فراشة بيضاء

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

 

عندما وجدت أننى لا أفعل شيئًا نزلت من البيت, لكن لا أعرف إلى أين, سرتُ فوق الأرصفة بلا هدف محاولًا تفادي الإصطدام بالذين يمرون بجانبي, لا أريد الاصطدام بأي منهم, ربما لَكزك أحدُهم بذراعه فلا يلتفت إليك معتذرًا,  فقط يستمرُّ فى سيره كأن شيئًا لم يكن,  ربما داسَ أحدهم طرفَ حذائك فتسبب في خلعه فلا يعرك اهتمامًا أيضًا.

رفعتُ يدي اليسرى كي أنظر إلى ساعتي, لم تكن موجودة, وضعت اليد اليمنى فى جيبى لأخرج هاتفيَ المحمول, كان جيبي فارغًا,  تنهدتُ وواصلت السير مرّة أخرى , لا أعرف إلى أين ولا كم الساعة, سخرتُ من حرصي على معرفة الوقت في يومٍ ككل الأيام التي تكرر نفسها منذ أمد بعيد,  حاولتُ أن أسأل أحد المارة عن الساعة لم يرد علىَّ, سألت غيره وغيره,  يبدو أنهم لا يرونني ولا يسمعونني,  توقفتُ, أردت عبور الطريق إلى الجانب الآخر , السيارات تمر مسرعة, تدهس في طريقها كل من يحاول المرور,  لم يكن ما يحدث يثير اهتمامهم , كانوا ينظرون إلى الدماء التي تملأ الطرقات كأنها شيء عادي ,  حتى الذين تدهسهم السيارات يتحولون فى اللحظة ذاتها إلى أشباح صامتة، تنهض لتواصل السير إلى الجهة الأخرى , نظرت إلى اليسار، أحاول اقتناص لحظة آمنة يمكننى فيها عبور الطريق , اكتشفت أنني لا أخشى التحوّل مثلهم إلى شبح , سيترك جثته تنزف, ويواصل السير, تساوت عندي الحياة والموت,  تُرى هل هناك فرق؟ ما الجديد في أن نحيا وما الذي لم نعشه في الموت بعد؟

امتلأ الهواء حولي فجأة برائحة المسك , إلتفتُّ ، فرأيتُها عن يميني واقفةً إلى جواري , كانت بلوزتها الزرقاء مزدانة بوردات تحيط بعنقها الأبيض، تلتمع من تحت ثنياته قطرات عطرها الممتزج بنداها, تضع فوقها سترة من الصوف الناعم  , وتعلّق فوق ذراعها الأيمن الممدود حقيبةً صغيرة , قرأتُ في عينيها الحيرة والخوف والتساؤل كأنها تبحث عمن يأخذ بيدها إلى الجانب الآخر , وسط هذا الجنون , تلاقت أعيننا، ولا أدري ما الذي حدث بعدها , لا أذكر إذا ما كنا قد تحدثنا سويًا أم لا , ولكني موقن أنّي أتحدث معها كثيرًا منذ زمن بعيد , اقتربت يدي اليمنى من يدها اليسرى , أمسكت بها , وعبرنا الطريق معًا فتوقفت السيارات واختفى ضجيجها ! , متى وُجدَت تلك الأشجار الخضراء الكثيفة التى تسكنها عصافير لا حصر لها  ؟ , نظرت إلى جذوعها فبدا أنها هنا منذ زمن بعيد , متى اختفت الدماء لتلتمع الطرقات تحت أشعةُ شمس حانية ؟

عندما وصلنا إلى الضفة الأخرى , توقفنا أمام محل للعاديات القديمة , امتلأت عينيها فرحةً وهي تنظر إلى الجراموفون القديم ,  قالت إنها عاشقة للأغنيات القديمة ,  ضغطتُ فوق كفها الرقيق برفق , همستُ في أذنها التى يتدلى منها قرط يتراقص في الهواء: ‘‘سأشتريه لك’’..

قالت:‘‘وهل ستستمع معي إلى تلك الأغنيات؟’’

نظرت إليها مبتسمًا :‘‘ نعم سأستمع إليها معك’’ .

 

من بين الأشياء الكثيرة التى يعجّ بها المكان عثّرتُ على روحي القديمة , روحى التى تُشبِه فراشةً بيضاء , كالفراشات التى طاردتها كثيرًا فى الحقول المحيطة بمنزلنا القديم , الحقول التي ستتحول بعد سنوات إلى بنايات خرسانية متلاصقه , نظرت إلى روحى التى ينبعث النور من أجنحتها , بُحتُ إليها صامتًا بافتقادي لها , بغربتي عني منذ أن غادرتني , لا أذكر متى , لا أعرف متى ضاعت مني , ربما سقطَت مني ذات حزن فوق رصيف بارد , ربما عثر عليها أحدهم وأتى بها إلى هنا , انسابت الدموع فوق خدىَّ , شعرتُ بكفها الناعم يمر فوق وجهي ويكفكف دموعي , عندما أمسكت بالفراشة البيضاء ومدت إلىَّ كفيها خرج النور من أجنحتها , فشعرت به متسللاً إلى صدري , عندها، فرّ طائرٌ أسود من بين ضلوعى , رأيته يعلو مرتعدًا ليختفى خلف البنايات البعيدة!

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون