النوافذ: أرواحٌ لحيواتٍ سرّية

تشكيل
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد ممدوح

لا أتذكّر أوّل نافذةٍ تلصّصتُ خلالها على العالم.

لكنّي أتذكّر مَشهداً غائماً كحُلم: أقفُ طفلاً وسط صالة بيتنا بعد استيقاظي باكياً منتصف الليل، لألمح الأبوين يتحدثان مستندين بمرفقيهما إلي حافة النافذة يتأمّلان بَرْقاً يضرب السماء بقوة.

اعتقدتُ بعد ذلك أنّ النافذة الحقيقية هي التي تُفتح علي سماءٍ مُظلمةٍ يجلدها برق، أو صمت شوارع بعيدة مغلقة علي أسرار مُنتصف ليلٍ موحش، وأنّ النافذة الحقيقية هي التي تشهدُ علي حكايةٍ ما، أو حوارٍ جادٍ بين زوجين يرسمان مُستقبلاً مُزدهراً لا يزال بعيداً؛ لذا كنتُ أندهشُ نهاراً  عندما أري نوافذ فارغة من البشر، فأعتقد أنها مفتوحة علي العدم، ولم تُخلق للضوء والريح والصخب.

اكتشفتُ سذاجتي بمرور الوقت:

للبشر حالات خاصة تجد متنفسها في نافذةٍ مفتوحةٍ علي العالم “في أي وقت”، إنها مسافةٌ آمنة لأرواحهم خلف حاجزٍ زجاجيّ، يُعيدون تأملها في عزلةٍ وأعينهم علي الخارج، يلمحونَ فيه كلباً، شجرة، بناياتٍ، نهراً، طريقاً سريعة، عجوزاً، طفلاً بجوار أُمه، شمساً غاربة، عصفوراً يلتقط فتات خبز، ولداً يتعثّر في قيادة درّاجةٍ جديدة، بنتاً تحملُ حقيبةً فوق ظهرها، طريقاً لا يسير فيه أحد، سماءً غائمة، أو ملابس مُعلّقة في شرفة تُحرّكها الريح.

تلك الأشياء تُمثّل خلفية مُريحة لتأمُّل الروح، صمام أمانٍ  يربطها بالعالم الذي ابتعدتْ عنه نسبياً؛ لعلّها تعثر علي ذاتها. وبعيداً عن رومانسية ساذجة، تُمثّل فيها النافذة حلقة وصلٍ بين مُحبٍّ وحبيبته، فإنّ “التاريخ الشخصيّ” لذواتنا – في لحظات اليأس – يُقدّم روايةً أخري:

المُكتئبون الذين ينظرون من النافذةِ بلا مبالاة، والذين يُفكّرون في الانتحار ويقيسون مسافة السقوط، المنتحرون برصاصة،  أوبحبلٍ غليظٍ يتدلّي من حلق النافذة، الذين يدفعهم مجهولون منها ليلقوا حتفهم.

النافذةُ داخل مدينة: مكانٌ مثاليٌّ لقنص رأس في جيش العدو، وإلقاء تحية الصباح بين جارتين مُسنّتين، والتلصُّص الآمن من بين فُرجةٍ ضيّقةٍ لضلفتين خشبيتين.

المَشاهد ثابتة، ونحن من نُغيّر زاوية الرؤية تبعاً لانتقالاتِ النوافذ التي بلا حصر: بناية، قطار، باص، طائرة، سفينة، سيّارة، مدرسة، جامعة، بيت قديم، شاشة هاتف. لكننا نتناسى أننا من نصنع المَشهد؛ ثُمَّ نأتِ بالنوافذ وننظر بأعينها إلي العالم.

نافذةٌ لعوب مفتوحة علي مَشهدٍ ثابت ترفع ثمن بناية، لا تثق في نفسها، إلي السماء.  وتخفض ثمن أخري، تعرف قدرها جيّداً، إلي سابعِ أرض.

أُفكّر:

الإنسان بلا نافذةٍ أعمي ولو كان مُبصراً. قد يلتقط مَشهداً بكاميرا ويحتفظ به أو يؤطّره مطبوعاً، لكنه يبهت بمرور الوقت أو يتعرّض للتلف. لا يكتمل النظر إلاّ إذا كان طازجاً، في التو واللحظة، يتخلّله صخبٌ خفيفٌ في شارعٍ أو حديقةٍ، هواءٌ شاردٌ يمر بوجهك، بقايا شمس كبرتقالةٍ “معصورة” علي واجهة مبني مُقابل.

العين محدودة، والنوافذ بأي مكانٍ مفتوحة علي آمادٍ بعيدة، للعين ذاكرةٌ محدودة، وللنوافذ ذاكرةٌ متّسعة بتنوع البلاد والقارات، للعين مواقيتُ نومٍ واستيقاظٍ، أمّا النوافذ فلا نوم، وإنما يقظةٌ دائمة.

أُفكّر:

بنايةٌ بلا نافذةٍ، عمياء ولو كان باب مدخلها بطول جدار. تتبادلُ النوافذ حكاياتٍ خاصة عن أجمل مَشهدٍ رأته إحداها، عن الأثر المُنعش لخرقة مُبلّلة أزالت طبقة تراب تراكمتْ منذ عام. أمّا أكثرهن شباباً ومرحاً فتتباهي بلون طلاء جديد، بورود عُلّقتْ بإحدي زواياها، أو بوجهٍ يضحك لَصَقَه طفلٌ لحظة تفاؤل.

أجد متعة في تأمُّل نوافذ بناياتٍ أمرُّ بها، ليس تلصُّصاً وإنما بحثاً عن ألفة غامضة مع مكانٍ ما، عن شفرةٍ مُبهمة تعلق في الذاكرة. صوت فتح نافذة، هو ميلاد جديد لروح سرّية تعيش بالداخل، إذناً للضوء، للهواء، والذكريات أن تتجوّل بحُرّية لتغيّر إيقاع اليوم.

مررتُ بنافذة كبيرة بمستوي النظر، زجاجها مُغلق وستارتها خضراء اللون معقودةٌ بمهارة علي أحد جانبيها، ثمّة “تربيزة سُفرة” تُحدّق فيها مقاعد متلاصقة، شاشةٌ كبيرة تعرضُ مَشهداً ما، كنبتا أنتريه أنيقتان، ولا يوجد أحدٌ، في انتظار روحٍ سرّية تخرج من حجرةٍ داخلية لتملأ المَشهد.

 

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار