علاء خالد في “طرف غائب”: الارتحال نحو اللامرئي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 عبدالله السفر

العبور نحو اللامرئي.. تقليب التربة؛ تفتيتها إلى ذرات متناثرة تعود لتلتئم من جديد في ضوء يبدأ خافتاً، ثم يتصاعد في نغمة آسرة. هي اللون الجديد في ثراء باهر تجتمع فيه الملموسيّة والتجريد، الواقعة والأسطورة. السيرة متخفّفة من التاريخ والتاريخ منظورا في حيوات أمكنةٍ وشخصيات غاربةٍ أو هي في وشيك الضمور والاضمحلال؛ تُستعاد على سكةّ التحولات مشبعة بالحنين وما هو أبعد من أن تظل ناتئة مفردة. ثمّة خيط رهيف ناظم من القراءة البصرية تجوب المشهد الحياتي والإنساني نافذةً إلى الأغوار، في أناةٍ وتمهّل تنكشط معها الأغلفةُ والطبقات وصولاً إلى المعنى العميق، الشق غير المرئي تطلع منه ميّاهٌ فوّارة، هي الوجه الآخر والطرف الغائب.

على هذا الإيقاع من الحفر والجراحة والتقشير والسبر والغوص، يمضي الكاتب المصري علاء خالد في كتابه (طرف غائب يمكن أن يبعث فينا الأمل) الصادر أوائل العـام الماضي 2003 بمدينة الإسـكـندرية ضمن سلسلة غير دورية من “كتاب أمكنة”. يتوزع الكتاب إلى ثمان مقالات/ نصوص، تنسكب في مسارات متعددة من المشاهدات والرصد والتجربة، والاستعادات من محطات غائبة من مدوّنة الكاتب الحياتية والفكريّة؛ بحثاً عن المضمر والمحجوب، يثوي في طيّات السكون والهدأة أو يغيب في مشهد الضجيج، يغطِّيه حراك متعجِّل؛ يطفئ الشعلة وينثر الرمادَ، أو أشراكَ التمويه تمنعه من شقّ الصَّدَفَة ومن أن يتجلّى وجوداً وكينونة تمسّ شغاف الحاضر وتشاغبه، وإنْ من مواقع طرفيّة نائية. ما يقوم به الكاتب من رجوعٍ إلى الوراء، إلى المناطق الظليّة، هو ما نحتاج إلى اكتشافه للعثور على نقطة ارتكاز نفتقدها، وعمود توازن نغفل عنه، نمسك به مرة ويفلت منّا مرارا، لكنه في كل الأحوال ماثل ويعود. فالرجوع بحسب عبد الهادي مفتاح في بحثٍ له عن ” الشعر وماهيّة الفلسفة: (لا يعني اجتيازاً للمسافات المقفرة عبر التاريخ إلى ” مكانٍ ” ناءٍ ألفيْناهُ وراءنا. بل إلى مكانٍ على مقربةٍ منّا هو بمثابة “شيءٍ” ما انفكَّ يعود ـ مجلة فكر ونقد، عدد 8). وهذا ما أحسب أنه الريحُ التي تدفع بشراع علاء خالد، والغصنُ الذي حمله ليقوده نحو مكامن المياه، وعلى التخصيص في “الـبيـت الصحراوي لسنوات الطفولة” و”سيرة مقهى” و”الصحراء: حلم مرئي”. حيث يظهر المكان، في سياق من التبدلات والتحولات أو العيش في سيرورة الثبات، منشبكاً بجذره الصلب؛ الروح باعتبارها الهويّة والملاذ، والحِمَى حين يستعصي على التحطيم والتذرية، في صورة نجد تمثلاتها باديةً عبر الشخصيات التي تكسو المكانَ لحمَه الدال بحضورٍ مشعٍّ ومتعالٍ، ينزع إلى أن يصبح ذائباً في بهاء الأسطورة. تلك الجوهرة التي تتقوّم بما هو عميق ونافذ وأصيل، وأثر يغزُرُ معناه ويتلألأ كلّما أوغلنا في رحلة الاكتناه المزدوجة في عروق المكان وشخصياته حيث (يغدو إدراكنا للمكان تأكيداً على وجودنا بأبعادٍ يستحيل قياسها، في نقطةٍ قد تقع بين الوعي والحلم، ولكنها تقع حتماً في القلب ممّا نسميه الحياة، أو الكينونة البشرية. كما أنها في القلب من التجربة التاريخية نفسها، وهي التجربة الزمنية الماورائية التي يفيض بها كل ما يحطُّ عليه البصر، أو ترتفـع منه العين: جبرا إبراهيم جبرا، نقلاً عن: صلاح صالح، قضايا المكـان الروائي في الأدب المعاصر، دار شرقيات، القاهرة 1997، ص 42).

إذا كانت الأمكنةُ هي الهيكل الذي يتأطَّر فيه “طرف غائب”؛ فإن الأعمدة التي يرتكز عليها، وترسي له الرسوخ والتميّز والأثر النوعي، هي عوالم الشخصيات التي عمرت فضاء هذا العمل، فأضحتْ كل شخصية ـ بحضورها الطفيف أو المسترسل ـ وشماً في ذاكرة الكتابة، تمتلك قامةً مديدةً من النضج الفني والحضور الإنساني معاً، بما يمنحها الفرادة والامتلاء الدلالي المشحون بدفقة روحية، تتعدّى مضيق الذات إلى رحابة الوجود الإنساني، بعد أنْ تتصفّى من هيئتها الخارجية؛ قشرةِ العابر والهش واللحظي، وتلتحم بنواة تعبيرها، خلاصتها ومفردتها الجوهرية. الجانب الذي يتصاعد من الأعماق نشيداً خاصاً، وذبذبة شخصية تفارق المتن ويبقى لها حيّزها الصغير الذي هو معنى وجودها؛ عيشاً وممارسة بغضّ النظر عن الظرف الضاغط على السطح؛ اجتماعياً أو اقتصاديا أو نفسياً.

الشحاذ.. المعتوه.. المهووس بسلوك استحواذي.. المريض بمتلازمة داون.. المشغوف بالأشياء الصغيرة.. الوسواسي.. القَلِق.. الأعمى… نماذج بشرية تتحوّل إلى شذراتٍ مضيئة، ولوحاتٍ حيّة عِمادُها وحدة لونيّة مكثّفة متدرِّجة، استدعاها الكاتـب من “عينٍ أخرى” هي الدقة والانتباه ـ عميق الانتباه ـ وحُسْن الالتقاط والتحليل. المسبار المدهون بالتأمل والاستبصار والحدس، بدرجة عالية من النفاذ والتشفيف توصلنا في النهاية إلى كائناتٍ شعريّة بامتياز. وهنا سرّ العذوبة والانخطاف نحو هذه الشخصيات التي يُظَهِّرُها علاء خالد من عتمة الهامش إلى ضوء الحياة، سابغاً عليها هويّتَها ولونَها وحراكها الذي لا يكفّ عن المثول: (… فتتركُ الألوانُ الباهتة مكانَها، مكتفيةً فقط بأن تعكس الألوان الأخرى المهيمنة، وإلى هذا الحد، وخلف سطوة اللون، تداخله وتعدده، يتفاعل اللون ويتذبذب داخل اللوحة، فيظل سطح اللوحة في حركة مستمرة، يبرز جزء ويخفق آخر، وإنما لا يسكن أي جزءٍ من اللوحة أبداً ـ راينر ماريا ريلكه، ككلب يرى وجهه في المرآة ويفكّر: هناك كلب آخر. رسائل عن سيزان، ترجمة سلوى رشاد، ص 52). ولنا أن نستلّ “الشاب المنغولي: ص ص 53 ـ 62” شاهداً على مدى دقة الرسم والتـلوين، والنَّفاذ والامتلاء. فالمنغوليةّ (متلازمة داون) كما يعرّفها الاختصاصيّون حالة من حالات الضعف العقلي الولادي، لها خصائص جسمية تميّزها هي ملامح الجنس المنغولي المصحوبة بالبلاهة أو العته. ليس بمقدور صاحبها التوافق الاجتماعي بسبب تدنّي مهارات الاتصال لديه المؤسسة على ضعـفه العقلي، وتصرفاته وانفعالاته تـتّسم بطابع تكراري رتيب. “الشاب المنغولي” يصحب أمّه بائعة الجرائد إلى الشارع من السادسة صباحاً إلى التاسعة مساءً. وفي وضعيّة كوضعيّته لن يكون غريباً أن يصدر عنه سلوكٌ غريب غير منطقي، نحو الخبط على السيارات وحشر رأسه داخلها إبّان التوقف لشراء الجريدة من الأم، ومنح العناق والقبلات بلا حساب، والهيجان المفاجئ. كلها تبدو ـ على غرابتها ـ “معقولة” ومعهودة ومستساغة من طرف أصحاب المحلات في الشارع، وتفيض عليه تقبَّلاً، يُحِلُّهُ ـ وفقاً للتدين الشعبي ـ تميمةً تبارك المكان وتجارته. ولو توقّفَ الكاتب عند هذا الحد لَمَا جاوَزَ الرَّصد الفوتوغرافي، لكنه يمضي إلى شق غلاف “الشاب المنغولي” وإضاءة شخصيته بإبراز مفردته الجوهريّة. وهي هنا التعبير عن الحب بصورة مطلقة: (فلم يعد الحب قيمة، أو حاجة متبادلة، بل قيمة ثابتة، أو حاجة ثابتة، أحادية، تغوص في نفسها ـ ص 58) ويتبدَّى ذلك في مشهد فائق الشعريّة، ينطبع في غلالة ضوئية وأنـثوية مسائية من واجـهة الزجاج لأحد محلات الأثاث بالشارع، حيث تـجذبه “الإضاءة السحرية” للمحل ووجود فتاة عاملة فيه، إلى الالتصاق الشديد بالواجهة نائِساً في هدوء طوال مدة التصاقه: (أصبحَ مثل فراشة تلتصق بحائط الساعات وهي ساكنة، علاقة مختصرة بالحياة ومُصَفّاة من التعقيد، تتغذّى بشيءٍ واحد فقط، سواء أكان ظاهريّاً مثل لون الحائط أو لون الزجاج، أو شيء غير ظاهر يتولّد من هذا السكون العميق، أو من تلك الحركة البندولية ـ ص 58). بهذه الإضاءة، تنكشف الأعماق غير المرئيّة، وهي الدلالة التي ما فتِئَ علاء خالد ينكبّ عليـها بفـتنة، واضعاً ذاته في المجرَى نفسه من التـقصي، كما تَشِي بذلك “الحياة الأخرى للأشياء الصغيرة” إذْ أنَّ مفردة الحنين التي تحرّك الصديق ـ عبر تجميع الأشياء الصغيرة وتكديسها ـ هي المرآة التي يتموقع فيها مشروع الكاتب وينمو.. البنية الغائبة ـ بتعبير أحد النقاد ـ التي يزهر فيها علاء خالد، وتييح لنا صَبيبَ المتعة من تجربة صافية متميّزة.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم