ليس بهذه البساطة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاميد اليوسفي

دخل عبد الله إلى المنزل، وتوجّه مباشرة إلى الغرفة.. جلس وشدّ رأسه بين يديه.. سألته زوجته:

ـ ما بك ياعبد الله؟ عدت باكرا!.. وتبدو واجما ومهموما على غير عادتك؟
طلب منها أن تتركه الآن.. سيحكي لها فيما بعد عن حاله.. وبرر ذلك بأنه يشعر بصداع قوي في الرأس، ويحتاج إلى قسط من الراحة…
خرجت وعادت من المطبخ بقطعة خيار قسمتها على الطول، ووضعتها فوق جبهته، وشدتها بقطعة قماش أبيض.. أحس ببرد خفيف يتسرب إلى عروق رأسه.. تمدد وأغمض عينيه، وتظاهر بالنوم.. جلست بجانبه بعض الوقت، ثم عادت إلى عملها في المطبخ.. وبقيت تُطلّ عليه بين الحين والآخر..
لم يُصدق ما سمعه في السوق، وما شاهده مع ثلة من أصدقائه!.. الفيديو صحيح، ومنشور على صفحة الشيخ في الفايسبوك منذ أكثر من أسبوع، ولم يُحذف، ولم يُكذبه أحد..
بعد كل هذه السنين الطويلة قال الشيخ بأنه تراجع عن خطأ ارتكبه في حياته الدعوية عندما كان متشددا، فحرّم الغناء.. قال بأن الغناء إذا كان بالعربية سيستمع إليه حتى لو كان غزلا وبصوت امرأة.. وضرب مثلا بأم كلثوم وكاظم الساهر..
ارتسمت صور من الطفولة أمام عيني عبد الله قبل أن يسمع أول شريط كاسيت للشيخ.. كان طفلا مشاغبا يحب الرقص والموسيقى والغناء والرسم.. رأى نفسه يغني ويرقص، ويُردد ما حفظه عن الكبار مع أقرانه في الأسرة والحي والمدرسة.. حتى عندما سقط في الجامعة والتحق بالسوق ظل بشوشا يطرب للأصوات الجميلة، ويُردد معها الأغاني في الأشرطة والمذياع والتلفاز رغم التزامه الديني..
ثم جاء اليوم المشئوم.. يوم ناوله صديق في السوق شريطا في الخفاء.. أخذه معه إلى البيت، واستمع إليه أكثر من عشر مرات.. لم يُصدق أذنيه بأن كل ما استمتع به حتى الآن من غناء وطرب أورثه أوزارا ثقيلة من الذنوب والمعاصي لا تنفع مع محوها مئات الصلوات في اليوم..
منذ ذلك الحين حرّم على نفسه المذياع والتلفاز والسينما، وكل ما له صلة بالرقص والغناء والتمثيل والموسيقى والرسم..
وبسبب ذلك خاصم أهله وأسرته وإخوته.. لم يُقم عرسا مثل بقية الشباب يوم زفافه.. اكتفى بالسماع إلى شيء من الذكر الحكيم، وقراءة الفاتحة، وتناول طعام الكسكس في العشاء، وبعدها تفرق الجمع، وخلا بزوجته.. أحسّت أمه وإخوته كأنهم يحضرون جنازة وليس عُرسا..
حتى اسمه في السوق تغيّر، وناداه الناس أبا عبيدة بدل عبد الله.. توالت الأيام، وتوالى معها التشدد حتى ضاقت به الدنيا، وتمنى لو هاجر إلى الشرق للجهاد في سبيل الله..
عاش حياة جافة قاتمة بلا موسيقى ولا غناء.. غزت نفسه صور سوداء أقرب إلى الهلوسة منها إلى الواقع.. تخيل نفسه المؤمن الطاهر الوحيد، وكل ما حوله كفر وضلال وظلام يحتاج إلى ظهور عشرات أو مئات الأنبياء لمقاومته..
الآن أحسٍّ بأن العالم الذي ظل يبنيه كل هذه السنوات انهار فوق رأسه..  
لم يستطع حبس الكلمات المجروحة في حلقه، فصرخ بأعلى صوته:
ـ ليس بهذه البساطة.. لا يا شيخ؟! الله يخرب بيتك؟! من سيدفع الحساب.. حساب كل هذه السنين التي حوّلت حياتنا إلى جحيم؟!

مراكش 22 يوليوز 2024 

مقالات من نفس القسم

علي الدكروري
تراب الحكايات
موقع الكتابة

المارد

amr al batta
تراب الحكايات
موقع الكتابة

الهانم