مصطفى .. فصل من رواية حب الرمان لـ سماء زيدان

مصطفى .. فصل من رواية حب الرمان لـ سماء زيدان
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سماء زيدان 

 

حدثني عن الأحداث التي تخلق منك رجلا، قبل الأوان، تلك اللحظة الفارقة التي لا تعود بعدها كما كنت، ينجرح صوتك ويتحشرج، وأنت تخط بالأقلام السوداء شاربك، أن تسابق الأيام وتحمل فوق ظهرك حمل الرجال، وتملأ صدرك بالزفير المكتوم، ثمرة غضة يافعة، لا رحيق بعد ولا رائحة، تسقط قبل أوانها، ربما إن حالفها الحظ تنضج حين السقوط، وتكتمل وحدها، وربما تذوي يابسة.

كانت طفولتي من ذلك النوع، الذي يصعب نسيانه، لم تكن بلهاء سعيدة تمر أيامها بلا أثر جرح غائر، بل كان كل يوم هو يوم جرح، وكل جرح يترك ندبة، يصعب على الروح ابتلاعها.

تلفحني الحسرة، وأنا في شبابي، فأشعر أنني كهل عجوز، روحي تشيخ بالذكرى، كلما تحسست تلك الندب، عادت إليها الحياة، ورجعت طازجة.

تفننت الأقدار في إيذائي، حتى كادت تخلق مني وحشا، أو مجرما، لولا أن ذات الأقدار هدمت فوق رأسي بنيانا، اعتليت أنقاضه فنجوت.

 

 

ويبدو أن القدر استسلم لكفاحي المضني، وربما خجل من عنادي، وإصراري لما استسلمت لقبضته، ورضيت عنه، فكافأني بتركي، بعدما تيقن أن ندب روحي ندب لن يشفيها زمن، ولن تعفو عنها ذاكرة.

كان أبي طرازا من الرجال غريبا، اشتهر في عائلته بعناده، وتعصبه لرأيه ولو كان على خطأ، رغم طيبة قلبه وسخائه، يحزن إن أجبر على التراجع عن رأيه، وإن بدا له أنه على خطأ، ولا يحزن إن فاتته منفعة أو غنيمة، ما دام فعل ما اشتهت نفسه ودله عقله.

إن رأسي ليست كرأس البشر، وعقلي سابق لعقولهم، وكأنني أتيت من الفضاء، بيني وبين إدراككم لي عشرات، بل مئات السنوات، جمجمتي أكبر من أدمغتكم الصغيرة، أغلقها الله على عقل متوهج بالذكاء والفطنة.

وإذا أخفق وكثيرا ما كان يحدث، قال إن الحظ يعاندني، والقدر يتربص بي، ويضرب حماره بباطن حذائه ذي الكعب لينطلق به نحو خضرة أرضه، يتمرغ فيها بعينيه فتُسرِّي عنه خسارته وإن عظُمت.

يزعم أن لقلبه في اختيار الناس، والثقة فيهم دليلا، إرثا ورثه عن نسل أمه، نسل مختار من القدر، عائلتها المختارة كانت تقرأ الوجوه، وتعرف الأنساب، واشتهرت بين العائلات بذلك، وصيتتها الحوادث والمصادفات.

يكره ويحب لا لسبب إلا وجه من أمامه، وكيف يراه في يومه، أشعر بالرثاء لك يا أبي، وبالغضب منك.

تنظر عيناي الصغيرتان لجبهته العريضة، وقد تحولت جلدتها إلى غضون دقيقة متقاربة، تذكرني ببشرة ثمرة الجميز المنكمشة الجافة، ألتقط الثمر من تحت أقدام شجرة الجميز خلف الدار، وآتي به إلى أمي، وأنا عائد من الكُتاب، مقهورا من شيخي، مصابا في كبريائي، بعد أن ضربني بعصاه ضربات حارة، ألهبت باطن قدمي، كانت أمي تطعمني الثمرات، وتربت على صدري، وتردد لي أبوك يريدك شيخا معمما، ليفرح بك ويتفاخر، وتزيدني قطعا من السكر أتلهى بها، فيسكن كبريائي.

