حسد

سماح الشريف
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سماح الشريف

لم نحظ أنا وصديقتي بحوار معًا منذ قرابة الشهر؛ حيث اختفت فجأة ولم تعد ترد على رسائلي رغم أنني أراها متصلة أحيانًا. وبعد أن أجابت على رسالتي أخذت تروي لي عن انشغالها، وكيف أن يومها يضيع دون جدوى مع شكوى معتادة عن سوء أحوالهم في بلاد الغربة.

تبدلت قصصها التي أحفظها جميعا: عن زواج فلانة، وخطبة علانة. هذه هي قصصها منذ كنا ندرس في الجامعة، وفي كل مرة أنصت لها باهتمام و كأنها أول مرة.

ربما ما جعلني اسألها هو الحزن الذي أشعر به؛ فالحزن يجعلنا نتحسس الأشياء التي كنا نحاول أن نتجاوزها لنكتشف أنها أكبر من التجاوز.

والذي اكتشفته دفعني إلى أن أسألها: تعرفي إيه عني؟

كتبت: قصدك إيه؟!

كررت السؤال بصيغة الإيحاء: إحنا اصحاب من ست سنين وأنا بسمعك طول الوقت تعرفي إيه عني؟!

ظهر لي أنها تكتب شيئا ما، فانتظرت دقيقة.. اثنتين وثلاث ..!

فكرت أنها ربما ستكتب موقفًا من تلك المواقف التي جمعت بيننا في سكن الطالبات الذي يقع في “سانت تريزا” في ضاحية شبرا.

كان مبنى من تلك المباني القديمة يشبه المدرسة، وقد سمعت من أحدهم أنه كان مدرسة للأطفال الأيتام في عهد الملكية.

كنا فيه مغتربتين: هى قادمة من السعودية حيث يعمل والدها مدرس لغة إنجليزية

في الرياض، وبعد الثانوية العامة جاءت لدراسة الهندسة في مصر؛ بينما أدرس أنا الأدب الأسباني. توطدت بيني وبينها عرى الصداقة في السنة الثانية رغم تواجدنا في السكن سويا منذ العام الأول، ورغم توافد العديد من الفتيات من كل محافظات مصر؛ ولكن بعضهن كن يتركن السكن بعد شهر أو شهرين، إما للالتحاق بالسكن الجامعي، أو ينتقلن إلى سكنٍ آخر، والبعض الآخر منهن تستمر إقامتهن العام الدراسي كله، بل وسنوات الدراسة كلها رغم ترديدهن دائما عبارات عن عدم العودة مجددا إلى هذا السكن بسبب سوء المعاملة التى لا تتوافق مع شابات أتين إلى القاهرة بغية اكتشافها. وكان الصدام مع حارس السكن عم “كمال”، و مشرفة الدار ميس “إيمان”، لا ينتهى إلا بإنذارهن، أو بطلب أولياء أمورهن؛ وبعد التوسل يتم الصفح عنهن.

لكن أنا و “سما ” كنا مسالمتين لا نصطنع المشاكل، ولم نكن جزءا منها، ولا نخرج عن النظام، ولا نتأخر عن موعد إغلاق الباب في تمام الساعة الثامنة. لكن بالرغم مما يوحيه هذا الانقياد المشترك للقوانين من تشابه إلا أننا في الواقع كنا مختلفتين: هى تبدو كربة منزل ممتلئة القوام، قصيرة الطول تحمل ملامح اللواتي ترجع أصولهن إلى قرى الريف المصري حيث البشرة البيضاء الصافية والشعر الأسود الداكن، ومسحة من الجمال تكلل ملامحها. حتى في أفعالها كانت مثل “ست البيت”: تذهب إلى الجامعة ثم تعود وتصعد إلى المطبخ في الدور الرابع وتقوم بإعداد الطعام ولا تتكاسل عن طهي كل ما هو دسم ويحتاج إلى جهد في إعداده. وهي تختار وقتها في ذلك: إما بعد أن تنهي باقي الفتيات إعداد طعامهن، أو قبل أن يبدأن في ذلك، حتى يكون المطبخ فارغا. ثم تجلس في غرفتها لتأكل، وبعدها تقلب في هاتفها المحمول، وذلك قبل أن يرسل لها والدها حاسوبا محمولا من السعودية. بعد ذلك تنهي ما هو ضروري أو مطلوب في دراستها ثم تنام ولا شيء آخر.

أما أنا فقد كنت أبحث عن شيءٍ لا أعرف ما هو، شيء ما ظننت أنني سأجده في العاصمة، ربما كان العمل؛ حتى لا أضطر إلى العودة إلى ريف مصر منسية كحال محافظتي الزراعية، أو أقبع في قعر النسيان مثل قريتي التي تتعلق في طرف المحافظة كلقيط لا يُعرف عنه شيء.

لم يكن بيننا أمور يمكن أن يطلق عليها وصف الأسرار؛ لأنها كانت ترى في كل أمورها شيئًا ما يستدعي الحسد لذلك فهي تخفي طعامها في غرفتها. وكان والدها قد أحضر لها ثلاجة صغيرة بعد أن استاذنت المشرفة في ذلك. وأيضا هي لا تخبر أي شخص عن اتصال والديها بها عبر تطبيق سكايب. ولا تكشف عما يرسله والدها من أموال، حتى أنا لم أكن أعرف عن ذلك، وإذا حدث وعرفت شيئًا فإنها تأخذ مني أغلظ الأيمان على ألا أخبر أحدا. غير أن هذه الصفة لم تكن حكرًا عليها وحدها؛ فكل الوافدات من دول الخليج يشعرن أن القادمات من أقاليم مصر ينظرن إليهن نظرة حسد؛ لهذا لم يكن يختلطن بالأخريات وإن فعلن لا يسرفن في الحديث، كما هي عادة الفتيات في التباهِي، بل لم يكن أحد يعرف عنهن شيئا إلا القليل جدا، ومع ذلك هن خائفات من أن يكن قد بُحْنَ بأكثر مما يجب!

وبقية الفتيات كن يعرفن جيدا أن الوافدات من الخليج ثريات غالبًا فترى التملق منهن “على أصوله”.

كأن من تتحدث إليهن فقد فازت فوزا عظيما. وربما كان هذا للسرية التي يضرب بها أولئك حول أنفسهن.

كان السكن يحوى أسرة من تلك التي توجد في المستشفيات، ومراتب متسخة. ولن تعرف أبدًا هل جاء ذلك الوسخ من استخدام فتيات سابقات أم أن تلك المراتب قد جيء بها إلى السكن من مخلفات أحد المستشفيات ايضًا!

كان المكان مناسبا لي كوني ابنة موظف بسيط في البريد المصري. ولكن لم يكن قرب السكن من هندسة شبرا هو سبب إقامة كل تلك الفتيات فيه؛ إنما هو الحرص الاقتصادي بالدرجة الأساس. خصوصا لدى الوافدات فقد كن يعرفن قيمة المال حيث لم أرَ واحدة منهن تنفق نصف ما تنفقه الأخريات من بنات الريف، بل إنني لم أشاهد واحدة منهن ترتدي ملابس بيتية غير تلك الرخيصة والتى تبقى ترافق الواحدة منهن طيلة أيام الدراسة. ولا أعرف هل هذا حرص أم درءا للعين وخوفا من نظرة الحسد؟!

بعد انتهاء الدراسة عادت “سما” إلى الرياض حيث يعمل والدها. وشعرت حينها أنني اتكأت على حائط مائل؛ فقد تخرجت قبلي نظرا لأنها كانت طالبة في أحد الأقسام التي تمنح الطلاب فرصة التسجيل في تيرم صيفي فقلل ذلك عدد سنين الدراسة، بينما رسبت أنا، ولم أكن بطبعي اجتماعية، فلم أكن أميل إلى الاختلاط، ولم أعرف أحدًا غيرها بالسكن؛ لهذا شعرت فجأة أنني وحيدة لا آلف أحدا ممن حولي ولا أحدا منهم يألفني.

صار التواصل عبر وسائل التواصل الإجتماعي هو وسيلة استمرار صداقتنا. ورغم أنها تتحدث كثيرا لكنها متحفظة لا تقول شيئًا تظن أنني ربما احسدها عليه. ولم تكن تنصت إلا قليلا حتى لا تضطر إلى تبادل الأسرار ولم يعد يشغلها غير الحديث عن من تزوجت ومن تخفي خبر خطبتها ولا شيء آخر. فتخبرني غاضبة أن فلانة أخفت خطبتها وتقول: هى غبية فاكرة ح نحسدها؟! على إيه؟!

وكنت أنصت لها و أبادلها عبارات السخط والنميمة حتى يستمر حديثنا.

ثم تقاطعني فجأة: النميمة حرام!

ومع الوقت اختلطت رغبتي في الثرثرة معها إلى تحفظ ثم خوف من نفسي: فربما كنت أملك حقًا عينا حسودة وأنا لا أدري!

لذلك بت لا أسألها عن شيء، وأتمنى ألا يفلت منها شيء حتى لا تعود فتقول أصابتني عين فلا أعرف هل تقصدني أنا أم أن هناك متهمًا آخرا!

والآن شعرت أنني أريد أن أسألها ماذا تعرف عني بعد ما اكتشفت في صدفة غريبة أنها تمت خطبتها من خلال تعليق إحدى قريباتها مهنئة لها بالخطبة قبل أن تسارع هي بحذف التعليق!

وبعد ترددها في الرد على سؤالي وظهور أنها تكتب شيئا ما جاء ردها هكذا: سؤالك غريب! بس أنتِ طيبة و جدعة أوي .. أجدع بنت شفتها في حياتي.

فقلت لها: بعد الدراسة المجال اضيق في تكوين صداقات جديدة خصوصا لو مش لاقي شغل تحقق فيه ذاتك.

فأرسلت علامات تعجب كثيرة ووجها أصفر يعبر عن الإندهاش.

لم أجد ردًا غير ذلك الوجه الأصفر الباكي  يبدو أنها فهمت من خلاله أنني كنت أمزح كعادتي فأرسلت لي وجوها صفراء كثيرة مبتسمة وأكملت مسترسلة في نفس الحديث عن انشغالها مع شكوى معتادة عن سوء أحوالهم في بلاد الغربة.

وعدت أنا أنصت كأنني لم أعرف شيئا.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون