كِشْ مَلِكْ

محمد مصطفى الخياط
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد مصطفى الخياط

بهتت الصورة يا عبدالله.. غامت المعالم.. تاهت الزوايا والمنحنيات.. عندما رأيتها أمامي أنكرتها ورحت أنحت صورتها القديمة من الذاكرة..

أنقذتني بصمة الصوت المدفونة في سحارة الذاكرة منذ بواكير الصبا، والحمد لله أن بادرتني بالكلام؛ نفس رنة الصوت، ونفس خلاخيل السعادة المعلقة على شواشي الحروف، وما زال دفء كفيها وطراوتهما على حالهما، وإن تحول الكف الذي طالما احتويته بين يدي عصفورًا صغيرًا وقبلت كل بنان فيه إلى فرخ حمام زاجل..

أجبت من فوق تل خيبات السنين بصوت هده الزمن، (أهلاً أهلاً ست ريم.. عاش مين شافك..)، سَحَبَت كفها الرخوة من بين يدي بلطف وأجابت بلكنة يشوبها ود (ظننت أنك لن تتذكرني..)، فأجبت وأنا أجتر من خزان الماضي عطر السنين (ومين يقدر في يوم ينسى..)، فهزت رأسها بوقار امرأة على مشارف الستين وعَقَبَتْ (صدقت.. حضرتك من أعز الناس..).

طوحت بي الكلمات إلى ماض شممت معه ريح ديسمبر المحملة بنذر مطر على كورنيش الإسكندرية وفي نفس الوقت وسمت قلبي بسيخٍ محمي لا يزال أثر كيه طازجًا.

جمعت بيننا الصدفة والثلث الأخير من الطريق المؤدي إلى المدرسة الثانوية صباحًا، رغم رداءة الأسفلت وتحول مساحات كثيرة منه في الشتاء إلى مستنقعات لمياه الأمطار، ناهيك عن الوحل، كنت أراه في حضورها طريقًا مفروشًا بالورد، معطرًا بالياسمين، فإذا غابت بدا على حقيقته وأسوأ.

(بص ياله.. !!)، صاح محمود إدارة ونحن نعبر الشارع وصولاً إلى رصيف الجانب المقابل الأقل تأثرًا بمطر الأمس، ثم أردف وهو يشير برأسه نحو مجموعة طالبات غلب عليهن الارتباك بفعل وحل الطريق، (حتة صاروخ..)، ثم أطلق صافرة لفتت انتباه الجميع.

كل الفتيات في نظر محمود صواريخ، منها القصير والمتوسط والطويل المدى، ومنها العابر للقارات، ومنها الفضائي، ويرجع تصنيف كل منهن إلى تقييمه، أعلاهن الفضائي، وأقلهن صاروخ رمضان الذي كنا نشتري منه الواحد بقرش صاغ، أما مقاييسه للجمال فهذا أمر يحتاج إلى شروح معقدة، يكفينا منها الآن ما ذُكر، والدليل على ذلك أنه لم يكن يقصد ريم، بل زميلة لها تدعى وفاء.

أما سبب كُنيته “إدارة” فيرجع إلى ما أظهره من مواهب في لعب الشطرنج، جعلت جملة (كش ملك) حاضرة على لسانه متى أنهى أمرًا بكفاءة، فضلاً عن تمتعه بمهارات التخطيط والترتيب لما يرغب من أمور.

ما أن نظرت نحوهن حتى جذبني وجه ريم باستدارته وخداها المكتنزين المنثور عليهما حب شباب مختلف ألوانه بين أحمر قانٍ وآخر داكن، مع حاجبين أسودين كثيفين وشعر ناعم مبروم في كعكة كبيرة خلف رأسها.. كان كل ما فيها يتفتح للحب.. (بلاش مشاكل يا عم محمود، ياللا بينا..)، قلت لمحمود وأنا ألكمه بود في كتفه، فأجاب بسخرية (خليك كده قفل.. ها تفضل فقري وتموت فقري).

ومرت الأيام على نفس الوتيرة، ومارست لغة العيون هوايتها في نقل الرسائل، حتى كنت ذات مساء حين تناهى إلى سمعي صوت محمود ينادي من أمام البيت (يا راوي.. يا راوي..)، (أيوه يا حودة.. خير؟..)، أجبته من نافذة الغرفة المطلة على الشارع، فأجاب كمن يصدر أمرًا (انزل..).

(بكره عندنا درس كيميا عند الأستاذ حامد، وتجيب معاك خمسة جنيه أجرة الشهر)، بادرني أول ما خرجت من باب البيت، (كيميا إيه يا مسطول.. إحنا مش بناخد كيميا.. وبعدين مين الأستاذ حامد !!)، أجبته باستغراب، وضع كفه خلف رأسي وجذبني نحوه بشيء من قوة وهو يقول (اسمع يا معلم.. وفاء وصاحباتها بياخدوا درس كيميا عند مدرس الفصل.. الأستاذ حامد..)، نظرت نحوه في ذهول، فأجاب بثقة (أصبر الثقيل ورا..)، فتمتمت (هو لسه فيه ثقيل)، أخذ نفسًا عميقًا ونفخ صدره كديك يعرف قدراته وقال جملته الشهيرة (كِش ملك) نظرت نحوه وقد اتسعت حدقتا عيناي لا أعرف بماذا أجيب (مجموعة مشتركة.. ولاد وبنات.. وعملت حاوي علشان نبقى معاهم..)، (بجد.. ) صحت غير مصدق ثم احتضنته حتى عصرته.

لم أنم في تلك الليلة وأطلقت لخيالي العنان، وما بعد العنان بعنان، سافرنا لأقصى نقطة في العالم، ركبنا الأفيال، وسبحنا في محيطات الدنيا وأنهارها، وركبنا الطائرات، وسافرنا على أكبر باخرة في العالم، نزلنا كل الموانئ، وسبحنا على كل الشواطئ.. أكلنا الموز بالشطة في بالي، والبيتزا في فينيسيا، والبويابيس في مارسيليا، والتاكو في ميكسيكو سيتي، وشربنا القهوة على مقاهي مونمارتر، والإسبرسو في نابولي، والشاي الأخضر في الفيشاوي..

(شكلك ما نمت يا معلم..)، بادرني حين قابلني صباح اليوم التالي، (ولا شفته..)، أجبت مسلمًا ماطًا شفتاي، فعقب (شرحه..) وقذف قطعة حجر صغيرة بحذائه فاصطدمت بالحائط وارتدت ساكنة، ومضينا نحو المدرسة بذهن شارد.

كان محمود قد تقمص خلال الأيام الماضية دور المخبر الخاص للوصول إلى وفاء، عرف أنها وريم في نفس سننا، وأنهما يترددان على الاستاذ حامد لتلقي دروسًا في الكيمياء، فاحتال للوصول إليه ونسج قصصًا وهمية للانضمام إلى أحد مجموعات الدرس، لف ودار لينضم إلى مجموعة وفاء وريم حتى كاد الأستاذ حامد يطرده زهقًا، إلا أن حرصه على أجرة الدرس أطالت حبل صبره.

انتهى اليوم الدراسي، ورحنا نتسكع في الشوارع، ثم اشترينا ساندويتشات فول وطعمية وجلسنا نتناولها أمام البحر الصغير بذهن يصنع كل لحظة ألف تصور للحصة وما سيجري فيها.. أخذنا مجلسنا مترقبين حضور باقي المجموعة، وما هي إلا برهة حتى تقاطر الطلبة والطالبات وبدء الأستاذ الدرس، نظرت نحو محمود أكاد افترسه، فلا وفاء حضرت ولا ريم، لعنته في سري قدر ما أعانني الغيظ، وما أعانني على قليل، ورحت اضرب قدمه بقدمي ضربات مكتومة صبر عليها كي لا يفتضح أمرنا.

وما أن انتهى الدرس وبعدنا بضع خطوات عن باب بيت الأستاذ حامد حتى أمسكت بخناقه، وطالبته بدفع الجنيهات الخمس، فخلص نفسه بسهولة إذ كان ذو بنية قوية، ثم أخبرني أنه مال على الجالس جواره ولف ودار كعادته عن سبب وجود مقعدين شاغرين حول طاولة الدرس، فأخبره أنهما لزميلتين لم يحضرا لانشغالهما بترتيبات حفل زفاف أخت إحداهما، فهدأت قليلاً.