في عامه الأخير، كان يعود بعد غياب ليال، فإذا به يجلس أمام الدار، يفترش مصطبته واجما مقطب الجبين، حتى إذا دخل الدار ودخل غرفته، ارتفع صوته قبل أن يغلق الباب، يتوعد كل من يبدي حركة أو صخبا يعكر صفو تأملاته وصلواته وتسبيحاته وخلوته التي قد تمتد لأيام.

يفترش الأرض مسندا ظهره إلى كنبة خشبية بغرفته، أراقبه من خلف الباب، من ثقب بين ألواح خشب الباب المتراصة، المتباعدة من برد الشتاء، يجلس مفترشا ملاءته البيضاء، أمامه منضدته الخشبية قصيرة الأرجل المستديرة نسميها طبلية، سيقانها قصيرة نحيلة كسيقاني الصغيرة، وأنا أتطاول لأنظر من ثقب أكبر يعلو رأسي.

يفرد فوق الطبلية أوراق كتب، صفراء مبعثرة، وشموعا ومسبحة، وزجاجات زيوته العطرية، وزجاجات يملأها بماء مقروء عليه من شيوخ طريقته، من يسعى إليهم، وبين يديهم في مواقيته الثابتة، يقطر لنا منها في أعيننا، كل صباح جمعة يكون فيها بيننا قبل الصلاة، وكنت أشعر بها كماء النار في عيني، وأظل أتقافز حتى تغسل عيناي الدموع.

أسكن بالباب لساعات طوال، وربما غلبني النوم واقفا، وأنا أستمع إلى همس صلواته، حتى إذا فرغ من جلسته الطويلة، وانفتح الباب، خرج منه متهدلا، منهكا متهالكا، يمسح جبهته ورأسه بماء الورد، ويتمتمإنهم سادة.. إنهم سادة.

هناك خلف الدار، تحت شجرة الجميز العتيقة، أجلس وحدي، فقد ورثت عن أبي حب الوحدة ولذة التأمل، أجلس تحتها أقلب في الأرض نظراتي، حتي يغمر ظلها جسدي، فأرى أثر الظل في وجهي، وكأنما أنا ثمرة منها.

كانت قسوة أبي عليّ فقط، لا تعليل لها سوى فزعه عليّ، ورغبته في أن يعوض بي ما فاته من عز ووجاهة وسمعة وربما مال، كان رجلا كثير الهواجس، سريع التصديق لطيبةٍ في قلبه، جر بها على نفسه قسوة الحياة والناس، كان كتلة من الأوهام تقودها المشاعر، ترتدي جلبابا وقفطانا وعمامة، تلك العمامة التي كان يريد أن يلبسها لي، وكنت لم أتجاوز الخامسة بعد، وعمامته أكبر من رأسي، ربما في القياس فقط.

حين نسير في الطريق معا، يتخيل أن أيه ضحكة، أو همسة من عابر حولنا إنما نحن المقصودون بها، وربما كان محقا في ظنه.

تفتحت عيناي على هذا الأب وطباعه، وأمٍّ تجلس ساعات تدبر أمور الدار، من رعاية أطفالها، وطعام وخبيز، وخزين في المواسم، وتنظم أمور الخدم والطيور والبهائم، وكل ذلك لم يكن يملأ وحدتها، ولا يشفي فقدها الأنيس والرفيق، تشكو الوحدة وإن حضر أبي، أسمعها تشكو لأختها، وتقولكتب عليّ البخت القليل.

وكانت أختها تنفي عنها ذلك، وتدعو لها، وتنصحها بزيارة الأولياء والسيدة نفيسة، وكانت أمي تلح على أبي أن يأخذها إلى السيدة نفيسة للزيارة، مرة يرضى وكثيرا ما كان يرفض.

أقف أمام قبرك اليوم، في قريتنا يا أبي، أتيت لزيارتك، أقرأ لك الفاتحة وأترحم عليك، عفرت قدمي بترابك، هل تسمعني يا أبي؟

مضى من عمري خمسون عاما منذ أن رحلت، وما زلت أبكي بين يديك.. أبكي ذلك الطفل الذي تذوق قسوتك، ولم يتشرب كل حنانك..

توقظني رفسا وركلا، وأنا ابن عامين وثلاث، لأذهب للكتاب، وأحفظ آيات عجزت أنت عن حفظها، لماذا كنت تفعل ذلك يا أبي؟

أنسى ما أحفظ، ويضربني شيخي، وتعيدني إليه، وأنت تعتذر له عن بطء حفظي.. أنسى ما يلقي إلى أذني، ويكرره لساني، ولا أعيه بقلبي..

أبكي لأمي فتقول ليأنت البكر.. أنت ابن أبيك، وحامل لقب عائلته.

وترسل معي فطيرا وسكرا لشيخي، ليصبر عليّ، ويأخذ الشيخ العطية؛ فيخفف طريحتي من خمس إلى ثلاث خرزانات، تلهب الملعونة باطن قدمي، فأعجز عن الجري، واللعب مع الأولاد، تمر الساعات بطيئة كديدان الأرض، وأضع قدمي في الترعة لتبرد، وأداعب الماء بأصابعي، وأخلع عني عباءة الشيخ الصغير ولو لساعة، ويستكثر الأولاد ساعة صفائي، فيبلغون عني أبي وهو يعمل في أرضه، فيأتي إليّ ركضا، تاركا أيا كان ما في يده، يلقي فأسه وحين يراني على هذا الحال، وقد أتى مهرولا مهتاجا، ينظر إلى بشرر عينيه، ويضربني أمام الأولاد، ويضحكون.

هيبة الشيخ وعمامته ستضيع في اللعب.. يشكوني إلى أمي..

يقال إن شجرة الجميز شجرة عتيقة، استظل تحتها السيد المسيح، في رحلته إلى مصر، ويقال إنها شجرة مقدسة عند الفراعنة، كانت ثمار الجميز تلقى جافة، في المقابر الفرعونية، وأوراقها في توابيت الموتى، وقيل إن أوزيريس دفن في تابوت مصنوع من خشب الجميزلا يهمني نسبها، هي أمي التي طالما همست إليها، وأطعمتني وسكنْت بين أحضانها.

لماذا يا أبي كانت لهفتك تلك؟

لماذا يا أبي، وقد أصبحت يتيما، وأنا ابن عشر سنين، ذقت بعدها من الهوان، ما هو أعظم مما ذقته على يديك، أصبحت أبا لإخوتي بدلا منك، لو تركتني طفلا فقط لعشر سنوات، عشر سنوات من الطفولة كانت لتكفيني، كانت لتشبعني.

أبكيك يا أبي كأنك مت بالأمس، كانت أمي تدعوني بالمارد، كنت أعذبها ولا أدري لذلك سببا، كنت غاضبا، حتى ضربتني مرة بقبقابها الخشبي في رأسي، فانفجر الدم منه قانيا، وكتمته فاطمة بالبن وربطت لي رأسي، وترك الجرح ندبة ظاهرة كلما تحسستها تذكرت، كان ثمن ذهابي للسينما، وهروبي من ليلة عمل في المصنع، تركت وردية العمل لأرى السينما بصحبة أقراني، وأبلغ مشرفي في المصنع وجارنا أمي، فانتظرتني حتى قدمت للبيت، منتشيا سعيدا أعد الكذبات المتراصة، وانتظرت أمي حتى انتهيت من كل كذباتي، وانهالت بقبقابها على رأسي، أقراني، أقراني يا أبي، في عمر الخمسة عشر يغوونني، في الأعياد بالسينما والفشار والضحك.

أكملت دراستي متأخرا، بعد أن أنهيت تعليم إخوتي، رزقت أبنائي وأنا في الثلاثين، أكبرهم محمد سآتي به يوما إليك، أبنائي يا أبي ثلاثة، لن أغلق بابي دونهم، ولن أرحل عنهم مبكرا، تزوجت زينب ابنة خالي، وحب العمر، كانت تمد يدها الصغيرة، لتدفع عني ضربات خرطوم خالي، فيصيبها الخرطوم بضربات في يدها، وكان ذلك لا يوقفه عنا نحن الاثنين، انتظرتني طويلا، ثم زوجها خالي من أحد أصهاره الأثرياء، فمرضت طويلا وكادت أن تموت، فردها الزوج الملول، نافد الصبر إلى بيت أبيها، بعد عام واحد، ولولا ما حدث ما وافق خالي وزوجته، ولا زوجوها لي.

أين ذهب مالك؟ أين أنفقته؟ لماذا لم تترك لي شيئا منه؟

يقولون كان نابليون وجنوده أثناء تقهقرهم عن روسيا على الجليد يذبحون الخيل ليشربوا دماءها الدافئة حتى لا يتجمدوا من البرد، مع أن هذه الخيل كانت سلاحا ووسيلة عودة، الأرض قاسية، بطنها قاس وظهرها قاس، وجهها ترويه الدماء وبطنها لا يرقد فيه إلا الموتى.

درست التاريخ يا أبي لم أكن أريد العمامة، أنا أستاذ تاريخ يا أبي، أستاذ رسب سنوات حتى عرف ما يريد أن يتعلم.

يعني اسم جمال عبد الناصر للفلاحين الكثير، انحيازه لطبقة الفقراء، جعل عددا كبيرا من الفلاحين ملاكا للأراضى، لولاه ما استطعت أنا ولا إخوتي أن نكمل تعليمنا، لولا مجانية التعليم، والأفدنة الخمسة، التي حصل عليها خالي من الإصلاح الزراعى، من أبعادية حفيدة الخديو إسماعيل، التي كانت تمتلك ثلاثة آلاف فدان، جرى توزيعها على الفلاحين فى القرية، لولاها ما تمكنت أسرته ولا أسرتنا من مواصلة الحياة.

يبدو أن عبد الناصر، انتصر في أول عهده فقط، للطبقة الوسطى، التي ينتمي إليها – إلى جانب الفقراء – كونه أحد أبنائها، أبوه كان موظفا بسيطا في البريد، ما منحه درجة أعلى في السلم الاجتماعى، حتى لو كان في أدناها، مثلنا تماما أنا وفاطمة وإخوتي، وقف عودا صلبا وحده، عبد الناصر كان واحدا منا، ولذا كنا نهتف باسمه، ناصر يا عود الفل، كانت تلك شعرة بيضاء في ثوب أسود، وربما حالك السواد.

أشياء عظيمة حققتها الثورة، وأخطاء كبيرة، فتح ناصر السجون والمعتقلات بدون مبرر، حتى وقتنا هذا، لا أفهم لماذا كان التعذيب وحشيا بهذه الصورة، ومن أين كانت تأتيهم الأوامر، جمال عبد الناصر حكم مصر 18عاما قضى منها محمود ابن خالي 12عاما فى المعتقلات والسجون والتعذيب، كان خالي في تلك السنوات، يذرف دمعا حارا، لكل من يأتيه من ابنه بخبر، ولو كان خبر موته، لا أذكر أنني أشفقت عليه، قبل ذلك اليوم، ذهبت معه لزيارة محمود في السجن، ورأينا في وجهه وجسده آثار ضرب وتعذيب، كان صامتا، السلام في وجهه، ينظر إلى الأرض، بين ساقيه، بدا هزيلا، مصفرا، زائغ النظرات، كان ينظر بعينيه نحو الشمس كلما رفع رأسه، سرنا معا جنبا إلى جنب، ونحن نغادر البوابة، كنت أبصق على الأرض، وكان خالي يبكي.

أخذني معه يوما، إلى ذلك المكان، حيث يؤخذ منا ونفتقده، سفر طويل في سيارات نقل بضائع، بين الخضر، نركب واحدة وما نلبث إلا ساعة، أو أقل حتي نستبدل بها أخرى، لم يكن أبي بحاجة لذلك، كان يمكنه دفع أجرة راكبين بسهولة، لم يكن بعد فقيرا.

كان يحكي لي عن رجال ليسوا كالرجال، عظامهم بارزة، يرتدون أكثر الثياب رثاثة لكنهم يعمرون أركان الدنيا، يسيرون فوق سطح الماء تطوى بخطواتهم المسافات الشاسعة لا يلتفتون للزمن، يهبون الشفاء للمرضى والبركة للبطون، إن لم يريدوا لم تستطع تمييزهم عن الناس، يموتون فيتركون خلفهم البركة والقباب، تشد الأعناق إليهم الرحال، محمول فوقها النذور والهبات والأمنيات..

استهلكني الطريق، وكنت متعبا، أغفو لدقائق، ثم يشدني أبي من ذراعي، كأنه لا يريد لجسدي أن يستريح على حال، قبل الوصول..

إلى أى مولد نحن ذاهبان يا أبي؟

ينظر إليّ نظرة من لا يفهم ما أقول، ولا يجيب

أنا جائع يا أبي..

يلقي في كفي بعض التمرات الجافة

في الطريق انفرطت مسبحة أبي، حاولت أن أجمعها له، لكنه أمسك يدي ورفض

قال ليما انفرط لن يُجمع

أخرج لي من حقيبته غيرها، وترك حباتها، تسرح على أرض السيارة، تعلو وتهبط، وتتدحرج وتنسكب إلى الطريق، دمعت عيناه وهو يراقبها.

حين انتصف الليل، انتبهت على صوت السيارة تتوقف، في رهق وتعب، كعجوز أضناها السفر، ترجلنا وأمسك أبي بذراعي، وسرت خلفه، كان كالوتد الجاف منتصبا، كيف نحف أبي لهذه الدرجة، وخشنت كف يده، وخشنت خطواته واتسعت، رأيت شخصا آخر، غير ذاك العنيد، ذي القلب اللين، الذي أعرفه، ترى أيهما أبي؟!

دخل بي قاعة واسعة، ممتدة الأركان، وخطواتي تلاحقه.. قال أبيلا تخفكان يلقي بنظراته في كل الأركان، كمن يبحث عمن فقده باشتياق.

كنتُ أسير خلفه أمسك بطرف جلبابه، أتلفت حولي يسحبني بخفة، بدا لي أن الجميع من نظراتهم إليه يعرفونه.. وقف رجل في منتصف القاعة.. شيخا نحيلا يلتف حوله جمع قليل، يتمايل يمينا ثم يسارا، برأسه تارة ثم بجسده كاملا، ينحني ويعتدل، وكأنه يدور في دوائر يرسمها جسده.. بدا بينهم سيدا.

همهمات تعلو وتنخفض كموج ناعم دافئ، لم يكن الحضور كاملا، بدا ذلك واضحا من تمهل خطوات أبي ما إن دخلنا.

المنشد يتوسط الحضور، نظراته زائغة بينهم، يئن أنين الملتاع المشتاق، ما إن يغمض عينيه انتشاء حتى يفتحهما بانتباه لا يطول.. ينظر في الفراغ خلف الحضور.. يلتهم الدخان بيديه ويعاود الدوران بذراعيه كالطير الحائر.

تلاحمت الصفوف، وتكومت الأجساد كل برائحته، اختلطت الروائح بعد زمن برائحة المكان، وبخوره وأنفاسه، ربما صوته كان دليلا للحائرين خارج القاعة، في خفوته وشدته يدعو، يعلو ويهبط ثم يصمت.

حالة من التوهج سرت، وتسربت منه إلى الحاضرين المتحلِّقين حوله، في لحظة ما قد لا يدرك أحد متى بدأت، ولا اتُفق عليها بينهم، رأيت الحاضرين كل يقف ويترنح، بإيقاع صوت الرجل وهمهماته.. ذِكر يتردد في القاعة.. الله.. الله..

ويعلو الصوت ويتوحد بينهم، تتراتب الأصوات، فوق بصمة صوت الرجل.. وشيئا فشيئا تتوحد.

قام إليهم أبي.. يا رب المستضعفين والمساكين يا رب يا فتاح هبنا بفضلك المفتاح….

ترك يدي، وتوجه إلى الجهة الأخرى.. نحوهم.. خِفت فنظر إليّ، وأشار إليّ أن أهدأ، بدأتُ في الطواف بين الحاضرين..

زال خوفي.. غشيتني سكينة، كدت أن أغفو، الألفة والأجساد المتمايلة والدخان تكسو الجدران، أطفال يملأون الأركان، ينامون فوق الحصير متراصين، وجد هو مكانا، تعلق بصري به، أشرت إليه أريد الخروج، لم يجبني كأنه لم يكن يسمعني، أو كأنني أنا لم أكن أتحدث إليه.

الجالس إلى جواري من الجهة الأخرى ممسكا بأطراف لحيته البيضاء اقترب بوجهه من أذني، مال عليَّ وقال بصوت لا يسمعه غيريالشيخ لن يرد عليك، لا يدرك ما حوله، حين يصل إلى ملكوته لا يحدث أحدا، يأتي ويجلس في أحد أركان الزاوية وحيدا، يدعو بصوت خفيض، ويردد أذكارا لا يسمعها غيره، همس غير مسموع، حتى لو جربت الاقتراب منه لتنصت لن تدرك ما يقول… ليتني من مريديه لأغترف من علمه

قام الرجل منتفضامدد يا سيدي وسندي ومرشدي وتاج رأسي ونور عينيمضى لينضم إلى الجمع المتقافز، كانت رءوسهم تعلو وتهبط كرءوس الطير، كان الرجل قد بدأ في صياح ممتد، بصوت مشروخ عميق.. الله.. حي!

وجدتُ نفسي أدخل حلقة الذكر خلفه.. كنتُ أتمايل بخفة، أحاول أن أصاحب إيقاع الدف أريد أن أوافقه وأوافقهم..

نظرت إلى سيد الذاكرين بينهم وكأنما الرجل عليه فتح إلهى، كان يتمايل كما تتمايل الأشجار، وظهر عليه أثر الوجد الربانىوترى من حوله سكارى ينشدون:

وفيـه ببـاب الحــق نــال حقــائقا

بها سرت الأسرار من عالم السر

وفى المشهد القدسى الرفيع مقامه

حوى رفعة الذات المشرفة القـدر

حالة أخذته شدتها وفيضها ونورانيتها، وربما لم تقو نفسه على تحملها فما لبث أن خر على الأرض مغشيا عليه، وإن كان قدره بقى كبيرا وعظيما بعد أن استقر راقدا بينهم على الأرض حوله مريدوه.. يتخاطفونه بينهم، كل يريد بركته.

ملك الملوك حباك فضلا زائدا ولمثلنا قد تبذل الصــدقات..

بعد أن استقر وهدأ الوجد هام مرتقيا إلى أسمى مقام وقد أخذته الحال فترنم بما هو عليه:

شربت بكأس الأنس فى خير حضرةِ

فيـــا طــيبها من حــضرة صمديَّةِ

… يعاود الرجل الوقوف وسط الحضور.. كلكم عون وغوث ومدديشير إلى ضارب الدف فيضربها بحركة بين السرعة والبطء، تردد الجموع بصوت واحد ذكرا واحداحي الله… حي الله.. يلزمون تحريك الرأس يمينا وشمالا مثله، يشير بيديه وعينيه للانتقال إلى ذكر آخر ثم يجلس بين الذاكرين فيجلسون..

لا معه ونحن لا معنا

ونحن لا حرف ولا معنى

بل نحن أمر واحد كلنا

إشارة القوسين أو أدنى

وهو الوجود الحق كنا به

وهما على وهم وما كنا

      ساعات طوتني بين الذكر والركض واقفا والقول مثلهمحي.. الله حي.. أخذتني رعدة شديدة خشيت على عقلي أن يذهب، الحركة أثارت الدماء في جسدي، تختلج عروقي وما تلبث أن تخمد ثورتها في مكان ما… تجتاحني نشوتهم، دقات قلبي وافقت ضربات الدف، أطرافي ترتخي…. أفقد السيطرة عليها..

      الصوت يأتي من بعيد.. يعلو مستجيرايا الله.. يا حي!

بدأت الرؤى في التدافع والتدفقرأيت أبي ممسكا مسبحته، جالسا على الأرض في قريتنا ينظر إليّ ويبتسم.. كيف عرفتُ أنه مات؟ لا أعرف!

كان يرتدي شالا أخضر، همس ليسنلتقي كثيرا يا مصطفي، حتى إن رحلت عنك ستصل إليّ.. لهذا أتيت بك إلى هنا.. لتعرف الطريق.

حين فتحتُ عيني مرة أخرى، لم أكن بكامل وعيي، كنت محلقا، خفيفا كأنني خارج جسدي، لا أستطيع الارتكاز بثبات على الأرض.. كنت أهذي بما لا تفهم أذني، كان الألم في أحشائي يقتلني، ولكن هذا لم يمنعني أراه يبتسم لمن حوله، يبدو عليه الرهق، رهق السفر ووعثاء الطريق، ولكن وجهه مستريح، كما لو أن في وجهه مصباحا يتحرك معه، أو كمن ألقى للتو عن ظهره عبئا كان ينوء به، أخذ يُلقي بالهبات على من حوله، من الرقود ومن يلقانا بالطريق، بدا معروف الوجه واليد بينهم.

– لا تخبر أحدا بما رأيت يا مصطفى

– نعم يا أبي..

تمنحك الحياة سلامها متأخرا، حين لا تكون قادرا علي العودة، وتغيير ما سبق من أفعال، كلها أتت إليك في طريق بحثك عنها، وحين ترغب في تمرير سر سلامها لمن يصغرك، لا يستجيب لك، كونه ما زال مذعورا، لا يعرف معنى الطمأنينة.. كطفل خرج للتو من رحم أمه المظلم، في قاع بطنها الدافئ إلى صخب وبرودة الكون… يصرخ ويصرخ، ويرفس حتى يشم جسدها ويهدأ، فإذا به يستفيق، وإذا بعمره قد انتهى.

كان أبي نفسا في قفص، كما يقال في القرى، في أشهر أبي الأخيرة زاد صمته وانعزاله، وزادت خلواته، كان يربت فوق رأسي مرددايا مصطفى وددت لو أراك شيخ عمود بالأزهر، لا تضيع ما حفظت في قلبك، أريد لك السعادة ورضا الله عنكويبدو أن أوان الأمنيات كان قد فات، وزحفت إلى دارنا ظلال الموت.

صحوت من النوم مذعورا على عويل، ورأيت أمي من خلال أجفاني المغمضة المثقلة، رأيتها تترنح فوق سرير أبي، كأنها الملسوعة، أو ربما الممسوسة، ثم رأيتها تبدل ثوبها الداكن بثوب أسود، طال بقاؤه فوق جسدها فيما بعد، ومنديل رأسها الأبيض، بمنديل بغيض أسود، كأن شعرها ضُرب عليه الحداد، تجوب الدار من حجرة إلى حجرة، وكأنما تبحث عن شيء ما، ويهبط جلال الموت رويدا رويدا إلى قلبي الصغير.

حضن أمي جف، يوما بعد يوم، كفروع شجرة الجميز العتيقة، وجف عودي وصلب، وتذكرت كلمة أبي يوم الحضرة، ونحن عائدانالزيادة نقصان يا ولدي.. الزيادة نقصان.

في الليلة التالية لزيارة قبر أبي، كنت أتكئ إلى مصطبته، أمام دارنا القديمة، في قريتنا التي رحلنا عنها، طلبا لراحة وسكينة، لم نجدها، كنت أواصل في استغراق ترديد كلمات أبي، كان يرددها على مسامعي، وأنا بين يديه طفل صغير.. يعلمني كلماته:

أقسم عليك يا ودود.. أقسم عليك يا ودود

رد إلى أمانتي

أنا العبد الضعيف بين يديك.. غارق في ذنوبي.

وبينما أنا كذلك، أرهفت السمع لهمس صوت، تعرفه أذني، لا يمكنها أن تخطئه، إنه صوت أبي رحمه الله، تزاحمت برأسي أسئلة كثيرة، في لحظة غمرتني فيها مشاعر الخوف والشوق، ما لبثت أن سكنت حين رأيته أمامي، مهيبا في جلبابه، كما عهدته دائما، وحلت على أنفي رائحة زيته العطري، الذي كان يمسح بها كفه ووجهه..

ألقى علي السلام، وثَبتُ نحوه، غير مصدق أو فاهم، احتضنته وقبلت يده وبكيت أمامه، ربت على صدري، وجلس إلى جواري على المصطبة، اقترب من موضع جلوسه الذي اعتاده، مكانه المفضل، تراجعت له فقربني إليه استوى في جلستهبعد أن زال الروع عني، سألته متجاوزا عشرات الأسئلة والأجوبة في رأسي:

– أبي هل أنت راض؟

قالنعم.. لكنني مشتاق.. وعطشان..

أسرعت إلى زجاجة ماء بارد، إلى جواري.. ناولتها له.. كان يرشف الماء رشفة رشفة، حتى ظننته أتى عليه.. أخذتها من يده، ووضعتها على الأرض، وأنا أنظر إليها، وهي على حالها، لم تنقص منها قطرة واحدة..

حمد الله وجفف شاربه بطرف كمه، كما اعتاد دوما، أشرق وجهه بابتسامة خفيفة، وقال ليهل سامحتني؟

بكيت ثانية وقلت نعم

وكأنما سقطت من عينيه دمعتان، وربما أكثر..

نظر صوب الأرض المحيطة بالدار وتمتمكله إلى زوال.. الملك لله وحده.. ألم أقل لك إن في كل زيادة نقصان

نعم يا أبي

مرت لحظات من الصمت.. ثم بادرني بالسؤال، عن أبناء عمومته، تعمدت أن أسترسل في الحديث، لأطيل بقاءه..

ألن تسأل عن أمي؟ابتسم ولم ينظر إليّ

كيف أختك فاطمة؟ مها.. يا مصطفي دونما بنات إخوتك.. مها في عينيك..

تمالكت نفسي، وقد ازداد تعرقي، وأنا أردد استجابتي للهجته الحازمة:

– نعم يا أبي.. نعم..

عادت إلى وجهه ابتسامة الرضا، بينما يردد بهمس:

فأهدت لنامن عطفها يوم سَلَّمَتْ

نسيما كريح المسك زدنا به وَجْدا

وكان يتسامى شيئا فشيئا، ويشف إلى ذرات من هباء، وشعاعات من نور أخذت تخفت، رويدا رويدا، حتى اختفى من أمامي، وأنا مثبت عيني مكان جلوسه الفارغ، غير خائف ولا وجل، ساكن سكون عقارب الساعة، التي تعطلت بعد طول مسير ودوران، وصدى آخر دقاتها، يؤنس صمتها.

صحوت من نومي متثاقلا، أحاول جاهدا فتح عيني، رغم قضاء الليل كله فى فراشي، أغط فى نوم عميق، لكن رأسي يؤلمني، ملت برأسي يمينا جهة النافذة، لمحت حزمة من شعاعات الشمس، تنفذ من الشراعة، كاشفة عن ذرات من الغبار، تبدو وكأنها تتراقص فى حركة لولبية، مددت يدي تحت الوسادة، أتحسس هاتفي، لأحادث ابنة أختي مها

أمي قبل حفل سبوع سارة، بنت مها، والهون النحاسي يغني بين كفيها، تدقه في فرح، وضعت سارة في الغربال، وسمت عليها باسم الله، وأسمعتها صلاة النبي، وقالت محمد لسارة وسارة لمحمدمحمد يحب سارة حبا جارفا، ومها لن ترضى بمحمد، فاطمة أختي تريد لسارة شابا من عائلة ثرية، ونسبا يليق بالأستاذة الجامعية، ذات الصيت والنجاح، كيف أصبحت فاطمة، توأم روحي هكذا؟!

أنفها العالي، صرف عنها قلب زوجها أولا، ثم هجرها جسده، إلى بيت أبيه، مها رغم عنادها، وقشرتها الصلبة رقيقة القلب، ليست كأمها فاطمة، التي تغلغلت القسوة إلى روحها وجففتها..

مها حظها من السعادة قليل، في الحب والحياة، مها كمحمد، وهي ترى فيه قلبها الرقيق، ولذا تخشى منه على ابنتها، سارة عنيدة كفاطمة، لكنها ورثت رقة القلب من أمها مها، رغما عنها، وتكابر طوال عمرها لتختلف عنها، تعاني في صمت، من جفوة صنعتها الظروف بينهما، كانت تأتي إلى أحضاني وهي صغيرة، وتقول لييا خالي أنا أم لأمي!

محمد قلبه حنون، أخاف عليه منهن، وأخاف أن ينكسر قلبه، يريد محمد أن يتزوج سارة، ويسافر بها إلى كندا، وأنا سأبارك هذه الزيجة، سأساعدهما.. والد سارة موافق أيضا، ربما كيدا في فاطمة ومها، لا فرق عندي، المهم أنه وافق، سيتزوج محمد سارة رغما عن نسوة تحجرت قلوبهن، وشاخت أرواحهن، ونسين الحب

بعد أن جفت عروقه في قلوبهن.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سماء زيدان

 روائية مصرية ـ والرواية صادرة عن دار ميريت 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

قلب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون