا تكون اليد كناية عن الهوية وعن الذات، إنها وسيلتها التي ترى من خلالها العالم وتطرح تساؤلاتها الخاصة، من خلالها، عليه. وأكبر الأسئلة التي تطرحها هذه الذات سؤال الهوية والموت. وهنا يعد الجانب الطقس المتكرر من “الفيتشية” مهما، فهو الذي يربط بين هذه النزعة أو الميل وبين ذلك الدافع الخاص بالموت.

الهوية والموت:

هناك حضور كثيف، في هذا الديوان، للموت، بأشكاله المادية ودلالاته الرمزية، هنا أيضًا إرادة محركة للذات، لكنها تبدو في أحيان كثيرة وكأنها إرادة لمخلوق ليس حرًا في ذاته، ليست لديه إرادة في ذاته، مخلوق تحركه قوى باطشة تقع، كما قلنا، خارج تحكمه، ولكنه يتحرك دومًا كي يقاوم الموت ويحقق الوجود والخلود، ولكن حركته هذه توقعه أحيانًا في التكرار والآلية وفقدان الروح، هنا آلية يبدو أنها قدر الإنسان، خصوصًا في مجتمعاتنا هذه التي غابت فيها قيمة الإنسان وحضرت فيها قيمة الممتلكات والصور والأشياء وهي الآلية التي تقف أيضًا وراء فكرة الخلود الفرعونية، وراء المومياوات والمعابد والأهرامات وراء وجوه الفيوم، والأعمال الفنية، وراء فكرة القرين لدى المحلل النفسي الألماني أوتو رانك، التي لابد وأنه استمدها من جذور فرعونية، حيث ظهور القرين يعني اقتراب الموت، لكنه يعني أيضًا التكرار والكثرة والاستمرار والخلود، وتقف هذه الفكرة كذلك، أو بالأحرى هذا الهاجس، وراء تلك التجليات الفلسفية والفنية التي حاولت استكشاف  رمز المرآة النرجسية وتعدد الذات، وهنا اليد في ديوان “ما صنع الحداد” ميتة وحية، أليفة وغريبة، متصلة ومنفصلة، في وطن كان – وربما مازال – أصبح مسكونًا بالجمود والآلية وفقدان المشاعر الإنسانية والتبلد وبرودة الشوارع والمشاعر:

“يا من رأيتم العجوز بنزف

فهربتْ سياراتكم بسرعة

يا من بيننا وبينهم

كل ما صنع الحداد”

هذا وطن استولت فيه قلة من القتلة على المقدرات كلها، الهواء كله، الماء كله، الزهور كلها، الرمال كلها، لكنهم ولأنهم يفتقرون للمشاعر، لا يبدعون، جامدون، موتى ويظنون أنفسهم أحياء، هكذا يخاطبهم الشاعر:

“لا تقرأوا هذه القصيدة

فهي مكتوبة لغيركم”

يعيش شعب مصر كما تجسد ذلك صور هذا الديوان ومفرداته ورموزه وهواجسه، في الغرف الضيقة، حيث تنقطع المياه ويتلوث الهواء ويلعب الذباب مع الأطفال وتتعطل القلوب وتتعطن، وفي المساءات الباردة يذهب العمال إلى نوبات العمل الليلي متعبين، بينما تذيع شاشات التليفزيون الأخبار الكئيبة. ويأكل الأطفال من صناديق القمامة وتحضر التناقضات والتفاوتات في كل شيء، في الجوع والأسعار المشاعر والبشر، وتتحول هياكل الموتى الشهداء والقتلى والميتون جوعى في الشوارع، تنكسر عظام الموتى عندما يصرخ الناس في الطرقات، يصرخ الناس من الخوف، ويعود الأموات إلى الحياة، ويصبح هناك خوف مهيمن كبير، خوف الأحياء من الموتى، وخوف الموتى من الأحياء “وترسل السماء مطرًا قليلاً للعاطلين عن العمل”، وتمتلئ الشوارع بهؤلاء العاطلين عن العمل وبالصبايا اللائي قتلهن الوباء وبالمخبولين والأكاذيب والأشباح، والهياكل العظمية، والمتمردين، والجائعين وكل ما كان يدل على اقتراب الانفجار الكبير في 25 يناير 2011، حين تمت الإطاحة بالسيد الرئيس.

التكرار والموت:

كان التكرار قد بلغ ذروته والكذب تجاوز قمته، كذب تحولت معه الحقائق إلى أشياء عادية، حيث تحولت الحروب المستمرة على شاشات التليفزيون بحكم  التكرار والتعرض والتعود وتبلد المشاعر إلى ما يشبه أفلام الكرتون، وحيث طالت مشاعر الاستسلام وكثرت عمليات البكاء وفقدان الأمل، وصارت الآلية – ومعها التكرار والانتظار- تلف كل شيء تحت أجنحة ليلها الكثيب، أصبح الأب بينما ينظر إلى أحد أبنائه وهو يشرب الشاي “برشفة واحدة مثل أبيه” وتحول الإنسان إلى شيء “تعود أحلامه” إليه كأنه “سيارة مستعملة”.

وتتكرر المشاهد والحكايات والأحلام والتجول والكلام والبكاء والأداءات اليومية، تتكرر الانكسارات، وتتكرر التكرارات، ولكن تبقى الذات الواعية، يبقى الإبداع يبقى:

“العاشق الهشُّ

الذي لم يخسر شيئًا

لأنه لم يكن لديه ما يخسره

الضعيف إلى حد النكسة

وإلى حد الجلوس طوال الليل

هكذا

لكي يكتب قصيدة عن نفسه

كأنه يصالحها”

واليد تعود، وتكرر الظهور، بعد ابتعادها واختفائها، وانفصالها عن صاحبها، يعتقد أنها انفصلت عنه وماتت، لكنه، ينظر دومًا فيراها، تتقافر أمامه أو تتحرك أو مدفونة في جسده:

“كنت ألفظ أنفاسًا على الشاطئ

بينما أصابعي

كانت تموت وحدها في التراب

وحين أفقت وجدت يدًا مدفونة في جسدي”

 

الذات والآخر:

يكتب “محمود خير الله” في قصيدته “عن عشرين إصبعًا ودمعتين” عن “بعضنا ذلك الذي يقضم الخبر أو يتأمل الفتارين “حيث نتجول أحيانًا كثيرة دون هدف، نتكلم لكي نلون الساعات” وربما نبكي” لكن يظل هناك ذلك الخيط الموجود والحبل المشدود الذي يجعلنا حتى عندما نعبر الشارع مسرعين نضع هذا الحبل كي “يرفع ملابس العائلة عن الأرض” هنا يظل هناك أمل، ورغبة في الارتفاع والطيران والتحليق، بعيدًا عن الأرض والأوساخ والسقوط، رغبة في رفع الملابس ومن يرتديها بعيدًا عن الأرض، ومن خلال ذلك الحبل المشدود بين شجرتين أو إنسانين، هكذا يكتب محمود خير الله عن الأطفال وعن الأمل وعن الوداع المؤقت، وعن الأسرة وعن الشجن وعن الحنين:

“عن أربعة أيدٍ تلوح كل يوم

في الشرفة

عن عشرين إصبعًا

تشق فجوة في الهواء

لكي تقول: وداعًا

عن ابتسامات أربعة

وخمسين ألف ضحكة”

وعن الأشياء الصغيرة الجميلة، عن الصغير الذي يرفع يدين قصيرتين فجأة، حين “أقبع تمامًا وراء البيوت” لكنه يكتب أيضًا عن ذلك التكرار الأبدي، عن البدايات، ونقاط الوسط، والنهايات، عن الحب والزواج والإنجاب والموت، عن موت البشر وموت الشاعر وموت الشعر، والشعراء، عن الذكريات وعن من يعودون من وراء الزمن أو الموت، عن الأصابع والكتابة:

“تركت أصابعها في يدي

ذات مرة

وانصرفت متعجلة

وحين أغلقت الباب على نفسي

وجدت خاتمًا من شاعر آخر

في واحد من هذه الأصابع”

يكتب عن البيت والتمرد وعن القبر والموت، عن الشتاء والموت وهولاته؛ الموت في القطارات والباصات، الموت المتوقع والموت دون توقع، صرخات الموت والموتى وعن حادث مات فيه بعض أصدقائه لكنهم يظلون، على الرغم من ذلك، أحياء مقيمين معه مثل يده التي تغادر وتبقى معه في الوقت نفسه:

“سبعة رجال تركوا أفواههم مفتوحة

كأنهم يعقبون على موتهم بصرخة

وكأن موتهم لا يريد أن يسمع

تركوا حناجرهم على الأرض وانصرفوا

وحين خرجت الجثامين إلى المقابر

خرجوا جالسين”

يكتب عن العمل والعمال والشقاء اليومي، عن الجنازات والملابس البالية القديمة، عن الفقر والعوز، عن هؤلاء الذين يرتدون ملابسهم ويذهبون كل يوم بحثًا عن عمل لا يتيسر، ورزق لا يجيء، وعن روحه الثقيلة التي كأنها ذهبت إلى الحرب بمفردها، ولا تستطيع حتى أن تعود” وعن ذلك التكرار والسأم وتلك الروح العبثية:

“أنا أيضًا في الصباح

أقف في الشرفة

والشقاء واقف بجانبي

تمامًا،

كأنه لا يجد عملاً سواي”

يكتب عن وجود الإنسان بلا عمل، وعن الألم الذي يهاجمه، عن اعتباره الموت أفضل ما يمكن أن يحدث له.

“ذكرني النمل المتكور المتكرر على نفسه ببشرٍ كثيرين تكوروا هم أيضًا قبل أن يموتوا وبأنه أغلب من عرفتهم ماتوا بعدما تقوست ظهورهم”.

يكتب عن حوادث القطارات والسيارات والعبارات، عن الموتى في كل مكان. عن الحب الذي يملأ قلبه للبشر، للمظلومين والتعساء والتائهين الضائعين المهمشين العاطلين المحرومين من الحب، يكتب عنهم بحب، ولا يقوم الحب – كما أشار فرويد ذات مرة – فقط على أساس العاطفة والرغبة فقط، ولا على أساس التكرار فقط، ولكن على أساس الشعور بالفقد والخسارة أيضًا؛ فنحن نكتب عن أحباء فقدناهم أكثر مما نكتب عن أحباء وجدناهم، نكتب عن قيم مفتقدة، عن مشاعر مفتقدة، عن يد مفتقدة، عن قصيدة غائبة وحلم ضائع، عن العدل والحرية والكرامة وكل ما نفتقد وجوده في حياتنا كأفراد أو جماعات، هكذا يقوم افتقاد الحب على أساس التكرار، محاولة استعادة لموضوع الحب المفقود من خلال تجسيده في آخر أيًا كان، شخص أو شيء.

ومحاولة أيضًا لترميم ذلك الحطام، ورأب ذلك الصدع في الذات، وهذا الانقسام في الهوية، ومع ذلك فإن التكرار لا يتضمن فقط مجرد العودة إلى النقطة الأولى، بمعنى الاستعادة لشيء ما مفقودًا، التذكر له، كما في ذلك التكرار أو التعلق بحدث يرتبط في الماضي، فالتكرار يتضمن أيضًا الكثرة، كثرة من الأحداث، سلسلة من الأفعال التي ترتبط مع بعضها البعض من خلال التماثل/التشابه أو الاختلاف، فالحدث المتكرر أو الفعل .. إلخ، يتناقض مع سابقه لأنه وعلى الرغم من تماثله، لا يكون متطابقًا معه، فخلال التذكر والاستعادة لا يكون الحدث هو نفسه، بل ما تمت إضافته إليه من خلال الزمن والخبرة والمشاعر، والمكان والانفعال، إنه يكون هنا أكثر، أكثر من تلك الأحداث التي تحدث في أكثر من موقع خبرة مضافة إليها كلها. هكذا يصف التكرار نوعًا من التوحد لهوية ما توجد بين شرطين أو حالتين، لكنه، في جوهره أيضًا، توق يؤكد استحالة التطابق واستحالة وجود هوية أدبية أو اجتماعية ثابتة واحدة. فالتكرار لا يقوم فقط بالمحاكاة أو الاستعادة، بل يقوم أيضًا بإعادة الإنتاج لشيء جديد ينبثق من خلال ذلك الشيء الأول القديم(6).

