ما قالته الحرب لمحمد الفخراني

في بيت الطباخة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

نهى محمود

 مرة أخرى قطعة حية تنبض بالجمال والإنسانية، تدوي في غابتها وخندقها الرقة والعذوبة، تحتفي بالإنسان الذي لا يمكن توقعه، وتتكئ على إعجاز الأحلام التي تجيء وقت الموت ووسط الدماء والدمار والحرائق لتلوح لنا، وتدلنا نحو الشمس والغد والأمل.

ما الذي يمكن أن يفعله جندي بني، وجندي رمادي عدوان في حرب.. إذا ما سقطا جوار بعضهما جريحان في خندق. يقتلان بعضهما، يتبادلان الحديث.. كان من الممكن أن يحدث أي شيء كما قالت الرواية.

اخترع الفخراني حكايتهما، اختار من عشرات الاحتمالات قصة تخصهما وحكاها..

الغريب هي حالة القلق والترقب التي ملأتني، ضبطت نفسي متحفزة مستعدة لمأساة ووجع قلب ثقيل، لكن الكاتب يحب الحزن الخفيف، لا يسع قلبه ثقل الحزن وتراجيديا البشر.

يرى الجمال في كل شيء، يصفيه حتى من بشاعة الحرب وأهوالها، تجلس إليه هي الوحيدة التي لا تجد من تحكي له، ولا تتوقف عن ترديد عباراتها “إنها طفلة من داخلها وفي قلبها الجواني، هي مجرد طفلة خطفها البشر فتحولت إلى ما هي عليه الآن: حرب”.

قلقي من الفجيعة كاد أن يفسد تقدمي داخل الكتابة العذبة الرائقة، لكن الرواية لم تترك لي أية حيرة ولم تدلني في الوقت ذاته. بقت روحي مشدودة حتى الحرف الأخير ما الذي يمكن أن يحدث، ما مصير هؤلاء! حين تصل للجملة الأخيرة ستعرف كل شيء.

بعيدا عن النهاية، بدا كل شيء في الخندق حقيقي وخرافي في الوقت ذاته.. كل المعجزات التي حدثت هناك ممكنة جدا، أن تنبت حبة الذرة أسرع من العادي، وأن تصدر موسيقى تخص الخندق، وأن تلاعبهم مشاهد للأحبة الغائبين. وأن تغادر الأجساد والأرواح لأبعد مما يمكن.. أن تمر جوار الخندق حياة لا يمكن لأحد أن

يجزم إن كانت حقيقية أم متخيلة، فرقة سيرك متجولة، أولاد يلعبون الكرة، دخان الحرب من الغابة، ممرات سحرية عبر الخندق يمكنهما فيها التجول في ذكرياتهم وأشواقهم.

أن تحتفي الرواية / الفكرة بالحياة العادية، تهمس لنا طوال الوقت بسر عن عظمة العادية، عن تفردها وسحرها.. أن تتحدث الحرب وتفتح قلبها كسكير في حانة يحلم بشيء يعرف أنه ربما لن يحققه، أو ربما تحدث المعجزة له ويعيش حلمه “قصة حب وحياة عادية“.

في الحكاية التي اخترعها الكاتب، لا يمكننا أن نكره أحداً منهم أو ننحاز لصف واحد على حساب آخر كلهم بشر وحكايات يمكننا أن نكون أبطالها.. تشير لنا الرواية نحو قلوبنا وتنظر في عيوننا بجدية ولعب في الوقت ذاته “أنت متأكد أنك تريد قتلي؟”

أنت متأكد من هذا؟“.

أو “هل قال لك أحد إنك تتوقع كثيرا؟”.

من بين كل الاحتمالات تواجد مدرس تاريخ وطباخ كلاهما في الحرب ضد الآخر، تواجدا في خندق واحد.. بينهما الأم الطباخة بطلة حياة ابنها، وطفلة وزوجة مدرسة موسيقى بطلا حياة الآخر، ومعهما صندوق سيما، وراديو يصلهما منه صوت عازف كمان، حبات ذرة وبعض حبات التين وبعض الماء ونوت بوك وقلم ومنديل قماشي.

لديهما في الخندق جرح سكين في صدر أحدهما، وطلقة في ساق الآخر. لديهما ايضا الغابة، وشمس برتقالية، وحكايات عنهما، وأحلام تخص كل واحد، ومعجزات

يستحقها كل إنسان. في الحكاية أيضا حرب تحكي بعض قصتها، وسلام حين يقابلها.

رباط شعر للصغيرة، ورائحة طهي أم..

هناك في الحكاية مطر يزيح الستار عن حكاية أخرى، لا تقل جمالا وغرائبية عن كل ما  يمكن أن يحدث.

هناك في المكان رائحة إنسانية.

 

مقالات من نفس القسم