ماتريوشكا، هكذا قالت سلمى..

موقع الكتابة الثقافي art 7
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد فرحات

كيف تنحاز لقضية ما، وإن كانت عادلة، دون الوقوع بفخ النظرة العنصرية لمضادها، كيف تجمع بين الموضوع ونقيضه في ذات الوقت، كيف تنحاز للإنسان وفقط بدون شرك التمييز العرقي أو الديني أو الجنسي،  تصنفها النظرة الأولى نسوية منحازة لقضايا النساء، ويصر الأغلب على ذلك، وهي تنفي ذلك بكل إصرار، وهل كل مُصِر صادق، وهل كل صادق مُصِر؟

لنتأمل مليا كيف تكتب سلمى أنور، لنعلم صدق ادعائها من عدمه، بلغة أدبية رائقة، لا تخلو من رصانة الدراسات الأنثروبولوجية و الإجتماعية ومؤثراتها السياسية والدينية، ليس ذلك فقط وإنما متابعة واستقراء السينما العالمية وربطها بقضايا المرأة، والتأريخ لقضايا نسائية متماسة مع  ظروف الحروب والثورات، كل هذا، تطرحه سلمى أنور في إصدارها الأخير “ماتريوشكا”، إصدار دار دلتا للنشر، وماتريوشكا هي الدمية الروسية  المركبة من دمية  كبيرة تحتوي على دمى أصغر منها، و العنوان الفرعي” نساء من داخل نساء”، تماما كما أن  الماتريوشكا  دمى من داخل دمى، ف “ماتريوشكا” رمز فقط وليس تحيزا ثقافيا.

سلمى  مصرية عربية في المقام الأول، أكسبتها  أسفارها  وإقامتها  الطويلة -نوعا- في القارة الأوربية العجوز رحابة إنسانية رائعة، تتبدى جيدا في كل ما تكتب، بداية من روايتها  “نابروجادا ” وهو حي الشرق  أوسطيين بكوبنهاجن،  لماتريوشكا – نساء من داخل نساء-، ينقسم الكتاب لقسمين، الأول منه يشبه السيرة الذاتية  تحت عنوان (ماتريوشكات العائلة وأنا )، يتحدث عن نساء نشأت سلمى في كنفهن  العائلي الجدات، والأمهات، الخالات، البنات، وعلى مستوى أوسع بنساء عايشتهن  أثناء دراستها وعملها وأسفارها، أقول تشبه السيرة الذاتية لأنها ليست سيرة ذاتية محضة، فيها من التوثيقي والتأريخي أيضا، هي شبه سيرة ذاتية، مراوغة بإرادة رهيفة  عابرة  الأجناسية  الكتابية، هو اتجاه  جيل كامل من  الكتاب  فيما يبدو، تمثله سلمى أنور بكل اقتدار، كيف تجدل  ضفائر  القصة والرواية و السيرة الذاتية والبحث الاجتماعي السياسي، كل ذلك في ضفيرة شعرية رائقة، سواء كان في ماتريوشكا و نابروجادا و كما كان في  الصعيد في بوح نسائه  والأخير عنوان كتابها السابق  .

ولكن ما الذي منع سلمى من البوح الكلي في سيرة ذاتية حقيقية ؟ أراه الرقيب الداخلي المسيطر بكل قسوة وشدة، فهي سيدة شرقية مصرية، مكبلة في النهاية بكل تلك التابوهات، المثقلة بها المرأة  العربية في تلك المجتمعات الذكورية الباباوية، فكان اللجوء الشاعري هو المهرب و الملجأ من كل حرج قد تصاب به امرأة شرقية تبوح كتابة .

 تنظر سلمى بغبطة جرأة تلك النسوة اللاتي سبقنها في البوح، وتخلصن من كل رقابة  كالتركية إليف شافاق في سيرتها الذاتية” حليب أسود “، و الإيرانية آذار نفيسي وسيرتها الذاتية ” أشياء كنت ساكتة عنها”

تقول سلمى ” آذار نفيسي، الكاتبة الإيرانية التي تحدت الهيمنة الفقهية والنفسية لنظام الملالي الحاكم في إيران بتدارس رواية ” لوليتا” سرا مع طلبتها، وهي الرواية الروسية التي رميت بما رميت به من فحش…”

ثم تقرر سلمى، تنفث عن وطأة القيد المحكم المدمي لمعصم البوح “ما أصعب الحكي الذي تقرر فيه أن تتعرى اختيارا، وأن -ياللجبروت- تعري الآخرين معا جبرا و قهرا ..، أنا الأخرى لدي أشياء كثيرة ساكتة عنها، ولكني لا أملك شجاعة “نفيسي” أو ربما لا أملك سنوات عمرها التي تقارب السبعين ، إنها و لاشك سنوات البوح النسائي بلا ارتعاش ..”