مضت الأيام ثقيلة، حتى جاء موعد الدرس التالي، لا يبل ريقنا سوى تلك النظرات الخاطفة في الثلث الأخير من الشارع، قبل أن يأخذ كل منا طريقه إلى بوابة مدرسته ويختفي عن الأنظار، كم كان بودي أن أخبرها أننا سنتزامل في درس الكيمياء، لكنني آثرت عدم التسرع –رغم ثقتي في قدرات محمود إدارة- مخافة أية مفاجآت.

لن أستطيع وصف نظرة عينيها ولا تلك البهجة التي غشت وجهها ووجه وفاء حين دخلتا قاعة الدرس فوجدتانا جالسين ننتظر، وعندما أخذتا مجلسيهما أيقنت رحمة الأقدار بنا، كنا أقرب ما يكون، لا يفصلنا إلا تلك الطاولة المستطيلة، رحت أغمز محمود بقدمي سعادة، فيبادلني غمزًا بغمز، طار كل منا في سماوات الخيال، خاصة عندما كنت أختلس النظر إليها فأجدها تنظر نحوي بعينين ساهمتين، فلا تزيد أن تشرق عينيها بسعادة وتعض على شفتها السفلى خجلاً فيسكب الرمان عصيره على الخدين فيسيل حتى ذقنها المستديرة الملساء.

(أنا أعرف محل تصوير كويس ورخيص)، قال محمود لمجموعة الطلبة بعد انتهاء الدرس، ثم أردف قاصدًا صرفهم عن مصاحبتنا (عيبه إنه بعيد شوية)، فسارع بعض الطلبة والطالبات بالاعتذار وطلبوا تسليمهم نسخهم في الصباح أمام باب المدرسة، وهنا ظهر محمود الشهم، أو محمود إدارة إن أردت الصدق، (ولا تقلقوا الصبح يكون مع كل واحد نسخة..)، ثم مال على وفاء وقال بصوت هامس (استني..)، فالتقطت الإشارة وضغطت على يد ريم، حتى إذا ما انصرف الطلبة قادنا محمود إلى محل تصوير ورق مستندات يقع في آخر البلد، رغم وجود محل آخر بعد شارعين من بيت الأستاذ حامد.

كان هذا أول سيرنا معًا، اخترعنا حكايات ونوادر كسحت فدادين خجل وملئت خزان أيامنا سعادة وبهجة، خاصة مع تكرار ذلك المشوار بعد كل درس، واقتصرت أيام الأسبوع عندي على يومي درس الكيمياء؛ الأحد والأربعاء، فصار كل ما عداهما من أيام إما استعدادًا لهما أو استعادة لذكرياتهما.

(أيوه يا قفل ها يجوا معانا)، عقب محمود على استنكاري قبول ريم ووفاء مصاحبتنا في الرحلة المدرسية إلى الإسكندرية، وما أن هلا نحونا، حتى بادرهما بلغته الخاصة ودون تكلف (بصوا يا حلوين إحنا حجزنا لكم معانا في رحلة إسكندرية، همتكم بقى تجيبوا لنا كام مُزة معاكم)، فعاجلته وفاء بملامح استنكار ولسان سليط (وعاوز مزز معانا ليه يا أبو عين زايغة.. مش مكفينك؟..)، فأجابها ساخرًا (عشان تبقى مشاركتكم طبيعية.. مش أنتوا وبس..)، فأجابته بوجه منشرح (فعلاً.. صدق اللي سماك إدارة..)، فضحكنا كلنا.

قضينا أحلى ساعات عمرنا في الإسكندرية، ما أن وطئت أقدامنا الشارع حتى انفصلنا عن المجموعة، ولأننا في بلد غريب أحسسنا أننا وحدنا في هذا العالم.

شَبَكنا كفوفنا وتمشينا على الكورنيش تلفح وجوهنا ريح ديسمبر الباردة، ثم سرت في جسدي رعدة عندما تعانقت أصابعها الطرية طراوة العيش الفينو مع أصابعي الجافة جفاف أعواد القرفة.

وعندما جَلَستْ على السور مولية ظهرها للبحر نام كفها في كفي كعصفور أخضر جميل يختبأ من البرد لا ألبث كل حين افتح كفي قليلاً لأطمئن أنه في مكانه لم يطر بعد، فأتأمله قليلاً ثم أقبل أناملها واحدة تلو أخرى.

حلمنا بعرض الأرض والسماء، فكنت محمود ياسين وكانت نجاة في فيلم (وجفت الدموع) وغنينا معًا (حمد الله ع السلامة)، وكنت حسين فهمي وكانت سعاد حسني في فيلم (أميرة حبي أنا) وغنينا معًا (بمبي)، وكنت عبد الحليم يغني لميرفت أمين (أعز الناس حبايبنا)، وكنا وكنا ألف كنا وما شبعنا.. عُدنا من الرحلة أكثر قربًا وانسجامًا.. عُدنا حبيبين لا يتكلفان ولا يخجل أي منهما في مصارحة الآخر بمشاعره..

وعلى رأي المثل (الحلو ما يكملش)، لم تمض عدة أسابيع حتى قابلتني ذات يوم بوجه كله غيوم شتاء مُتعبة بأثقالها، ثم لم تلبث أن تكفلت غمامتا عينيها بهطول المطر.. وبعد أن هدأت والتقطت أنفاسها المتهدجة أخبرتني أن أباها وافق على خطبتها من أحد رجال عائلة زاهر، شاب ثري يعمل مع أبيه في تجارة رائجة.

وقفت أمامها واجمًا لا أدري ماذا أفعل.. غامت الدنيا في ناظري.. ووجدتني بعد ما انصرفت أسير نحو بيت محمود وأرتمي في حضنه باكيًا أتساءل (ليه لما تحلو تخلص؟..)، فتمتم بوجه مُكدَر (كش ملك..).

أسودت الدنيا في ناظري وأهملت دراستي، وبذل محمود ووفاء معي مجهودًا كبيرًا كي اتجاوز المحنة، اتكأت صبورًا على نصل الأيام عسى يبرد جُرحي ويصير ندبة.

ومرت أعوام وأعوام طوحتني فيها الأيام بأقصى ما فيها من عزم بعيدًا بعيدا، وخبأتها الأيام في بيتها عميقًا عميقا، حتى كان ذلك اليوم الذي التقيتها فيه وكأنها صدفة، وما هي بصدفة، فبينما كنت أجلس أراجع البريد الوارد إلى مكتب البوسطة مُستعينًا بعدسة مُكبرة بعد ما لحس السكر عيناي وتشوهت الحروف وقعت بين يدي حوالة بريدية باسمها، ولأنني لم أكن أملك وسيلة للتواصل معها هاتفت محمود إدارة وطلبت منه تدبر الأمر، رد بصوت ضاحك (لساك فاكر يا راوي..)، فأجبت محاولاً مدارة آلامي وحرقة السنين (ماضي وراح لحاله يا حودة.. أنا بس قلت واجب برضو..)، (طول عمرك صاحب واجب..)، وانتهت المكالمة  فاحتال كعادته ولم يهدأ إلا بعد أن اطمئن أن الرسالة وصلتها، حينها هاتفني وقال بثقة من أدى المهمة بنجاح (كش ملك..).

في اليوم التالي وقفت امرأة وقور تخطت العقد الخامس من عمرها على شباك الاستلام، (صباح الخير يا أستاذ..) قالت، رفعت رأسي نحوها، فأردفت (فيه حوالة بريدية باسم ..)، ثم توقفت عن الكلام كأنما بوغتت بشيء لم تكن تتوقعه، لم أكن قادرًا بحكم ضعف النظر عن تحديد الملامح بدقة، لكن الصوت كان واضحًا.. كان صوتها.. صوتها هي.. لا يمكن أن أخطئه.. تناثرت في أرجاء المكتب رنة صوت تتدلى من شواشي حروفها خلاخيل السعادة، فبادرتها بعينين ملهوفتين مادًا يدي نحوها مُرحبًا وقلت بصوت معتق بعتاب السنين (أهلا أهلا ست ريم..).

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب