مائدة السماء

آنا إيريس سيمون
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

آنا إيريس سيمون

ترجمة: أحمد عويضة

المرة الأولى التي أعلنت فيها عدم إيماني بالرب كنت في الصف الثاني الابتدائي، أثناء زيارة أحد الكتاب المحليين لمدرستي. حدثنا بإيمانٍ شديد وببطء أشد، كما لو أنه يرانا حمقى بدلًا من أن يرانا صغارًا، ثم سألنا ذلك الرجل الصالح: من يؤمن بوجود الرب؟ ورفع الجميع أذرعهم إلا أنا. لقد فعل ذلك بالتأكيد لأنه اعتقد أن نسبة غير المؤمنين ستكون أعلى، ولن يتلون وجه أحدهم ليصبح أحمرًا كالطماطم، كما صار معي في النهاية. من أجل ذلك، بالإضافة إلى انحيازه التأكيدي، كما أفترضُ، تحدث في كتابه الأخير عن فوائد الإلحاد للمجتمعات الغربية وكيف أن التقدم كان ممكنًا بسببه فقط.

عرفتُ ذلك فيما بعد، في حينها لم أعرف سوى أنني وحيدٌ في إلحادي. حتى آلبارو، الذي اعترف لي بشكوكه سرًا، رفع يده. أظن أن كوني ونوال فقط من نخرج من الفصل عندما يصل كونشي، مدرس الدين، جعل آلبارو يشعر بأنني الشخص المناسب ليحكي له أنه رغم ذهابه إلى مائدة السماء وتناوله، فإن الإيمان بالرب يشق عليه لأنه لم يره قط. وأضاف أنه رغم عدم رؤيته لإنيستا أيضًا إلا أنه آمن به، كيف لا وقد أحرز هدف المونديال في العام السابق.

الحقيقة هي أنني في ذلك اليوم شعرت بالحرج الشديد، كنت أعرف بالفعل أنني ونوال الوحيدان الذان يذهبان إلى مكتب المدير عندما تأتي ساعة الدين الأسبوعية، إلا أنني لم ألحظ قط أنها مؤمنة، ليس بنفس الدين، لكن بالرب. وهكذا قررت في العام التالي، في السنة الثالثة الابتدائية، أن أشرع في الإيمان، مما أثار استياء والديّ الذين يريان ما يراه ذلك الكاتب.

وجب عليّ أن أتدبر حالي، لأن باقي الأطفال يسبقونني بعامين. ورغم أنني لم أُعَمَد وذهابي إلى المناولة مشكوك فيه، إلا أنني انضممت إلى مدرسة الأحد بعد الظهيرة، مثل كل أطفال صفي باستثناء نوال، التي كان إلهها – كما علمت – يُسمى الله. وخلاف أغلب رفاقي، الذين يعترفون دون حياء أنهم إن أرادوا القيام بالمناولة فإنما يفعلون ذلك من أجل الهدايا، تحولتُ أنا إلى متدين صغير.

أكثر ما أثار إعجابي هو حيوات القديسين، التي استفسر عنها من الكاهن الذي يأتي يوم جمعةٍ في الشهر لتعليمنا، ولأنها حيوات لا تثير الحسد مثل حيوات أبطال قصص “مارفل” المصورة التي يشتريها أبي. واكتشفت أيضًا المظهر الحقيقي للملائكة، وتساءلت عن سبب الإصرار على رسمهم كأطفالٍ صغار بشعرٍ أشقر مجعد قليلًا، إذا كانت أشكالهم الحقيقية مثلما في “المتحولون” أفضل كثيرًا.  

بدأت في الصلاة والذهاب إلى القداس مع جدي، المؤمن الوحيد في عائلتنا. قالت جدتي، زوجته، إنها تؤمن بالمسيح لكنها لا تؤمن بالقساوسة الذين لا يهمهم سوى تمرير صندوق الإحسان بين الحاضرين للبقاء مع العاهرات. وجدايّ الآخران، والديّ أبي، ميتان، لذلك لم أعرف إن كانا مؤمنين قبل أن يقرع ناقوس الموت في كنيسة القديس بطرس أم لا.

وعندما حان الوقت طلبتُ من والديّ أن يتركاني أتعمد وأقوم بالمناولة. أجاباني بأن أفعل ما أشاء، لكن لن تُقام احتفالات، سنذهب لتناول الطعام سويًا في مطعم استريمينيو كما نفعل في آخر أحد من كل شهر فقط. وزادا بأن محو ذلك عندما أتخلى عن الإيمان سيكون شاقًا للغاية. وهكذا جرى الأمر، بعد عامين، ودورتين للتعليم المسيحي. عشاء في استريمينيو، ولم أصل لمعرفة صعوبة المحو قط.

خلال الأيام التالية لمناولتي، دعونا إلى اجتماع في الأبرشية وعرضوا علينا إمكانية الذهاب إلى معسكر سانتياجو. نحن، الصغار، سنقوم ببعض الأعمال الصغيرة في كل مرحلة في الصباحات، ثم يأخذوننا في منتصف النهار لنعود إلى قرية صغيرة سيقام بها مركز العمليات. وسينتهي بنا المطاف في سانتياجو حيث سيسلمونا كومبوستيلا[1] خاصة بالأطفال.  

وفي وقت المغادرة، سألتني أمي – التي كانت سترافقني- إن كنتُ أريد الذهاب، لكني هززت رأسي بالنفي. أُدركُ أن جدي لم يتبق له الكثير من الوقت، لأنني صغير ولست أحمقًا، كما ظنّ ذلك الكاتب الذي تحدث إلينا كأننا عديمي النفع وجعلني أؤمن بالرب بدافع الخجل.

عندما علمت جدتي، التي رغم انعدام ثقتها بالكهنة، إلا أنها صارت تصلي المسابح وتذهب إلى القداس بالنيابة عن جدّي ومن باب الاحتياط، أخبرتني ألا أقلق. إذ أنها وإن كانت أول امرأة تستخرج بطاقة تحقيق شخصية لنفسها، فقد كان ذلك كي تأخذ طفلها لزيارة القديس. هكذا رسمنا خطة احترافية تتضمن أخذ مفاتيح سيارة والدي الأوبل آسترا خلسة، وطباعة خريطة الطريق – الذي يستغرق أكثر من ثلاث ساعات بقليل- في مكتبة القرية، وإخبار جدّي. الخطوة الأخيرة هي الأكثر تعقيدًا، حيث يجب أن نحزم، بالإضافة إلى الكثير من الحبوب والبخاخات، الكرسي المتحرك. لكننا فعلناها قبل أن يعود أبي وأمي من العمل واتجهنا إلى ضريح الرسول، وتركنا لهم ورقة صغيرة نخبرهما فيها بالحقيقة ونطلب منهما ألا يقلقا أو يغضبا.

اقتضت خطتنا أن نعود في اليوم التالي، يوم الثلاثاء، لأن موعد جلسة العلاج الكيماوي لجدي يوم الأربعاء، جلس جدّي في المقعد المجاور للسائق سعيدًا للغاية، صفف شعره للمرة الأولى منذ أشهرٍ التي ووضع عطر بروميل. استمعنا في ذهابنا إلى رافاييل فارينا، حيث تحصلت جدتي على اسطوانة له، صنعتها لها ابنة عمي لاورا التي لديها برنامج eMule وأحضرتها لنا لإضفاء بهجة على الرحلة. وعندما توقفت الأوبل آسترا كنّا نستمع إليه وهو يغني

«Luna luna lunera, alumbra los luceros, pasa la noche el vela, en el tablao del cielo»

«أيها القمر، الذي يضيء النجوم، ويقضي الليل شمعة، على مائدة السماء»

تعطلت السيارة أثناء مرورنا بـ إل بيرثو، ووجب أن تسحبنا قاطرة لنعود إلى القرية. تعطلت السيارة التي لم تعد تصلح للسير كما حذرت أمي مرارًا منذ أشهر. 

تلك كانت المرة الأخيرة التي أراه فيها، حيث كلف ذلك الإحتيال ما هو أكثر من مجرد سيارة. في الليلة الأخيرة لجدي الذي غادر دون أن يرى سانتياجو، ودون أن يتلقى التوبيخ الذي تلقيناه أنا وجدتي من أجل هروبنا الفاشل، ودون أن يذهب إلى جلسة العلاج الكيماوي يوم الأربعاء. وأنا أشم رائحة بروميل يوم دفنه، كانت المرة الثانية التي أقول فيها علنًا أنني لا أؤمن بالرب. لم يجب أن يأخذه بتلك السرعة وهو على بعد خطوة من رؤية سانتياجو، قلت ذلك لجدة آماليا، صديقة جدتي التي كانت تعطيني حلوى ريسبيرال دائمًا عند مغادرتي للقداس. وردّت بألا أكون أحمقًا وأندفع.

أصغيتُ إليها، ورغم أن استعادة إيماني كانت أمرًا شاقًا، والأكثر مشقة كان إنهاء الرحلة التي توقفت في إل بيرثو. أنهيتها بعد عدة سنوات، بعد موت جدتي مباشرة، مصففًا شعري ومتعطرًا بالبروميل، مما أثار فزع باقي الحجاج. وعندما استشعرت ساحة أوبرادويرو عن بعدٍ، بدأت في غناء  « Luna luna lunera, alumbra los luceros, pasa la noche el vela, en el tablao del cielo»

………………………………….

[1] كومبوستيلا (Compostela) هي وثيقة بمثابة الشهادة بأن حاملها قد قام برحلة الحج إلى سانتياجو دي كومبوستيلا.

مقالات من نفس القسم