 تبدأ سلمى بالسرد، ولكنه سرد شعري رهيف للغاية، “حين أستعيد تاريخي، في لقطات من تلك الخاطفة التي لا تبقى إلا إذا اجتهدنا لنستبقيها، أجدني كنت  محاطة دوما بنساء كثيرات…”

تلك التفاصيل الصغيرة جدا المكونة لفسيفساء الحكي البديع، غرفة الأم، الأباجورة الملونة، بيت الجدة الأسقف العالية، الحيطان العالية، الحضانة، الحواديت المصورة، ثم الحزن الأول و اللقاء الأول و اليقين الأول “أن  الناس يفارقون عالمنا أحيانا إلى حيث لا يرجعون” و موت الخال الأصغر في حادث مروع، لتعرف أن  هناك ارتباطا غامضا ما بين الحزن و السواد الذي ارتدته الجدة حدادا لسنوات طوال، تقول سلمى ” ما زلت أذكر جدتي – رحمها الله- امرأة بها بقايا رشاقة و أناقة من تلك التي اتسمت بها نساء مصر في أربعينيات القرن الماضي، أذكر صورتها باللونين الأبيض والأسود في صحبة جدي وهي ترتدي “التايور” القصير الرسمي أمام “كازينو السعادة”  أو “الأوقات السعيدة” أو اسم مضحك من هذا القبيل!”

كيف منعت الأقدار الجدة من استكمال تعليمها، كيف تطالع كتابا للقراءة الأولية قبل النوم حتى تتأكد من عدم نسيانها القراءة، كيف توقف بها الزمن على صورة الملك فاروق “ذلك القمر الذي كان و كان زمانه وكان قصره و كان موكبه و كان عرشه ..”

حضن الأم  المهرولة بسلمى في خضم عنف أحداث الأمن المركزي، تهشم باص الحضانة” الأزرق الطيب “، حظر التجول،  رفع اللثام عن وجه الألم باحتراق أطراف  الأصابع و قطع باطن اليد و اكتشاف كيف تشتعل علبة الثقاب و ما هو ملمس شفرة الحلاقة  الدامي، ثم مرض عضال يهيم بسببه  ملك الموت على الخال الثاني، وفي خضم ذلك اختفاء الخال الثالث في صحراء الجزيرة العربية فرارا من الاجتياح الصدامي العراقي للكويت حيث كان يعمل الخال معلما هناك ..

زلزال التسعينات ، تقول سلمى ” وكنت وسط كل هذا الخراب مشغولة بحذائي الذي ضاع في فوضى الزلزال، ولم يكن بوسعي أن  أنضم  للنسوة في مداخل العمارة بقدمين حافيتين ..لقد كنت ألعب دور “سندريلا” في حكاية زلزال القاهرة!” هي وغيرها من تلك الفقرات حكايا شديدة التكثيف الشعوري و التعبيري في إطار لحظي زمني خاطف، لتتأرجح بين أشكال القصة من قصيرة لقصيرة جدا، كيف تحولت الخالة الأنيقة الحسناء بعد موت مفاجئ لصغيرها ” سيقرر قلبه التوقف عن العمل دون أن  يستأذن أيا منا ..” لتقرر الخالة الثكلى ” سترتدي النقاب، وتكرس عمرها لاثنتين : الدعوة إلى الله، وتنشأة ثلاث  ماترويشكات صغار، انجبتهن بعيد فجيعة ولدها، ماتريوشكا تلو الأخرى، تواجه بهن القدر الذي سلبها صغيرها، أو تطمع في دخول جنات الله  لأجل خاطرهن على الطريقة الإسلامية…”، مأساة ضياع مدخرات الأسرة بإفلاس الريان و انتظار استردادها، ثم القناعة بالأجهزة الكهربية  التي لم تأت ، محاولة اغتيال الرئيس مبارك في أديس أبابا،  مذبحة الدير البحري، هجمات واشنطن،   الدراسة الثانوية و الجامعية، تقول سلمى ” كنت في المدرسة الثانوية حين اكتشفت أن في جراج ذلك المبنى المقابل لبيتنا غرفة صغيرة تسكنها طفلة لها ست سنوات من العمر، ولها وجه بدر البدور، ولها أخ أصغر بساقين تنتهيان بلا  قدمين قضيت شهورا أراقب “كرملة” ذات السنوات الست بينما تعلم صغيرها -بدأب لا تعرفه إلا الأمهات – أن  يمرح دون قدمين، و تتعلم معه أن تتنمر في وجه أطفال الحي ممن يسخرون من القدمين التي لم ينبتهما الله، لسبب لاندريه ….، كنت ابتاع البسكويت “الويفر” ل”كرملة ” ولصغيرها بشكل منتظم من كانتين مدرستي، متسائلة عما غيب أمهما من هذا المشهد ؟ حتى كان ذلك اليوم الذي انغلق فيه تماما باب غرفتهما……، لكني ظللت أتابع شراء “الويفر ” وأكدسه  تحت “عقب”  باب الغرفة المغلق حتى  انسدت الفرجة الصغيرة بأكوام الويفر التي لا يأكلها أحد..”

هي مأساة التهميش والفقد  والانسحاق، ومحاولة المساندة و التعاطف، ثم النهاية بالغياب والاختفاء، وأكوام من الويفر الذي لن يأكله  أحد، رمزية متكدسة تثير الكثير والكثير من أدوات الاستفهام ..

ثم الجزء الثاني من الكتاب تحت عنوان “ماتريوشكات من هنا ..ماتريوشكات من هناك ” وهي تلمس لقضايا المرأة من خلال عروض كتب وأفلام سينمائية محورها دائما بطلة من بنات حواء،  كيف أن بعض الأنشطة اليومية  للنساء تفوق في الواقع تلك المؤتمرات النسوية الفارهة كالواشمة البريطانية ” التي كرست موهبتها في دق الوشوم الملونة للنساء  الاتي فقدن بعض انحناءات انوثتهن بسبب سرطان الثدي ..”و اليهوديات العجائز اللاتي خلدن ذكر أسر مسلمة عربية وفارسية قمن بإنقاذ  أطفال و نساء يهوديات من نيران الهولوكوست النازي، بإقامة معارض صور لتلك الأسر المسلمة في أنحاء الولايات الأمريكية،  كيف أن  تنظيم “طنط فرحة ” الجمعية و من تقبض أولا لحل مشكلتها، أكثر جدوى بكثير من تنظيم أفخم الفعاليات النسوية في أروقة الأمم المتحدة ..،  يذكرني هذا بترجيع صوت رخيم لمدام فيمنست” صدقيني، و من منظور نسوي، فإن أنشطتنا اليومية التي نمارسها كنساء وأمهات هي عين الحقيقة و أصل الأشياء، ومحاولة تسفيهها   التقليل من شأنها في مقابل تعظيم انخراط النساء في الحياة العامة هي شأن أبوي ذكوري كما ينبغي للأبوية والذكورية أن  تكونا!” “نابروجادا، رواية، سلمى أنور 2014 “

التشيلية ايزابيل الليندي الكاتبة العجوز الشقية وإبحار شيق جدا في كتابها “افروديت” و وصفات افروديت السحرية عن الطعام و الحميمية  في لوحة ايروتيكية شهية، لتقرر في النهاية بوضع كتاب “افروديت” بمقدمة خطة قراءتك المقبلة .

آخر إنتاج سينمائي سوفيتي مصري عام 1991 لفيلم “بيت من لحم” قصة يوسف إدريس،  وإبراز الخلاف البين بين رؤية يوسف إدريس و المخرج أشرف سمير” للجنس و المرأة و الصمت الموروث عن الشهوة وأحاديثها”

ففي نص يوسف إدريس ” كان الرجل الكفيف متواطئا بدوره، يعرف أن  النسوة الأربعة يتبادلن الخاتم بين أصابعهن، كي تظفرن بذات الشبع الجسدي بعد أن

يئسن بفقرهن و قبحهن من الزواج”،  رؤية مغايرة تماما للفيلم الذي يضع الزوج في خانة المغرر به، المستغل من قبل النسوة، اللاتي يستغللن عماه  لإشباع رغباتهن اليائسة من الاشباع إلا  بهذه  الطريقة …

ليست كل بطلات التاريخ طيبات، هناك ساحرات شريرات و هناك ريا وسكينة، وأيضا هناك إلسا كوخ، وقصة صعودها من طبقة العمال الفقيرة، لأعلى مناصب الحزب النازي و زوجة ضابط نازي يقلد إدارة معسكر “بوخنوالد” و الذي ستعرف إلسا بوصفها “عاهرة بوخنوالد” حيث كانت تجوب بحصانها المعسكر شاهرة سوطها،  بسادية مفرطة، تجلد من تشاء، وتضاجع من تشاء تحت ضربات السياط أيضا، تسلخ فروات الرؤوس، لتصنع بها أغطية لاباجوراتها، تضع جماجم عشاقها السجناء في أركان و زوايا منزلها المرعب، وتكدس هي وزوجها الثروات بخلع أسنان آلالف المعتقلين الذهبية، يحاكمها النازيون أنفسهم، ثم تبرء لعدم كفاية الأدلة، ثم تحاكم دوليا بعد سقوط النازي ويحكم عليها بالسجن مدى الحياة، ليجدوها في أحد صباحات 1967 منتحرة شنقا في غرفة سجنها .

تتحدث سلمى  عن ليبوريلا المعادل النسوي ل”ليبوريل” قواد ” دون جوان “بأوبرا “مخادع إشبيلية ” الإسبانية،  رواية عنوانها بذات الاسم”ليبوريلا”  للنمساوي اليهودي ستيفان زفايج،  وهي القوادة القبيحة  للنبيل المفلس الواقع تحت سطوة زوجته المعيرة له بافلاسه المزمن، وبورق الشيكولاتة،  ودغدغة عواطفها المكبوتة تقع في عشقه، تكتفي فقط برؤية نشوته وسعادته  صباح ليلة حمراء  مع واحدة ممن جلبتها له ، ثم تتطوع بقتل  زوجته، لتخلص حبيبها من أزمته راجية  نظرة رضا أو كلمة امتنان من حبيبها،  لتنتحر إثر تنكر حبيبها  لها، تقول سلمى ” ربما لم تزد “ليبوريلا” على كونها قوادة قبيحة بصوت يشبه صوت الحمار، لكنه يصعب أن يتمالك الواحد منا إشفاقه على ذلك الكيان الذي لا خلاف على أنه كان، في جوهرة  امرأة عاشقة ..وإن على طريقتها المضطربة .”

تقول سلمى” يقولون إن بعض الأرواح تتربص بأصحاب البحث و أرباب الكتابة داعية إياهم لإعادة النبش في أوراقهم و إعادة خط تاريخهم، انصافا أو توضيحا أو عطفا على كل ما قيل ..”، وهكذا تتبعت روح الأميرة ديانا سلمى، لتنصفها، و تحكي عن ظروف نشأتها القاسية، وكيف عانت أميرة القلوب، وكيف كسر قلبها بفعل زوج خائن قاسي هو الأمير تشارلز، وكيف فقدت كل من أحبتهم، وكيف حاولت الانتحار ..

و تحكي سلمى عن ضريح الأغا خان،  ليحكي بدوره من فوق ربوة صخرية مطلة على نيل أسوان،  حكاية  السلطان محمد شاه ، الإمام  الثاني و الأربعين لطائفة الشيعة الإسماعيلية النزارية، الوريث الشرعي للدولة الفاطمية و كنوزها، كيف وقع في عشق بائعة الورود الفرنسية، وكيف دفن في مصر، وعن رحلة زوجته السنوية في قارب  شراعي  لتضع على ضريحة وردة حمراء، هكذا منذ وفاة السلطان عام 1957 إلى حين وفاتها عام 2000 لتدفن بجواره،ولتنسج الأساطير على لسان بنات أسوان.

هكذا تنساب حكايات سلمى أنور، تتحدث عن أعمق المشاعر الإنسانية و أصدقها من غير  تقعر، بدون تلك اللغة الخشبية، و الحنجورية النسوية  التي وقعت فيها الكثيرات ممن سبقوها أو يعاصروها، لتعبر سلمى بذلك حدود النسوية لرحابات الإنسانية الواسعة، لتوجه بصلتها منحازة بكتابها  لكل ما هو إنساني وإن  راق للبعض أن  يصنفوه نسويا .

مقالات من نفس القسم