لوحة الجدة، أم لوحة نفسي!

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 ولاء الشامي

 

من كل إرث الجدة كانت هذه اللوحة فقط هي ما يشغلني، أراقبها ما بين الخوف والشغف. في سنوات طفولتي كان كل شيء كبيرا كعادة كل الأطفال، ولكن هذه اللوحة كانت أكبر من المعتاد، تبتلعني بشكل حميم وغامض، كنت أخافها، كنت أختبئ في ضيوف جدتي الكثر، لا يكاد البيت يخلو حتى يمتلئ بمريدي كرم الجدة وسماحتها.

يمر العمر ويغرني الشباب ولا أعير اللوحة أي اهتمام حتى كأني لا أكاد أراها، ولكن يظل اتساع البيت يؤرقني يكاد النوم يجافيني فأخاف أن أخرج "لأوضة الصالون "، حيث اللوحة معلقة هناك بثبات وسط جدار كبير موحش.

تموت الجدة، وتقرر اللوحة أن تختار بيتنا لتحل فيه سهلا، أذكر يوم وفاة جدتي، قالوا بأن اللوحة اهتزت بشدة دلالة على أن اللوحة خشعت لمرأى جلال " ملك الموت " الكريم، كنت أهمس لنفسي تلك اللوحة تتألم لاحتضار الجدة، كانت الجدة تبكي صاحبتها، وبشدة ترتجف.

في ليلة كنت أعاني الحزن والوحدة عاينت اللوحة، خطفتني لمدارها وجدت نفسي أتأملها بعين أخرى، خطوط منمقة لغابة جميلة ولكنها خواء، كذلك الخواء الذي احتلني على غفلة مني وظل يتسع حتى كاد أن يبتلعني، لولا تلك الروح التي اعتصمت بطيبتها، فساندتني وآوت وحدتي التي استحالت ونس مورق. في منتصف اللوحة تماما شخص يعبر الغابة، رأيتها فتاة طويلة الشعر تلف ذراعيها حول نفسها، كذلك أنا في المنتصف تماما من الحياة، لم أصل لبيتي بعد، لم يسكنني الأمان كما غنت فيروز وغنى معها قلبي، لم ينم الزمان على كتفي قائلا "اهدئي يا حلوة سأخلصك من أحزانك"، لم يحدث لي هذا قط، بل ألف يداً متعبة حول جسدي الذي مازال يلف ويدور في طاحونة السعي.

أعيش خوفا لا أتبينه، ربما أخاف من الفرص، من أولئك الذين يريدونني أن أعيش جنوني وأغرق فيه. هادئة تماما كالبحر لكني أثور عند أول ضربة على حجر.

أتحدث عن البحر كثيرا، كما أتحدث إليه، يحدث هذا حقا! أجلس أمام البحر بكامل حزني وخوفي وترددي ومشاغباتي وأعترف لا كما يُعترف لقسٍ، ولكن كما يعترف متعب لغريب في قطار، ولكن البحر ليس غريبا، إنه قريب من دمي، أسمع صوته يهتف فيّ " كوني كمثلي، كوني بحرا واضحة الموقف ثائرة دوما، ولكن احذري ألا تبتلعي في عاصفتك من أحبوك "، يسدي النصائح كرجل عجوز هذا البحر، أضحك منه أحياناً، لست مجنونة، البحر حبيب لي حقا، ينافس كل من أراد أن يسكن قلبي، وللمعركة طاحنة إما أن يعرق أو يصل للشاطئ.

بيوت جميلة تملأ غابة اللوحة لكنها باردة الجدران، كذلك البرد الذي يسري بعروقي الآن. أدرك الآن أني ما كنت أخاف اللوحة إلا لأنها تعبر عني، هي من نفسي تسكن روحي بها، تحدق بي فأفزع ليلا ثم أكتشف أن ذلك انعكاسا لي، ربما كانت هذه اللوحة تحتاج إلى حزني لتقف صامدة.

تلك اللوحة التي لم يحبها "ملك الموت"؛ لذلك اهتزت من الأعماق وأُجبرتها الخشية أن تغير سكنها، تلك اللوحة التي تشبهني أجلس الآن تحتها وأنتظر تلك الهزة الأخيرة التي سأبدأ بعدها أن أعرف نفسي من تكون.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 كاتبة مصرية 

مقالات من نفس القسم