لماذا لا نكتب عن محمد سعيد؟

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

بالرغم من قرب الذكري السنوية السابعة لما إعتاد الناس تسميته ( رحيل محمد سعيد ) ، إلا أن أحداً من أصدقائه /أبناءه / تلاميذه / مريديه / دراويشه لم يفكر أو يشرع في كتابة جدية عنه ، حتي هذه التدوينه لا تدعي ذلك إنما هي مجرد محاولة لفهم هذا العزوف الجماعي عن الكتابة عن محمد سعيد .

أنا أيضاً لا يمكنني الإدعاء بأنني أولي بهذه المهمة من غيري ، فبالرغم من علاقتي المميزه به إلا أنني لم أكن الأقرب إليه ولا الأطول صحبة ، لذا سأحاول بداية الإقتباس من هؤلاء الذين حظوا برفقة وعناية وصحبةٍ أطول .

ربما كانت مقولة الشاعر الراحل زكي عمر هي الأشهر والأكثر تفسيراً لهذا العزوف الجماعي ، يقول زكي عمر في إحدي الندوات : أثناء إقامتي في باريس كنت أحيانا أدعي إلي حفلة أو مناسبة ما وعندما كان يتصادف وجود أحد من المدعوين إسرائيلي الجنسية كنت أشرع في الإعتذار ومغادرة المكان بسرعة وعندما أخرج إلي الشارع كان محمد سعيد يطاردني من خلف أعمدة الإنارة ، ربما توضح هذه المقوله جانباً من تأثيره علي أصدقائه وتستبدل التعبير الإكليشيهي ( ضمير هذه الأمه ) بحكاية من لحم ودم .

في مناسبةٍ أخري يقول الدكتور أمير عزيز : ( مصر عندي يعني محمد سعيد ) ، علي الرغم من علاقتي الجديدة بأمير لم أحاول أن أستوثق من المقولة المنسوبة إليه ، لأنها بإختصار شديدة الصحة بالنسبة لنا علي الأقل .

الإبن الأقرب لمحمد سعيد وأعني هنا الصديق محمد هلال يفسر في أحدي المقولات مرضه بالصدفية قائلاً : ( لم يكن لجسدٍ واحد بهذا الحجم أن يتحمل كل هذه الطاقة وكل هذا المس بالفن دون أن يتأثر )

أما الشاعر والصديق أحمد سعيد واحد من أقرب الأبناء يقول : (بحضرة محمد سعيد تتقاذفك أمواج المعرفة تظن أنك بصحبة مركب ويحتاج الأمر لسنوات لتدرك أنك كنت بصحبة المحيط ذاته )

في حوار مع الشاعر الكبير وإبن مدينتنا إبراهيم البجلاتي تسائل عن سر قلة النصوص التي أكتبها ، كانت إجابتي دون مواربة أن نصاً سيقرأه محمد سعيد علي أن أحاذر جيداً قبل عرضه ، ربما البصيرة هي السبب الأساس في تكون هذه القناعة ، لا يمكن أن تختفي بصيرةٍ مثل تلك التي كان يتمتع بها محمد سعيد ، كان يكفي أن يراك عابساً ليفاجئك بواحدةٍ من جمله التي لن تفارقك ، مَن منا لم يختبر ذلك الحدس اللانهائي ، أتذكر مثلاً تلك الأيام التي كان يعاني فيها من تكون المياه البيضاء علي عينيه ( مش كل بنت تحبها وتسيبك هتموت نفسك عشانها ) تبدو النصيحة عادية للغاية ، ما هو غريب حقاً أن محمد سلطان لم يتكلم فقط دخل المقهي عابساً ، بعد ذلك بشهور ذهبت مع سلطان لزيارته وكانت معنا ندا التي صارت حبيبة سلطان فيما بعد ، عند توديعنا أمسك كتفي قائلاً ( ما تجريش ورا حد أحيانا هما إللي بيختاروا ) ، في إحدي السهرات علي أطراف المدينة يقطع حديثه عن ذكريات الحرب وبكائه علي الشهداء كان ذلك يوم توقيع إتفاق الغاز مع إسرائيل وكان متأثراً للغاية ولم يتكلم أحد غيره في تلك الليلة ( محمد يا هلال لو عايز تصور الكاميرا لازم تيجي من هنا مش هنا ) ! علي الرغم من تلك الموهبة العجيبه إلا أنه لم يكتفي بدور صاحب الإجابات ، علي العكس كانت الأسئلة الصعبة واحدة من أهم مهاراته لو صح التعبير ، ذات مرة بينما نعبر الشارع سوياً كانت تلك الفترة قبل عملية عينيه ، توقف فجأه ( إنت ما بتسندنيش ليه ! ، إوعي تحس إني عايز أسند وتتكسف لما أكون عايز أتسند تسندني طبعاً ، إنت عارف يا أحمد أنا مصدقك إنك بتحب الناس ومنتمي ليهم ، بس عمرك ما هترتاح إلا لما تعرف إنتمائك ده جاي منين ، من إنتماء حقيقي للناس ولا من علاقتك بالسماء ؟؟! )

لا زالت معظم أسئلته بلا إجابات ، ربما علينا أن ( نكمل علامنا ) كما كان يردد دوماً !

لا زال الأصدقاء في المقهي يقولون عند ذكر إسمه ( الله يمسيه بالخير ) !

لا زال الإستنكار هو الشعور الذي يصيبني كلما سمعت أحدهم يستخدم التعبير الدارج ( كان حضوره طاغيا ) ، من لم يعرف محمد سعيد فاته معني الحضور الطاغي ، الحضور الذي لم تكفي سبع سنوات بعد لإزالة أثره ، بوسعي هنا أن أزايد علي محمود درويش الذي كتب في رثاء معين بسيسو ( لا يترك مقعداً للغياب ) ، بوسعي أيضاً أن أزايد علي إيمان مرسال التي تتسائل في إحدي إبداعاتها عن الصوت ( أين يذهب الصوت ) ، كتبوا علي قبر إميل حبيبي ( باقٍ في حيفا ) ، بوسعي أن أزايد علي كل هؤلاء ، فمحمد سعيد باقٍ في شوارعنا ، يطاردنا بالصورة قبل الصوت من خلف أعمدة الإنارة ويحتل المدينة كلها دون لمحةٍ من غياب .

كثيراً ما أتعجب من فكرة كون الموت ناقصاً لهذا الحد ، الموت هو إكتمال بالتعريف ، أحدهم إكتملت حياته ومات ، ربما في حالة محمد سعيد يبدو الأمر مختلفاً عليك أن تختار حياةً من حيواته لتتحدث عن إكتمالها ،

محمد سعيد ضابط الإحتياط المقاتل من ١٩٦٦ إلي ١٩٧٤ ، محمد سعيد وحصار السويس ، محمد سعيد الباحث الزراعي ، الباحث في التراث ، الحكاء ، الدراماتورجي ، الكاتب المسرحي ، النحات ، المثقف الموسوعي ، مخرج الأفلام الوثائقية ، معلم الحكي ، معلم الفلسفة ، المناضل الماركسي ، المعتقل ، العربيد ، المؤمن ، الزنديق ، الدرويش ، مصور الموالد ، حامل الأساطير ، موسوعة الأمثال الشعبية وأصلها ، … تجارب الحرب ، والحصار ، السجن ، الحب ، الزواج ، الطلاق ، موت الإبن ، الخيانة ، المرض ، الصدفية ، ……….

 

كيف لمن أتم كل هذه الحيوات ، وأعني أتم لأنه دوماً ما كان واحداً لم يرضي بدور النصف مطلقاً ، ربما يفسر هذا أن موتاً واحدا لا يكفيه ، ربما يفسر هذا نقصان موته ، وربما يفسر أيضاً عجزنا عن الكتابة عن محمد سعيد .

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار