سردية الهوية والبقاء في فلك “صباح 19 أغسطس”

صباح
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
تنتمي الرواية إلى الأدب الواقعي وفيها نقد أيديولوجي وفكري للاتحاد السوفيتي ومصر تحديدا الجماعات الإسلامية المشتغلة بالسياسة بدءا بالإخوان المسلمين وحتى تنظيم الدولة. بعض القواسم المشتركة يجدها القارئ المصري للرواية بين بلاده اليوم وما جرى في الاتحاد السوفيتي في التسعينيات

حنان سليمان 

يواجهك عنوان “صباح 19 أغسطس” بفلك الحدث الذي تدور حوله رواية ضحى عاصي الصادرة مؤخرًا (عن الدار المصرية اللبنانية) حيث بؤرة السرد الزمكانية هي تاريخ 19 أغسطس 1991، وما شهده الاتحاد السوفيتي آنذاك من انقلاب فاشل دبره الشيوعيون القدامى على الرئيس ميخائيل جورباتشوف لتنقلب بعدها حياة “كاملة”، البطلة السوفيتية المصرية، رأسًا على عقب وكأنها سمكة تخرج من عالم البحر الذي ألفته ويصبح عليها التكيف مع بيئة جديدة بأي ثمن لكي تعول طفلها في غياب الزوج.

عتبات النص تُظهر على الغلاف الذي صممه الفنان محمد مجدي شابا وفتاة كأنهما بطلا الرواية؛كاملة الإسناوي ورسلان جاسانوف، وهما وسط الجموع أمام ضريح لينين في الساحة الحمراء، فيما تنظر الفتاة إلى الجانب أو إلى الخلف. ربما تحن إلى الماضى وتتمنى لو عاد بها الزمان إلى ما فات ومضى، إلى محطة بعينها لتسلك مسارًا آخر غير الذي اختارت، وهو ما يعززه الإهداء الذي جاء “إلى هؤلاء الذين أخذهم الحلم لأقدار أخرى”.

ضريح لينين في الساحة الحمراء

الرواية في بدايتها وتطور أحداثها وعلاقات شخوصها هادئة إلى حد كبير إلا من بركان 19 أغسطس الذي يثير غليانًا في الأعماق لا يدري به أحد حتى يفاجئك بفورته، وكما يبدو فإن التيمة الرئيسية هنا هي تيمة البقاء.

تتعدد مرايا سرد الهوية والبقاء بين طبقات زيف الشخوص وزيف الوطن المُنتَمى إليه كما تحمل بعض الإسقاطات والنقد السياسي. يرتدي بطلا الرواية عبر الصفحات قناع الزيف باقتدار راضيين بحياة تخفّي تتوارى فيها رغباتهما الحقيقية بل وشخصياتهما وعواطفهما، أما الدافع في ذلك فمختلف بين خوف من الفقر والجوع، أو من القتل، أو حتى الشعور بأن كل شيء باهت وبلا جدوى في السياسة والحب مثل عمر ابن عمة كاملة الذي أحبها وتزوج غيرها، لكنه ظل وفيا لها يتخيلها في امرأته كلما جامعها.

سبيل نجاة

بين عبارتي “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان” و”لكن الإنسان بدون الخبز يموت“، يؤكد النص أن “كل شيء ممكن تحمله إلا الجوع“. يصور السارد اصطفاف البشر في انتظار الحصول على أي شيء يسد الرمق بعد أن تضرب فوضى الجوع البلاد عقب انقلاب أغسطس الفاشل وعموم الفساد. في مشهد فارق في تطور شخصية كاملة نراها في الطابور وسط الحشود تصطحب طفلها في عربته بانتظار الحصول على مساعدات غذائية، لكن الأيادي الحانقة تمتد إليها لطردها باعتبارها “أجنبية” لاختلاف ملامحها فهي تحمل في جيناتها عرق مصري صعيدي لأبيها. تدفعها النساء حتى تسقط بالعربة وفيها “صادق” فوق الثلج الأسود. وقتها تقرر كاملة البقاء بأي ثمن، وإن باعت ما لديها من أثاث، وإن فرطت في أوسمة جدها العسكرية. لم تجد غضاضة في الوقوف بجوار المترو في الشارع تبيع كل ما تتحصل عليه يداها. هكذا صعدت السلم من أسفله.

ليس الجوع بالأمر الهين كما يخبرنا هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية إذ يأتي الغذاء ضمن حزمة الاحتياجات الفسيولوجية الأساسية في قاعدة الهرم إلى جانب الماء والهواء والنوم والإخراج والجماع. حين يضرب الجوع أو تحل الهزيمة الساحقة، تتجه أصابع الاتهام إلى كل شيء، يُلعن الوطن ويهرع العجائز إلى الإله قائلين: “لقد نسينا الله فنسانا الله أيضا“. هذا اللجوء إلى الركن الشديد نراه يتجلى في إزاحة تمثال دزيرجنسكي، رمز الإعدامات والإرهاب الأحمر، والمطالبة بوضع صليب كبير مكانه بعد فقدان اليقين في الشيوعية.

لا تؤمن كاملة بإله فكما جاء على لسانها (ص89): “تقلصت الأديان ودمجت الآلهة في إله واحد هو الورقة الخضراء فئة المائة دولار“. من أجل الورقة الخضراء، انتقلت إلى وطنها الثاني مصر وعملت مع المافيا الحمراء في السياحة والاستيراد وتوريد العمالة وتهريب الآثار وربما السلاح أيضا. بدأت مغامراتها مبكرا حتى بلغت القمة وهي في الرابعة والعشرين من العمر، وصارت تُعرف بـ”غول شرم الشيخ” السياحي لثروتها الطائلة، لكنها ظلت تخاف الفقر الذي قد يجعلها تقبل دعوة مسن على العشاء في بيته.

عقدة كليوباترا

في سرد متسلسل عدا القليل من تقنية الاسترجاع الفني (الفلاش باك)، يسرد الراوي العليم بانوراما لأحداث الرواية ومحورها كاملة وتحولاتها وعلاقتها بزوجها وحبيبها رسلان وابن عمتها عمر بالإضافة إلى آخرين في 26 فصل جاءوا في 240 صفحة عدا مقطعين في فصلين أتيا على لسان كاملة وعمر.

تتجلى عقدة كليوباترا في شخصية كاملة، امرأة السلطة والنفوذ، الآمرة الناهية بجاهها وجمالها تأمر فتطاع حتى وهي لا ترتدي شيئا إلا “روبها” الذهبي الحريري حافية القدمين. تعيش ملكة متربعة فوق العرش، مستمتعة بفرض سطوتها على الرجال، ولا تجد منهم من هو جدير بها دون رسلان الذي ربما غذى فيها هذه النزعة أيضا حين كان يداعبها قائلا: “أخلي سبيلي يا كليوباترا”. حتى أنجل نفسه زوجها الثاني لم تر أنه يستحقها وتزوجته احتياجا أو توافقا ليس إلا. يقول الراوي (ص143) “كانت تعلم أنه ليس فارسا ولا نبيلا، ولكن الحياة علمتها أن الفرسان يموتون في الحروب، والشرفاء يموتون جوعا أو في السجون”.

في معظم الرواية، نجد كاملة نموذجا لامرأة حادة الطباع يصعب ترويضها، تحاول أن تكون كاملة بنفسها، على أنها لم تكن دوما بهذا الغرور بل يمكن استقراء أنها ارتدت قناعا مزيفا من الصلابة عاشت به طيلة السنين لتتجاوز مرارة الفقد فقد شكل رحيل والدها عنها وأمها طفولتها، كما شكل رحيل رسلان عنها وهي حُبلى حياتها. تعلمت من أمها التي رددت بمرارة “لا يهم نحن أقوياء” قسوة رعاية طفل بمفردها، كيف تدر دخلا ولو بسيطا تعيش به وابنها إلى جانب معاش زوجها الذي صرفته لها الدولة باعتباره في عداد الموتى في أفغانستان.

لكن ما إن تلتقي برجلها الأول مجددا بعد ربع قرن من افتراقهما دون سبر أغوار لغز حياته بعيدا عنها وتحولاته في الغياب حتى تخلع زيفها شيئا فشيئا. نجد المرأة الحديدية التي لم تهزمها الظروف والتحولات تستسلم تماما لحب عمرها، تصير حبيسة الظلام، مطيعة وكأنها في معتقل دون أن تفكر للحظة حتى في الهروب. وعند رحيله ثانية، لا تجد لها ملجأ سوى العلاج النفسي بعد أن كانت تستقوي بالخمر على مصاعب الحياة، وكأن الصلابة والاستغناء التي تظهر بهما المرأة ما هما إلا انعكاس لغياب الرجل في حياتها.

تتجلى تيمة البقاء في تحولات شخصية رسلان الذي أعادت تجربة الأسر في أفغانستان تشكيله من جديد فتحول من رجل حنون هادئ قليل الحديث إلى أبو حمزة الوليد المدرج على قوائم الإرهاب. هو في الأصل لم يكن مهيأ لأن يكون محاربا ولم يتلق التدريب الكافي أيضا، تعرض للتعذيب وبقيت آثاره معه، أما طوق نجاته من الموت فكان إسلامه، وهو دفة تحوله أيضا إلى نقيض ما كان يحارب. يقول (ص30): “في الحرب لا أحد يفكر في الموت، الكل يفكر في الحياة، ومن هنا تأتي القوة“.

فكر في الحياة إذن فصار إلى ما صار إليه. الذي نعرفه أن تحول رسلان في بدايته على الأقل كان من أجل البقاء، لكن هل ترسخت لديه القناعة مع الوقت بصحة ما يفعل ومدى مشروعيته أم استمر في جلباب الزيف الذي ارتداه ابتداء أم ربما اقتنع لمدة 25 عاما ثم ارتد لأصله وجذوره وأفكاره الأولى إثر امتداد الجهاد المزعوم إلى العالم بعد أفغانستان والشيشان في شبكة عنقودية لا تعرف نهاية؟ يخبرنا السارد أن رسلان وبعد سنوات عديدة من عدم الاتصال بزوجته وابنه يقرر العودة إليهما بعد أن صار ثريا بفضل أعمال غير مشروعة. وعند اللقاء تخور قواه فتندفع حقيقته التي طمسها الزمان ويتنفس المحب بداخله وإن ملأته التشوهات والندوب التي يصعب إخفاؤها ليلا فيخشاه من يتعرض لها.

لا يخبرنا الراوي العليم أكثر من ذلك عن رسلان، لا يخبرنا عن قناعاته، عن مشاعره، ربما شخصيته لم تُبنَ جيدا بالمقارنة بكاملة وهو ما يجعل الرواية رواية الشخصية الواحدة كاملة وفقط، ربما كان من الأوقع أن يأتي النص بصوتها هي، حينها لن نطالبها بشرح لما آلت إليه حياة رسلان.

زيف الوطن

تجلى الزيف أيضا في الوطن فإن انتقلت كاملة إلى بلدها الثاني مصر هربا من تفكك الأمس وفقدان الوطن السوفيتي الذي لم يعد له وجود إلا في ذاكرتها وطمعا في غد أفضل، فقد سافرت بالجسد فقط أما وطنها الأصلي فعاش فيها بعاداته وثقافته ولغته وأفلامه ونكاته وما برحت دوائر الروس في القاهرة حتى طعامه كانت تصنعه لها إحدى بناته. يصف السارد إحساس كاملة والشتات الذي تسرب إلى “ابنة دولة الانهيار” قائلا (ص170): “المدن مثل التربة لا بد أن تنمو فيها حتى تثمر، أما أن تأتي مثل النبات المتسلق فسيكون قطعك سهلا”.

ترتحل الرواية بقارئها إلى الامبراطورية السوفيتية ليعيش أجواءها بامتياز في سفر عبر الزمان يتجلى في  التعبيرات والملابس والرقصات والفلكلور الشعبي السوفيتي حتى ألعاب الكوتشينة، فضلا عن الأكلات (خبز الكارافاي) والمشروبات والفنون (مسرحي البولشوي وجوركي مثلا) والطبيعة والجغرافيا من جبال ومدن وشوارع وساحات عامة ومباني وتماثيل وسيارات (اللادا والفولجا) والتفاصيل اليومية ومنها محطات المترو والمتاجر حتى محلات “البريوسوكا” في موسكو التي تشبه محلات السوق الحرة وكانت متاحة للأجانب فقط فيها بضائع لا يستطيع المواطن الروسي العادي التحصل عليها إلا إن كان من أصحاب النفوذ.

تنتمي الرواية إلى الأدب الواقعي وفيها نقد أيديولوجي وفكري للاتحاد السوفيتي ومصر تحديدا الجماعات الإسلامية المشتغلة بالسياسة بدءا بالإخوان المسلمين وحتى تنظيم الدولة. بعض القواسم المشتركة يجدها القارئ المصري للرواية بين بلاده اليوم وما جرى في الاتحاد السوفيتي في التسعينيات من بيع أصول وثروات. تعبر الرواية عن موقف ورسالة صاغتها الكاتبة بإبداع هادئ سلس دون تطرف. أنهت ضحى عاصي دراستها الجامعية في الاتحاد السوفيتي وعاصرت بنفسها 19 أغسطس هناك، أما والدها فهو الشيخ مصطفى عاصي، أحد مؤسسي حزب التجمع ورمز من رموز اليسار المصري. تأتي هذه الرواية الثالثة لها بعد “القاهرة 104″ و”غيوم فرنسية” بالإضافة إلى ثلاث كتب أخرى.

وفي حوار بسيط ذي مغزى يثير السؤال وقابل للتكرار في أماكن عدة، يظهر نقد الكاتبة للنظام المنهار ومن على شاكلته. الحوار يدور بين كاملة الصغيرة وأمها عن توزيع بيوت ريفية وبعض الأراضي على السكان يسميها النظام عطايا أو هبات. تتساءل كاملة ببراءة الأطفال: لماذا يعطوننا هبة؟ هل نحن فقراء؟ وتجيب الأم: إن الدولة عندما تعطي للمواطن شيئا فهذا لا يعني أنه فقير، إنها تعطينا حقنا مقابل العمل والإنتاج. وترد الطفلة: إذن لماذا يسمونها “هبة”؟

تتجدد رواية الحدث السوفيتي في تاريخين آخرين في مصر هذه المرة هما يناير 2011 ويوليو 2013، في المدن التي تفقد بريقها في الثورات وتفرغ من كل شيء. تواجه كاملة مصيرا متقلبا بعد عهد خبرته وتحالفت فيه مع الفاسدين وكبرت قلعتها وسطع نجمها قبل أن يتهاوى وينهدم ما بنت وكأن لعنة الثورات تطاردها أينما ذهبت، وكأن قدرها هو سقوط كل وطن ألفته، لكنها لم تسمح لأن تتحول إلى امرأة قليلة الحيلة ولو فعلت الأفاعيل. يظل “من الجميل أن يكون لك وطنان إذا انهار أحدهما أنقذك الآخر” كما تخبرها إحدى صديقاتها (ص59) فكلما ضاق بها وطن لثورة أو انقلاب غادرت إلى الآخر حتى ينتهي بها الحال منقسمة بينهما صيفا في روسيا وشتاء في مصر.

ينتهي النص بإشارة إلى رواية جورج أورويل الأخيرة “1984” ربما في إسقاط على الدولة البوليسية التي ستقوم بعد ذلك في مصر، وربما إسقاط على اعتقال البطل الذي دفعته كرامته إلى العصيان سرا على نظام حاكم يشوه التاريخ لأغراضه الخاصة، خاصة وأن السارد ذكر أن صادق رسلان جاسانوف كان مشاركا في الثورة المصرية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية وصحفية مصرية 

مقالات من نفس القسم