إن التكرار التام يعني الموت، حيث فيه يتم نفي المسافة أو الحيز الخاص بالاختلاف بين النموذج والنسخة، مما يعمل على طمس التفرد والخصوصية التاريخية الخاصة بكل منهما.

يستخدم دافع الموت كما قال فرويد عملية التكرار فيما وراء مذهب اللذة، بل جوانب عديدة منها، فهو يستخدم التكرار، من ناحية، عندما يسعى إلى تفتيت ذلك الكل (الحالة) إلى أجزاء أو عندما يرغب في إعادة تشكيل الهويات في صيغ (نسخ) جديدة، ومن ناحية فإن كان أشكال التكرار تكرر هوية أصلية تسعى من أجل الاستعادة للمحبوبين، ولوحدتها الأصلية، ولحياتها أو موتها الأصلي، وهو كذلك نوع من الرغبة النرجسية التي تسعى من أجل خفض التوتر النفسي الدائم للهوية، محاولة لقمع الآخر وإخضاع الاختلاف للنمطية.

هكذا كتب محمود خير الله عن من أحبهم، من الأطفال والعمال والنساء والأصدقاء والوطن، وحاول استعادتهم، ليس من خلال التكرار التام، بل من خلال الترميم وإعادة البناء الإيجابية للخببرة الابداعية.

“يدي تتصرف دون إرادة مني .. وتنسى نفسها أحيانًا في قلوب الأصدقاء”.

ولأن التكرار ينتج هويات إدراكية أو بمثيلات متماثلة، فإنه يعيد الاكتشاف للتمثيل، للشيء نفسه، للأمر نفسه، هو يعمل على التدعيم للرغبة النرجسية المؤكدة للذات والنافية كذلك للموت.

هكذا يكون التكرار – كما قال لاكان – حركة مزدوجة: عودة لشيء أصلي قديم، وإنتاج لشيء جديد، إنه الحضور الأول، الأداء الأول، لذلك الغياب، وهكذا ميزت ريمون كينان أيضًا بين التكرار البنائي أو الإيجابي كاستراتيجية تؤكد الفرق والاختلاف من ناحية، وبين التكرار الهدمي أو الهدام الذي يؤكد التشابه والتماثل. ويخدم النوع الأول من التكرار مبدأ اللذة لأنه قد يمكن استخدامه لتحويل الموقف السلبي إلى موقف إيجابي يحقق من خلاله المرء أو الأمة – السيطرة على الاضطراب والاغتراب، على الحدث المثير للاضطراب والجروح وهو تكرار يقوم على أساس التبادل والتفاعل بينهما ويؤكد النوع الثاني على التشابه ويرفض الاختلاف والفرق والإضافة، تغيرات الموت، ينفي الحياة والتاريخ ويقوم على أساس النسخ والانصياع والسمع والطاعة.

أما التكرار الإيجابي فيتضمن تأكيدًا على الفرق والإرجاء والإبطاء والاختلاف خلال الصياغة لشكل العلاقة بين الحدث الأول (التاريخ الأول) والحدث الذي يكرره، فليس هنا تطابق ما على الرغم من وجود تشابه ما(7). وليست اليد الثانية – في هذا الديوان – كاليد الأولى، الأولى قامت بفعلها وتركت آثارها، وليس على الثانية أن تكرر هذا الفعل نفسه من أجل إحداث الأثر السابق نفسه وإلا وقعنا في وهده الآلية والتخلف والموت والغياب المخيف، داخل العصر، داخل هذا الوطن، الذي ينبغي أن يقوم على أساس التنوع والتكامل أيضًا وعلى أساس الإبداع.

 

خاتمة:

لا يكف الشاعر، هنا، في هذا الديوان عن التحديق في يده وفي العالم، في ذاته، في واقعة من الآخرين، في يده التي اكتسبت طبقات متعددة من المعاني والرموز التي أصبحت تحيط بأي شيء في الحياة وبكل شيء.

هكذا لا تفارق اليد الجسد ولا يفارقها، لا تفارق الذات ولا تفارقها، في الصحو والنوم، في الحياة والموت، وما قد تشعر به الذات من مشاعر سلبية أو سوء تسقطه على يدها فيتهم الشاعر يده بأنها أسوأ منه، في نوع من رد الفعل العكسي المألوف في التحليل النفسي حين نقول شيئًا ونقصد عكسه وكأنه هنا يريد أن يقول إنها أفضل مني، فهي تفعل ما تريد، بينما أنا أسوأ منها، لا أستطيع أن أفعل شيئًا، ولذلك فإنها، يدي أسوأ مني وأنا أفضل منها، وهي أفضل مني وأنا أسوأ منها.

وهنا نجد أن هذه اليد، المألوفة، الأليفة، قد تحولت عبر الزمن ومع تراكم الخبرات والإحباطات إلى شيء غريب، غير أليف، ولا مألوف إلى موضوع شبه سيريالي وشبه جروتيسكي مخيف، فتبصح طبيعتها الإحيائية التحريكية التعبيرية أكثر حضورًا وتأثيرًا. هنا وفي نوع من العزل البصري تكتسب اليد معانٍ جديدة، تصبح أكثر مرونة وأكثر قدرة على إثارة الخيال، تصبح لها حياتها الخاصة ووجودها المستقل، تتحول إلى ظاهرة تتخطى حدود الممكن والمعقول.

“كنت ألفظ أنفاسي على الشاطئ

بينما أصابعي

كانت تموت وحدها في التراب

وحين أفقتُ وجدتُ يدًا مدفونة في جسدي”

في عام 1993 رفض عالم الاجتماع الفرنسي بير بورديو الرأي التقليدي حول الفن والذي يعتبر مجالاً مكتفيًا بذاته ويناسب نمطًا متميزًا يناسب نوعًا من النشاط الذاتي الذي يقوم على أساس الطبيعة البشرية، وقال إن بداية الحكمة العلمية أن ننظر ونرى أن الفن ذاته هو فيتيش ما، شيء ما أو موضوع ما من موضوعات الخبرة المعاشة قد تم تكوينه مؤسساتنا ويتطلب المنحى العلمي هنا أن نفهم الفن من خلال ليس فقط العمليات التي أنتجت الأعمال الفنية ذاتها ولكن أيضًا تلك العمليات التي أنتجت الاعتقاد بوجود شيء ما مثل الفن كلية(8).

هكذا يكون العمل الفني، أيًا كان، كما يتم إنجازه من خلال التكامل بين اليد والعين والخيال والإبداع؛ محاولة للتحرر، وسيلة للحرية، منحة تواجه الموت، تجسده وتدعو للتحرر منه أو التجاوز لحضوره المخيف، هكذا يكون العمل الإبداعي، موضوعًا للقوة لا للضعف، محاولة لتزويدنا بالطاقة المحررة لذواتنا، تلك الطاقة التي تدفعنا للاستمرار من خلال الإبداع، من خلال الفن، ومن خلال الأدب، من خلال الآخر، ومن خلال مثل تلك  اليد القوية التي هي خير من اليد الضعيفة، هنا تكون يدنا وسيلة لقوتنا، واستمرارنا، ولا تكون أبدًا، بحال من الأحوال، أسوأ منا، ولا نكون نحن أيضًا، بحال من الاحوال، أسوأ منها.

 

هوامش:

  • سيجموند فرويد (1993) دستويفسكي وجريمة قتل الأب (ترجمة: شاكر عبد الحميد، مجلة إبداع، العدد السابع، يوليو 1993، 31-46.
  • محمود خير الله (2010) كل ما صنع الحداد، شعر، القاهرة.
  • Rabinovitch, C (2002) Surrealism and the sacred, power, Eros, and the Occult in Modern Art Colorado: Westview Press, 170
  • Pietz, W. C. (2003). Fetish, In: Robert, Nelson & Richard Shiff (eds), Critical Terms for Art History, Chicago: The university of Chicago press, 306-317.
  • Ruth-Parkin-Gounelas (2001) Literature and Psycho analysis Intertextual readings N.Y: Palgrave, 103-105.
  • Bronfen, E. (1993) Risky resemblances: on repetition Mourning and representation in: Sara Webster Goodwin E. Braonfen, (eds), Death and Representation. Baltimore: Johns Hopkins university press, 103-127.
  • Pietz, op. cit.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم