ما تشاء من الكلمات

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أشياء عديدة يمكن أن تقودك باتجاه الدكان، الشارع وبلاط الرصيف والرائحة، حيث تصادفك واجهة المصرف الملكي على الناصية وقد تآكلت حوافّها وتبدّل لونها أكثر من مرّة حتى لم يعد لها لونٌ معلوم، يمكن أن تواصل السير بغير أن تفكّر برائحة الجلود التي تفوح مانحةً الشارع الضيّق شبهةَ فضاءٍ حيواني مكتوم، عليك أن تتحلى بقليل من الصبر وتواصل السير على الرصيف فلم يعد أمامك الكثير، لا ترفع عينك عن البلاط المضلّع محكم التعشيق فعند الخط الأبيض المرسوم بطلاء دهني لامع وكثيف، تخفت التماعته مع كلِّ قدم تمرُّ فوقه وتخفُّ كثافته، يمكنك أن تتأكد أنك شديد القرب من الدكان، لم تعد تفصلك عنه سوى خطوة واحدة تعبر معها الخط فتكون بمواجهته. لا تخشى أن تراه فارغاً، لا شئ فيه، لا شئ على الاطلاق سوى كرسي من الخيزران العتيق، ساقه الأماميّة اليمنى مربوطة بقطعة قماش بنيّة متربة، ستكون محظوظاً إن رأيت الرجل يجلس فوقه، للحق هو يُحب قضاء النهار في دكانه لا يغادره إلا لعذر، كان مشغولاً لسنوات طويلة بزبائنه القادمين من مختلف البقاع، سنوات خير لم ينقطع الناسُ فيها عن المجيء، رجال ونساء، شيوخ وشبّان، جادّون إلى درجة يبدون معها متعكري المزاج بوجوه معدنيّة صلبة، وهازلون لا يعنيهم أن يجيب عن أسئلتهم الغريبة المتلاحقة بقدر ما يمتّعهم أن يروه يؤدي مهمته، وهو مع هؤلاء وأولئك يقوم بعمله بأمانة لافتة، يداه مسترخيتان على فخذيه، كفّاهما مفتوحتان وأصابعهما ممدودة، غالباً ما فكّر أنه الوضع الأمثل لمن يؤدي عملاً مثل عمله لعقود طويلة، يُرجع رأسه قليلاً إلى الوراء ويفتح عينيه على سعتهما، لو كان مشهده يشتمل على شبح ابتسامة لتأكد لمن يقف أمامه، خارج الدكان، أنه يتهيأ لالتقاط صورة فوتوغرافيّة، لكنه لا يُحبُّ الصور، ستتأكد من ذلك وأنت تعاود النظر لجدران الدكان العارية من حوله، لا صورة، ولا خارطة، ولا أثر. منذ سنوات لم يعد مشغولاً بغير ترقّب زبائنه وقد بعدت المسافة بين زبون وآخر، وبعد أن أجهده الانتظار وأمرضه الجلوس الطويل، عليه أن يقرَّ بذلك، لم يعد معنياً بأمر الزبائن، تناساهم أو كاد، وأخذ يجلس على الرغم من تعبه مواصلاً العمل، بالأمانة المعروفة عنه، من أجل نفسه، لم يكن يتطلّب الأمر بعد ما مرّ من سنوات غير أن يفتح فمه ويلوك برهاوة ويُسر. ستكون زيارتك له عزاءً فريداً بعد أن نُسي تماماً ولم يعد يعني أحداً، حتى جيرانه أصحاب دكاكين الحلاقة والخياطة وباعة الملابس المستعملة، لم يعد بالنسبة لهم أكثر من حكاية قديمة تجلس على كرسي خيزران في دكان فارغ. سيفزُّ من اغفاءته الخفيفة وينظر بعينيه الكليلتين ليتأكد أن زبوناً  ما فكّر أخيراً بزيارته، يعيد وضع يديه على فخذيه، ويعدّل رأسه ناظراً نحوك ليعرف أيَّ نوعٍ من الزبائن أنت، قبل أن يُلقي برأسه إلى الوراء. في تلك اللحظة تستطيع أن ترمي عليه ما تشاء من الكلمات، أقدم الكلمات أو أحدثها، أثقلها أو أخفّها، أكثرها صدقاً أو أغربها كذباً وأعجبها رياءً، طالما أنه فتح فمه فهو على استعداد لالتهامها جميعاً، ستُحسُّ بمتعة نادرة غير المتعة التي أحسستها من قبل وأنت ترى رجالاً يقضمون المصابيح أو يلوكون المسامير، متعة لن يمنحها غير سماع الكلمات وهي تتكسّر في فمه مثل قشرة حبّة الفستق. يُغمض عينيه مواصلاً عمله، لكل كلمة صلابة وطعم، ذلك ما ستدركه وأنت ترى ملامحه تتغيّر مع الكلمات، تشتدُّ وتقسو وترقُّ وتلين، أتمنى أن تجده ما يزال جالساً يترقّب زبائنه. ستعيش سعادة لا مثيل لها وأنت تسمع الكلمات تتكسّر، ولن تعود بالنسبة لك صالحة للاستعمال، سعادة لا تنقص أو تزول مهما عاودت زيارة الرجل، ومهما ألقيت له من كلمات.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون