العالية

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

الشقة رقم (11)، حي المستشفى.

غرفة صغيرة، نظيفة، أنيقة، أثاث مغربي تقليدي، خمس شبان وثلاث فتيات بأعمار مختلفة، يجلس (الزبير) في الوسط يشرح بكثير من التفاصيل خطة العمل، أساليب التعبئة لإنجاح التظاهرة الشبابية يوم فاتح ماي، المنشورات، الملصقات، اللافتات، الشعارات، البيان الذي ينبغي أن ينشر في الجرائد، المسار الذي ينبغي أن تخترقه التظاهرة، والنقط التي ينبغي أن تتوقف عندها، مقر النقابة، مدخل الشارع الرئيسي، أمام بناية بنك المغرب، بريد المغرب، المحكمة، على بعد خطوات من دائرة الأمن…

يدخن الشباب، يحتسون كؤوس الشاي، ينخرطون، ينصتون بإمعان، تهب ريح خفيفة من النافذة، تتحرك الستائر، تحمل معها جزءا من سحابة الدخان إلى الخارج.

 (الزبير) رجل خمسيني أو يزيد قليلا، يشتغل إطارا تقنيا عاليا في (المكتب الشريف للفوسفاط)، هو الكاتب الإقليمي للحزب والمسؤول عن النشاط النقابي، شخص نذر حياته للعمل والنضال، يشتغل بدون كلل، يستقطب الشباب، تلاميذ، طلاب، عمال، هواة مسرح، نشطاء متحمسون من المجتمع المدني وحركة العاطلين…

لسنوات طويلة، وضعت شقته تحت مجهر الأجهزة الأمنية، ولسنوات كانت شقته قاعدة خلفية لعمل نضالي يمتزج فيه النقابي والسياسي بالثقافي، تعرض للحصار والتضييق، وتم اعتقاله عدة مرات، ولكنه لم يكن من النوع الذي يستسلم، يتحدث دوما عن نفسه بنوع من القوة واليقين، يؤمن أنه رجل حر، وأنه في جميع الأحوال لن يخسر شيئا، فهو أصلا لا يملك الشيء الكثير، ولأنه بدون أبناء، ولأن والديه رحلوا عن الدنيا منذ مدة طويلة، فهو يعتقد أن السلطة لا تستطيع الضغط عليه، أعتقل مرات متعددة، وأحيانا كثيرة يتم اعتقاله من باب الإحتياط ثم يطلق سراحه بعد يومين أو أكثر.

كان الوقت متأخرا عندما انسحبت الفتيات برفقة (الزبير) في نوع من الوصاية الأبوية،  انسحب بعدهن الشباب فرادى تحت جنح الظلام.

وكعادته حرص (سي محمد) أن يغادر لحظات قبل الآخرين، يفعل ذلك ليتفادى الاحتكاك ب (العالية) زوجة (الزبير).

(العالية) هي رئيسة (جمعية أصدقاء الطفولة)، سيدة عصرية من سيدات المجتمع المدني، تجمع بين الجمال والنضج والصلابة وكرم النفس، شخصية قوية، ضاغطة ومهيمنة، يبدو الرجال أمامها وكأنهم لا شيء، مجرد دمى خشبية، كراكيز، عيدان قصب جوفاء، عاجزون وبدون فاعلية، كانت منخرطة كليا في العمل الإجتماعي بنفس منقطع النظير، انخراط ينم عن أريحية فطرية وقناعات دينية لا تكشف عن نفسها إلا بشكل مستتر، خيمات للتبرع بالدم، خيمات للإفطار الرمضاني، ملابس لأطفال الشوارع، كشوف طبية بالمجان، حملات لتصحيح البصر وتوزيع النظارات الطبية، تمدرس الفتيات، حملات ضد تزويج القاصرات في المناطق النائية…

أعمال لا تنتهي.

بدأ (سي محمد) يتجنبها منذ مدة عندما أحس أنها تضمر أمرا، وأنها تميل إليه، أو تتحرش به، في البداية بدا له الأمر عاديا، طبيعيا، أو شبيها بذلك، نوع من الإعجاب والإنجذاب الصامت، شيء يشبه عاطفة الأمومة، ترحب به، تستقبله بالأحضان، تقبله، تنظر إليه طويلا، تنظر في عينيه بقوة دون أن تقول شيئا، تستبقيه، تحتفظ بكفه طويلا عندما تصافحه.

مرت الأيام، وانتقلت (العالية) إلى السرعة الثانية، تتبرج، تختار ملابسها بعناية، قطع شفافة، إغراء، عطور، إيحاء، لغة صامتة تنضح بضجيج من الرغبة والعواطف.

من جهته، لم يكن (سي محمد) يحتاج إلى مجهود كبير لكي يفهم، كان واضحا أن الأمر ليس لعبة، أو لم يعد لعبة، أو هو لعبة ولكنها خطرة، كان واضحا أن الأمر أكبر من نزوة عابرة.

بحرص شديد، تريد (العالية) أن تقدم عن نفسها صورة تكاد تكون مثالية، صورة عن ذاتها لذاتها وللآخرين، فبدت دوما سيدة متميزة، قوية، مهيمنة، مصممة وحاسمة، ولكن ذلك المظهر لم يكن حقيقيا، فهي في النهاية إمرأة، إنسانة كباقي الناس، لها ضعفها، أعطابها، أوهامها، أحلامها، كانت بالخصوص ضحية لبحثها الصامت عن السعادة،  ومع مرور الأيام، كانت تغرق، تنجرف، وتفقد تدريجيا زمام عواطفها، وفي كل يوم كانت تذهب أبعد، وفي كل يوم تكتشف أنها لن تتوقف، لن تتراجع، ليس لأنها لا تريد، ولكن لأنها عاجزة، ولا تستطيع المقاومة.

ثم ذات يوم، وفي نقطة ما، وعندما اعتبرت أن الرسالة وصلت، وأنها استنفذت مخزونها من المقاومة، وأنه لا جدوى من الكبرياء، ذهبت توا للموضوع.

وقفت أمام الباب، أغلقته في حركة هادئة ومصممة، غرست أناملها الطرية في شعره في حركة مداعبة، شدته إليها بقوة تمنعه من المغادرة، إحتضنته، قبلته، نظرت في عينيه بعينين جائعتين، مستعطفتين.

أحس أنه محاصر.

  • شوف (سي محمد)، أنت إنسان نبيه وفاهم…

تصمت للحظات، تنتقي كلماتها.

  • أنت تعجبني…أنا أحبك…أنا أريدك…سأفعل أي شيء، إنما لا تتركني وحيدة…

يطرق الشاب أرضا، يفكر، يلوذ بالصمت، تموج بداخله مشاعر متناقضة، ثم أخيرا يستجمع شجاعته، ينظر في عينيها ويجيب.

  • أنت أيضا عقلك كبير وفاهمة، لا أستطيع…

يرسم لحظة صمت…ويكمل.

  • لن ينجح الأمر، بيننا (الزبير)…
  • أرجوك، لا تعتبرني وسخة، أنا فقط تعبت…

يسألها صامتا.

  • …؟؟
  • نعم، لقد تعبت من الفضيلة، تعبت من التمثيل، حياتي فارغة، حياتنا أنا و(الزبير) فارغة، أتفهم ما معنى الفراغ؟ النضال والنقابة والحزب وكل الأشياء الأخرى، كل ذلك مجرد أكذوبة، لو هو مناضل بصح كان يناضل فيا أنا أولى…

تحصن الشاب بالصمت مرة أخرى.

كانت جملتها الأخيرة قاسية، جارحة، قوية وصادمة، نظر إليها، نظر في عينيها الغارقتين في الدموع، تملكه شعور غريب، أحس وكأنه ينظر في بئر مظلمة، بئر سحيقة وبلا قرار، قرأ فيهما لأول مرة شيئا مختلفا، قرأ ما لم ينتبه له من قبل، تعبير حزين تمتزج فيه الرغبة والضعف بالغبن والتعاسة.

بدا له الأمر غريبا، بدا له وكأنما يراها للمرة الأولى، وكأنه يعيد اكتشافها.

لأول مرة يرى ضعفها كأنثى، لأول مرة يراها ضائعة، محطمة، منقادة لعواطفها ومستسلمة، كاد يضعف، كاد يخضع لضعفها وعواطفه، حرر معصمه برفق، حرره بصعوبة، وهو يهمس.

  • أرجوك أن تفهمي، لا أستطيع.

نظرت إليه طويلا.

ثم تغيرت ملامحها تدريجيا، كستها تعبيرات قاسية وصارمة، بدت غاضبة، منفعلة، لطمته، دقت على صدره بقبضتيها في ضربات قوية، متشنجة ومتلاحقة، لم يحتج، لم يقاوم، لم يمنعها، لاذ بالصمت وتركها تنفس عن غضبها ومشاعرها السلبية، ثم ارتخت قبضتها شيئا فشيئا، لانت، انهارت مسندة ظهرها إلى الحائط، انطوت، تكورت على نفسها، ثم أخذ جسدها وضعية طفولية، جلست، شدت إليها ركبتيها، دفنت بينهما وجهها، وراحت تبكي بصمت.

ينظر إليها (سي محمد)، يتأملها ويفكر، لأول مرة ينتبه إلى أنها هشة، خفيفة وسريعة العطب مثل ريشة في مهب الريح، لأول مرة ينتبه إلى أنها ليست قوية كما كان يعتقد، بدت له مثل تلميذة مراهقة، حزينة ومحطمة، استشعر حجم الألم الذي يعتصرها من الداخل، ثم انتقلت إليه العدوى، خليط من الحزن والألم، أحس نحوها بكثير من التعاطف، ود لو يقول شيئا، لو يخفف عنها، لو يضمها إليه، ولكنه تراجع، لم يجرؤ، وقف صامتا، جامدا للحظات، ثم غادر تاركا الباب نصف مفتوح.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون