ماذا يبقى من طه حسين؟.. عمّار على حسن يجيب في “البصيرة حاضرة”

بصيرة حاضرة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ممدوح فرّاج النّابي

 

أنتَ أوصيتني بأن لا أصدّق كل ما أسمع، وأنا أوصيك بأنْ لا تُصدّق كل ما تقرأ

(طه حسين في ردّه على عتاب والده له بعد أزمة كتاب في الشعر الجاهلي)

❞… نحن لا ننظر إلى الأشياء بالطريقة نفسها

            (طه حسين في ردّه على الشيخ بخيت المطيعي) 

الإنسان شقيّ بما فَقد، وشقيّ بما احتفظ

                                   

‫منذ رحيل عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين (في 28 أكتوبر 1973) والكتابة عنه لا تنقطع، سواء أكانت كُتب الذكريات أو الكتب النقدية، وغيرهما، ديمومة حضور طه حسين في الذاكرة الثقافية، دون غيره من مجايليه، يحتاج إلى دراسة سوسيولوجية جادة، تدرس هذا الحضور الممتد والمتواصل عبر أجيال مختلفة، وإن كان ثمة أسباب تبرر مثل هذا الحضور على نحو ما عبر الدكتور عمّار على حسن، الذي أرجعه إلى الأثر القوي الذي تركه، فأثره “ضرب سهمه في كل اتجاه، وأنتج من الأفكار والآراء والأساليب والطرائق والأذواق، بل والتصورات والإجراءات حول التحديات التي واجهت مجتمعه”.

الشخصية المُلهمة

شخصية طه حسين يصدق عليها قول ابن رشيق عن المتنبي “ملأ الدنيا وشغل الناس“، فما زالت أعمال طه حسين تثير الجدل، وإن شئنا الدقة صارت شخصيته إحدى الشخصيات الملهمة سواء على مستوى الدرس النقدي، أو الإبداعي، فثمة كتابات خرجت تستحضر شخصية طه حسين روائيا على نحو ما فعل حمدي البطران في روايته “طه الذي رأى: أيام ما بعد الأيام” (دار نشر الكلمة، 2023). وهو ما يعني أن تأثير طه حسين ما زال فاعلاً ويؤثر بقوة.

اطردت الدراسات والكتابات التي تناولت فكره وإبداعه، وقد جاءت على مستويات متباينة، فمنها الكتابات الجادّة الرصينة التي أمعنت التدبّر، بما له وما عليه دون خشية القداسة التي أهالها عليها مريدوه، ومنها ما لم ترقَ إلى مثل هذه المرتبة، فكانت أشبه بتحصيل حاصل، لما طغى على بنيتها من تكرار ما سبق وكُتب عنه، وبمعنى من المعاني هي اجترار لما قيل عن الرجل في كتابات السابقين، وفي كثير من المناسبات دون إضافة حقيقية، أو حتى مراجعة لما قيل، وكأنها أشبه بفصول مدرسيّة تبتغي التعريف بطه حسين للأجيال الجديدة، عبر تلخيصات معيبة وشائهة لأفكار الرجل التي وردت في كتاباته، دون الوقوف عند هذه صدى هذه الأفكار، وتلك الآراء المختلفة، والحقيقة أن مثل هذه الكتابات تُمثّل عبئًا على اسم طه حسين، يسعى أصحابها لاكتساب وجاهة ثقافية، وحصانة بانتساب أسمائهم إلى اسم الرجل.

هل معنى مرور خمسين عامًا على رحيله، وتعدّد الكتابات التي تناولته بالدرس والتحليل والنقد (وكذلك بالنقض والهدم)، أنه ليس هناك جديد يمكن أن يُقدّمَ أو يُضاف له، ومن ثم يجب التوقف عن العبث بتراث الرجل وتاريخه؟ في الحقيقة هذا المعنى غير وارد بالمرة، فالعكس تمامًا هو المقصود، فكتابات طه حسين تحتاج إلى إعادة قراءة جديدة، ونتاجه الفكري يجب أن يخضع للدرس النقدي بعيدًا عن السياقات التي أُنتج فيه؛ لأن أغلب القراءات التي قُدمت عنه كانت خاضعة لسلطة (أو إكراهات) هذه السياقات، ومن جانب آخر يجب إعادة قراءة كتابات طه حسين من منظور جديد، بربط أفكاره بالواقع الآني، خاصة أن كثيرًا من رؤاه ما زالت حاضرة نستدعيها بين الفينة والأخرى، ونطلق الأمنيات بـ “لو” تمّ تفعيلها لصار الواقع أفضل مما نراه عليه الآن. والنقطة الأخيرة المهمة في هذه الجزئية تتمثّل في أن تركيز النقاد انصرف إلى أعمال بعينها، وظلت بعض الأعمال (وهي بالمناسبة ليست قليلة) بعيدة عن تناول النقاد، وتحتاج إلى مَن يعيد قراءتها وتحليل ما جاء بها بدقة وعمق شديديْن؛ لأهميتها على مستوى النوع، وما مثلته من اختراق لحدوده مثل: (جنة الشوك: الأبيجراما، جنة الحيوان: الحكاية الإليجورية (أو الأمثولة)، صوت باريس: رحلات ثقافية، المعذبون في الأرض: تتنازعها أنواع عدة: مقالة، قصة قصيرة، أحاديث)، وكذلك لما تضمنته من آراء جريئة وأفكار تُحلِّق بعيدًا، فحسب قول طه حسين: “عودت نفسي دائما ألا أمارس الموضوعات اليسيرة، وألا أعرض للهين من الأمور، وإنما أمارس الموضوعات التي أجد فيها شيئًا من العسر، يقلّ أو يكثر…”

لذا، فأي كتابة لا تحترم فكر وعقلية طه حسين فهي مدعاة للنسيان (والإهمال)، وفي المقابل يجب تثمين الكتابات الجادّة التي ترقش فكر الرجل وتحاججه، وتنزع القدسيّة عن شخصه، بذكر ما له وما عليه؛ أي بما وقع فيه من أخطاء ومزالق، لا من باب المعايرة أو النقض (رديف الهدم)، وإنما من باب تلافي الأخطاء التي وقع فيها، ومن هذه الكتابات القيمة ما سطره المفكّر الدكتور عمّار على حسن بعنوان “بصيرة حاضرة: طه حسين من ست زوايا” (مركز أبو ظبي للغة العربية – الإمارات، 2023).

الكتاب بصورة عامة محاولة لتقديم صورة متكاملة عن طه حسين (بدون تقديس) بمقاييس عليمة، من منظور أعماله من جهة، ومن جهة أخرى كشف أصداء تلقي النقاد لهذا الفكر، وكيف خلقت عملية التلقي تباينًا، انتهى في بعضه إلى جدل وخصومة وصلا إلى اتهام الرجل بالكثير من الأباطيل، وكأن الكتاب بصورة أو بأخرى بمحاولة وضع أعمال طه حسين في مواجهة نقاده، عريضة دفاع عن فكر طه حسين من المتربصين والمغالين، وما حاق طه حسين من غبن عالميًّا (بعدم منحه جائزة نوبل) ومحليًّا (بالافتراءات عليه على سبيل المثال: بأنه لا يحسن كتابة القصة (إحسان عبد القدوس)، بل ويشكّل عقبة في سبيل تطورها أيضًا؛ أو أن كتاباته تندرج تحت خانة البديع البلاغي بلا مضمون (سلامة موسى)، أو أنه لا يستوعب الواقع المصري (محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس)؛ للوصول إلى رؤية عامة لفكر الرجل المتمرد، والباحث عن المختلِف من ناحية، ومنهجه ومصادره، وكيفية تساوق فكره مع منهجه من ناحية ثانية.

طه حسين

أثر العميد

ومن ثمّ يتبنّى المؤلف منذ تصديره الكتاب بمقولة النفري “العلمُ المستقرّ، جهل مستقرّ”، فكرة تحريك السواكن، والمواجهة لكل الكتابات المتحاملة على طه حسين، وكذلك ما وقع فيه من مزالق وإخفاقات، عبر منهج يعتمد آليات تفكيك المرويات، والبحث عن جينالوجيا الأفكار، وتحليل الخطاب، واستنباط الدلالات والنتائج، سواء على مستوى أعمال طه حسين (الإبداعية والفكرية)؛ بحثًا عن رؤية كلية ينضوي تحتها خطاب طه حسين، أو على مستوى الأعمال التي تناولت كتابات طه حسين (بالدرس والتحليل والنقد) على اختلاف تبايناتها الفكرية والأيديولوجية؛ بغية الوقوف بجدية أمام فكر الرجل بما له وما عليه، واضعًا السؤال الأساسي: هل أثر العميد ما يزال قابلاً للتداول والتفاعل، أو أنه صار جزءًا من “تاريخ المعرفة؟ محورًا أساسيًّا لدراسته.

وللإجابة عن هذا السؤال يستجلي المؤلف شخصية طه حسين التي هي نتاج ثلاث بيئات متباينة أسهمت في التكوين الفكري لشخصه، وخلقت منه نموذجَ المفكّر البرجوازي المتمرد (على عاهته وواقعه والفكر والثقافة السائدين آنذاك) والمُختلِف عن غيره؛ وهي: الجامع الأزهر، والجامعة المصرية، والبعثات الأجنبيّة، عبر ستة محاور تبدأ بالمنهج الذي هو الهدف الذي يروم إليه ويكرّس له في جلّ كتاباته، وبسبب تشبثه به تعرّض للتنكيل والمضايقات، والاتهامات التي في بعضها أخرجته من الإسلام، أو نسبته إلى الغرب (فلُقّبه المستشرقون بـ: رينان المسلمين أو العربية)، موضحًا سمات المنهج عنده وخصائصه التي تنوّعت ما بين الحوارية والتعدد والشك والتثبُّت والإفاضة والإحاطة وتعدد زوايا الرؤيا والتمييز في الدرس بين العلم والدين، مرورًا بالنص الذي قدمه طه حسين عن طريق الإملاء، وهو ما أكسبه صفة النص البكر على عكس النصوص المكتوبة التي تعاد كتابتها، وتنمو عبر الحذف والإضافة والتنقيح والتعديل، واكتنازه ببلاغة الشفاهي، وهو ما تطلب آليات بلاغية توصيلية جعلت منه نصًّا فارقًا عن غيره باعتماده على آليات التخيّل والاسترجاع والتكرار وحضور الموسيقى، والتناص مع غيره من نصوص تغذّى عليها طه حسين، كالقرآن الكريم، وتأثره بأستاذه أبي العلاء.

إضافة إلى أن هذا النص بما امتلكه من رهانية تتجاوز زمنه، وتمتد إلى زمننا على الرغم من تفاعله مع حوادث عصره، فقد ظلّ – كما يقول عمّار علي حسن –  في مضمون نصه وانفعالاته قادرًا على أن يمنح اللاحقين معنى سواء بفهم ما يجب عليهم أن يدركوه من قضايا، أو بتلمُّس السُّبُل لفكّ ما يعترض طريقهم من غموض، وهو في الأخير نص وظيفي يلعب أدوارًا مهمّة يقصدها مباشرة طه حسين، تجمع بين الوظيفة الاجتماعية كالانتصار لفكرة العدل الاجتماعي (الذي يقترن عنده بالحرية) في كتاباته الأدبية، وإحياء التراث، وتيسيره للأجيال الجديدة كما ظاهر في إسلامياته، والدفاع عن المرأة، ومقاومة الظلم، والانتصار إلى اللغة العربية وتجديدها وتيسيرها، ومن هنا يطالب الدولة بأن تبذل الجهد للارتقاء بأذواق القراءة، كي يبقى الأدب متاحًا لأكبر قاعدة من الناس.

وعبر الذات التي هي ذات مُتعدّدة ومتكاملة يُقدّم نموذجًا للمثقف الحرّ المؤمن بأنه له مسؤولية حيال مجتمعه، وأن المجتمع سيُحاسبه إن تقاعس عن أدائه أو ناقض قوله، وبصفة عامة يقدّم صورة للمثقف المتكامل؛ فهو باحث وأديب وناقد ومؤرخ وعالم اجتماع ومترجم وصحفي وسياسي، ومن جانب آخر هي ذات تجمع بين وجوه متعدّدة ومتناقضة: فهو الأزهري والمدني، الريفي والمديني، ابن الحضارة الشرقية المتحاورة بوعي واستقلال مع الحضارة الغربية، مرورًا بالصورة التي انطبعت في ذهن متلقيه والتي تكشف عن سمات نادرة في شخص مثله، وهي بكل تأكيد متنوعة بين قاهر الظلام ورديفها التحدي، وكذلك التلميذ النجيب، والأستاذ البارع الذي ترك أكبر الأثر في تلاميذه، وصاحب المكانة الرفيعة، والمُجدّد والأسطورة، وكأنّ تمتعه بهذه الصفات تهيئة (أو منذور) لمهمة عظيمة، ثم الموقف أو الأيديولوجيا الخاصّة بالرجل التي كانت نتاج سياقات ثقافية وسياسية مُعقدة، فطه حسين كان متماهيًّا مع قضية العدالة الاجتماعية التي ربطها بالتطوّر السياسي، وعبّر عن رأيه صراحة في كتاباته وخاصّة “المعذبون في الأرض”، الكتاب الذي جاء كإثبات لتساوق أقوال طه حسين مع أفعاله، بانحيازه التام لطبقة الفقراء، ومعارضة قوية لسلطة القصر (التي نشأ كربيب لها) والأحزاب السياسية في ذلك الوقت. إضافة إلى مواقفه في قضايا عامة ومنها موقفه المؤيد للحرية ودفاعه المستميت عنها، ومناصرته لقضايا المرأة، ودفاعه عن حقها في التعليم والتثقيف والعمل وإن كان يُعاب على طه حسين ما فعله مع درية شفيق، ومي زيادة، وهو ما لم يشر إليه الدكتور عمّار على حسن (يمكن الرجوع إلى: شعبان يوسف في: “الذين قتلوا مي”، كتاب أخبار اليوم، القاهرة، 2021، و”لماذا تموت الكاتبات كمدًا”، مؤسسة بتانة، 2020). وصولاً إلى مشروع طه حسين الذي لم يكتمل، ويحتاج إلى من يستكمله.

وفي كلّ محور من المحاور تتجلّى صورة لطه حسين، تجمع بين الرصانة العلميّة والدقة المنهجيّة والاعتداد بالذات، والجدل العنيف، والتنوير والعقلانيّة، والسماحة واللوذ بالتراث، وهو ما يسمح لأن تكون صورة نموذجية ملهمة للآخرين، بل عبرها يبرز سمات خطابه النقدي الذي يسعى إلى ربط النص بسياقه الاجتماعي – السياسي، على نحو ما فعل في دراسته عن أبي العلاء، وبالمثل دراسته عن: المتنبي، والشيخان، كما إنه خطابه على مستوى تحليل النصوص الشعرية يعنى أوّل ما يعني بكشف الجمال الداخلي للنص الشعري، فطه حسين (كما يقول الدكتور عمّار) لا يكتفي بربط القصائد بظرفها التاريخي، أو غرضها المباشر، إنما يضعها في ميزان الفن.

ومع اعتناء طه حسين بالسياق التاريخي بكل محمولاته، إلا أنه لا يغفل جانبيْن مهميْن يبرزان جماليات النص؛ الأوّل الذات الشّاعرة وبصمتها في تشكيل النص على مستوى الشكل (السطر والشطر)، وعلى مستوى المضمون (الصورة والمعنى)، والثاني الجانب الفني وما يرتبط به من جماليات الصورة وأوجه المجاز وبلاغة الألفاظ وجزالتها، ولك أن تتأمّل قراءاته للشعر في كتابه حديث الأربعاء”(وتحديدًا الجزء الأول: 1925، والجزء الثاني: 1926)، وما كتبه عن أبي تمام والبحتري، وابن الرومي وابن المعتز في كتابه من حديث الشعر والنثر (1936)، بكل تأكيد لا تجد في هذه الكتابات صورة واحدة لطه حسين، بل نراه متعدد الاهتمامات، فهو ناقد تارة، ومؤرخ للأدب تارة ثانية، وتارة ثالثة فيلسوف وغيرها من مهارات متعددة، تكشف عن تعددية شخصية طه حسين، وهي تعددية متأثره بأستاذه “أبي العلاء”، إضافة إلى تعدد البيئات الاجتماعية التي خبرها طه حسين، وكذلك تجربته الحياتية التي أضفت على هذه التعددية بعدًا آخر باتصاله بزخم الحياة السياسية والفكرية في مصر. هذه التعددية انعكست أيضًا على كتاباته، فالنص الواحد عنده يمكن أن يدرج إلى أشكال الكتابة المختلفة، كما إنه يراوح في أعماله الإبداعية بين بيئات متعددة (ريف / مدينة / بيئة محلية / بيئة عالمية، هكذا…)، وتحمل شخصياته هويات متعددة (مصرية / عربية / أجنبية)، وعقائد مختلفة أيضًا (إسلامية / مسيحيّة). ولك أن تتخيل الأنواع التي أُطر تحت إهابها كتاب الأيام (يمكن أن الرجوع إلى كتاب: شكري المبخوت: الأيام سيرة الغائب سيرة الآتي).

كسر التابوهات

 فالمنهج الذي ألزمه به نفسه، وتحمل تبعاته، يُعدُّ سمة أساسيّة لفكر طه حسين، ولم يقتصر الأمر عليه وحده، بل أراد أن يلتزم به الجميع ومن ثمّ حرص كل الحرص على تبنّيه وإشاعته رغم معارضة ما جاء به لنمط تفكير العقلية العربية السائد في ذلك الوقت. التزام طه حسين بالمنهج يؤكد صفة مهمة من صفات طه حسين، وهي الانضباط، وإلزام نفسه به بمثابة دعوة إلى تقاليده، وأن تكون أهم سمة يتحلّى بها الباحث، الغريب أن طه حسين القادم من مدرسة فكرية وهي الأزهر، تعتد بالحفظ والرواية، يتمرد على منهجيتها ويخطو خطوات تثمن العقل وتدفع إلى التفكير، فكما يقول عمار على حسن اهتمّ طه حسين بسؤالين محوريين هما: لماذا؟ وكيف؟ والتركيز عليهما هو ما “أعطى منتجه الفكري والأدبي حيوية، لم تنقطع إلى الآن، وجعله يُقدّم درسًا متجددًا في نجاعة التفسير والتأويل والتحليل والتعليل”.

تشبُّث طه حسين بالمنهج كان بمثابة الدخول إلى عش الدبابير حيث العقلية العربية المنتسبة لمدرسة الرواية والحفظ غير مهيأة (بطبيعة الحال) لأن تتقبّل أطروحات منهج مغاير لمسلماتهم، والأهم نتائجه التي تهدم هذه المسلمات، ومن ثم كان الصدام مبكرًا وعنيفًا، في المقابل كشف تشبُّث طه حسين بالمنهج (أيًّا كانت روافده) إلى جانب العديد من السّمات كالحواريّة والتعدديّة، التي كانت مصادرها – هي الأخرى – متعدّدة كالفقه الإسلامي، ثم الفلسفة والمسرح اليوناني، والمسرح الفرنسي؛ كشف – في الوقت ذاته – عن شجاعة طه حسين وهي التي صارت صفة أصيلة في كل كتاباته، وآرائه الأدبية، والسياسية، وغيرهما؛ فالشجاعة التي بدا عليها طه حسين في طروحاته الفكرية وآرائه السياسية كان مبعثها المنهج الذي زوّده بآليات الحِجاج والنقاش، فالقضايا التي طرحها في كتابه الأزمة “في الشعر الجاهلي” (1926) أكبر من مسألة الشعر الجاهلي، وقضايا الانتحال والشك، وهو ما لم يفطن إليه منتقدوه.

المصادر التي اعتبرها الدكتور عمّار على حسن ركيزة أساسيّة اعتمد عليها طه حسين في منهجه، تؤكد عدم انفصاله عن الأزهر، وأن الأزهر وما درسه فيه كان تأثيره بالغًا، فالحوارية أحد روافدها الفقه الإسلامي، وقد استمد منه الاستدلال والاستنباط كآلية من آليات الفهم والتعمق في البحث، ويضيف الدكتور عمّار بأن الفقه ليس وحده من الأزهر الذي ساهم في صناعة منهج طه حسين، وإنما هناك علم العقيدة والتوحيد وكلاهما كان له علاقة وطيدة بقضايا الفلسفة الإسلامية. أهم تجليات الحوارية في كتابات طه حسين، أن وضع القارئ في منزلة مهمة داخل نصه، فقد جعل منه مخاطبًا حقيقيًّا أو افتراضيًّا، يشرح له ويفسر له، بل يسعى إلى إقناعه. فبدا طه حسين كما قال عنه عبد الفتاح كيليطو: يعقد معه حوارًا وديًّا لا نهائيًّا. ومن سمات المنهج عند طه حسين هناك الإفاضة والإحاطة، ومرجع تأثّر طه حسين بهذه التقنية يعود إلى قراءته لكتاب الكامل للمبرد في صباه بالأزهر، ويبدو تأثر طه حسين بالتصوّر الإحاطي الذي بنى عليه المبرد كتابه، على نحو ما جاء في استهلاله.

عمّار على حسن في كتابه لا يردد ما ذكره السابقون عن طه حسين، وإنما يعمل على إنصاف طه حسين، وإن كان بطرائق غير مباشرة، فمثلاً من أهم النقاط التي أخذها خصوم طه حسين عليه، اعتماده في منهجه على الشك، وكنوع من دوافع الإقصاء لطه حسين عن الثقافة العربية، والزج به في الحاضنة الثقافة الغربية، ندّد منتقدوه بتأثره بالغرب في اعتماده على الشك عند الغرب، لكن الدكتور عمّار يفنّد هذه الادعاءات، ويعود إلى الأصول الحقيقية التي استقى منها طه حسين منهجه، في إثبات إلى أصالة ثقافة طه حسين، خاصة أن منتقديه سعوا إلى نفي أصالته، وإثبات عالته على الثقافة الغربية في كل ما كتب وأنتج، ويرى أن أول هذه المصادر العربية، تتمثل في القرآن الكريم.

فالقرآن الدي هو أوّل كتاب انشغل به طه حسين منذ طفولته، فإلى جانب ما طبع به أسلوبه من حلاوة وجزالة وجرس موسيقي، كان له بالغ الأثر في دفع عقل طه حسين إلى التثبّت والروّية، حيث يدعو القرآن الإنسان إلى ضرورة التثبُّت مِن كل ما يسمع أو يرى أو يقرأ، وإلى تدبّر القرآن باعتباره الكتاب الأوّل الذي انشغل به، فتح له آفاق الكثير من المعاني، وعبر آياته التي تدعو إلى إعمال العقل والتمحيص والتدقيق في الأخبار، والتروّي عند إصدار الأحكام، والتثبت في نقل أقوال العلماء، وغيرها، كل هذا انطبع في عقله، وأسهم في تفكيره وتقبُّله للمرويات. ثم يأتي بعد ذلك علم الجرح والتعديل الذي هو مَعني في الأساس بمعرفة أحوال الرواة والحكم عليهم امتثالاً لقواعد معينة. وطه حسين لم يكن بعيدًا عن أصول هذا العلم وهو يختبر ويتثبت من رواة الشعر، بل من الممكن أن تكون أسباب انتحال الشعر هي نفسها الأسباب التي أدت إلى انتحال الحديث من قبل، كالصراعات السياسية، والاختلافات الدينية والعقائدية والمذهبية، وصعود تيار الشعوبية، والتعصب لها، وأهواء الرواة، ومجونهم ولهوهم، وغيرها.

طه حسين

الروافد والمظان

 ويمكن القول إن طه حسين اقتفى أثر كُتاب السيرة النبوية، كابن هشام الذي شكك في كثير مما أورده ابن إسحاق فيما نسبه من أشعار للجن والأوائل والبائدين. وكعادة طه حسين لم يأخذ بطريقة الجرح والتعديل التي قام بها العلماء على رواة الأحاديث، وطبّقها على الأدب بحذافيرها، بل إنه يأخذ بعين الاعتبار طبيعة الأدب التي تختلف عن الحديث.

الروافد التي استقى منها طه حسين منهجه متعدّدة، وفي المقام الأول عربية، فإن كان القرآن الكريم كان العامل المهم الذي أسهم في تكوين العقل النقدي لطه حسين، فإلى جانبه تصطف مصادر عربية عديدة مثل علم الجرح والتعديل، وعلم المنطق الذي درسه طه حسين في الأزهر وأحبه حيًّا شديدًا، وهناك علوم العرب في الآداب والتاريخ، فهناك العلماء الذين في كتبهم درسوا النحل والانتحال، وقد يمتد الأثر إلى التأثّر بابن خلدون الذي درسه طه حسين في الدكتوراه، فابن خلدون يبدأ مقدمته الشهيرة بالتشكيك – كما يقول عمّار علي حسن – “في المرويات التي أوردها مؤرخون قبله“، وكذلك أثر “الجاحظ” وكتابه الحيوان، وأستاذه “أبي العلاء المعري” واضح فيما وصل إليه طه حسين، قبل اتصاله بديكارت. والجاحظ على سبيل المثال يشكّك في الشفاهية، وقد نبّه إلى: “أن الكلام الشفاهي الذي كان يعتمد عليه العرب في نقل الأخبار والأفكار والقصائد والحكم والحكايات والقصص والنوادر والملح لا يمكن أن يُبقي ما قيل منه على حاله دون تغيير أو تبديل”، وعلى المقابل يثني على الكتابية فلولاها أي الكُتب المدوّنة لضاع الكثير من العلوم، و”حرمنا أكثر النفع” بتعبيره، ولئن لم يؤثروا هؤلاء في منهجه مباشرة، إلا أنه بطريقة وبأخرى تأثر بهم، فإن ابن سلام الجمحي وكتابه طبقات فحول الشعراء كان السند الذي يقف في ظهره ويمدُّه من قلب التاريخ بمسار نقدي ومنهجي ونفعه كما لم ينفعه أحد، على نحو عبارة أحمد كمال زكي. ومن هذا المنطلق اعتبر البعض أن طه حسين كان عالة على ابن سلام الجُمحي وطبقاته، إلا أن الدكتور عمّار يدفع بهذا الاتهام ويرى أن مَن يقولون بهذا “يظلمونه كثيرًا، فهو وسّع مِن هذه الرؤية وعمّقها، وأضاف إليها مما تعلّمه من المستشرقين في القاهرة، أو من الأساتذة في جامعة السوربون”.

فاتكاء طه حسين على مصادره من التراث العربي القديم، هو بمثابة دعوة منه إلى الباحثين مفادها: “عودوا إلى مصادر الأدب، ودعوا من لديكم من خلاصات وشروح وآمال، ولا يهولنكم أن يكون قد دخل في الشعر القديم شيء من عبث الرواة”. كما ينتقد الدكتور عمّار الذي أرجعوا منهج طه حسين إلى ديكارت، متناسين أن طه حسين لم يذهب إلى فرنسا خالي الوفاض، بل كان محمّلاً بثقافة عربية علّمت الغرب نفسه كثيرًا من منهج العلم، عبر وسيطين مهمين الأول ابن رشد، والثاني ابن خلدون.

الروافد التي استقى منها طه حسين منهجه حسب الدكتور عمّار كثيرة، وإلى جانب ما سبق هناك العلوم الحديثة، وقد يبدو للبعض أنها مُتعلقة بالآخر الغربي، وإن كان في جزء منها صحيح، لكن كان للجامعة الأهلية التي افتتحت في هذا الوقت أثرها البالغ في ما حصل عليه طه حسين من علوم حديثة، ويكفي الرجوع إلى ما كتبه طه حسين في مقدمة “ذكرى أبي العلاء” (1915) ثم في كتاب “في الأدب الجاهلي” لنعلم تأثير أساتذة الجامعة فيه. فطه حسين يشيد إشادة كبيرة بدور سيد المرصفي، وبالمثل الإمام محمد عبده. فالمرصفى غرس في نفس طه حسين بذور الشك، لأنه لم يكن يأخذ أشعار الأقدمين على علاتها، وإنما كان يُدقّق فيها بعض الشيء. وبالمثل يشير في درسه أثناء شرح كتاب “الكامل” للمبرد إلى أنه سيقف عند ما “حاد فيه مؤلفه عن سنن الصواب من خطأ في الرواية، وخطل في الدراية”.

تعتبر الجامعة وعلى الأخص أساتذتها عاملاً مهمًا أسهم في ترسيخ المنهج لدى طه حسين، فإضافة إلى الأستاذة المصريين كسيد المرصفي وأحمد لطفى السيد، كان هناك المستشرقون الذين أحضرتهم الجامعة كجويدي وناللينيو، وسنتيانا، فكان لدروسهم بالغ الأثر فيما اكتسبه طه حسين من علوم وقدرة على التحليل واتصال بالمناهج الغربية قبل سفره إلى فرنسا، ويعتبر ناللينو أكثرهم تأثيرًا، خاصة لأنه عرف طه حسين بمنهج تين والأخذ بأثر البيئة عند دراسة النصوص، وهو ما استفاد منه طه حسين في دراسته عن أبي العلاء المعري، إضافة إلى أن ناللينو في محاضراته كان يشكّك بطبيعة الحال في الكثير من الشعر الجاهلي وقد انتهى إلى عدم مطابقة هذا الشعر من حيث لغته أو محتواه الديني ما أفادت به النقوش الأثرية التي تمّ العثور عليها في شبه الجزيرة العربية.

أما عن تأثره بديكارت فيقول الدكتور عمّار أن طه حسين أخد من “سينوبوس” وليس من ديكارت ضرورة الاتكاء على التوثيق، فالتاريخ يُصنع من وثائق وهو استثمار لها. ولذا اعتبر طه حسين الوثيقة الخطية هي الفيصل بين الحقيقة والخيال، وبين التاريخ والأسطورة. وينتهي الدكتور عمار إلى القول بأن اعتبار ديكارت هو مصدر الشك عند طه حسين، قول تعوزه الدقة، فتأثير ديكارت كان محدودًا، بأن وقف على الحدود الشكلية للشك المنهجي للفيلسوف الفرنسي وطبقه على الأدب. وهناك مثلا وائل غالي ينفى أي علاقة بين شك طه حسين وشك ديكارت، في مقالة له بعنوان (ديكارت الغائب عن طه حسين: مجلة القاهرة، 15 أبريل 1995، ص 104)، فحسب قوله إن منهج طه حسين بعيد كل البُعد عمّا قصده ديكارت في كتابه “مقال عن المنهج، فحسب تأكيد وائل غالي، أن الصلة التي تربط طه حسين بديكارت صلة عابرة في اتصال أعمّ بين طه حسين والحضارة الأوروبيّة الحديثة التي جوهرها النقد ومظهرها الرأسماليّة المركزيّة.

المثقف المتكامل

على الرغم من تداخل كثير من المؤثرات في تكوين البنية المنهجية لدى طه حسين، إلا أن هذا التداخل يعكس أمورًا كثيرة، بغض النظر عن تتبع أي المساقات كانت أكثر تأثيرًا في تكوين طه حسين، أول هذه السمات التي يمكن استشفافها من عرض الدكتور عمار للمصادر المتنوعة العربية والغربية، أولها تعددية طه حسين، فطه حسين ابن الأزهر الشريف ثم الجامعة المصرية لم ينغلق أفقه عند رافد ثقافي واحد، بل ثمة تنوع في المظان التي استقى منها علومه، حتى ولو كانت مختلفة مع طبيعة التكوين الذين نشأ عليه، ثانيها: مرونة فكر طه حسين فلم يحصر عقله أمام رافد واحد، جعله نبراسًا وملهمًا له، يهتدي به في دراساته وقراءاته للتراث العربي، وإنما استوعب عقله كافة المناهح، وفي النهاية خرج برؤيته الخاصة، رؤية طه حسين، ومن ثم نرى الاتهامات مُتعدّدة، تارة هو عالة على ديكارت، وتارة عالة مرجليوث، وتارة ثالثة عالة على لانسون، وتارة رابعة عالة على حسن نائل المرصفي، وهكذا دواليك، وكل فريق يلصقه بأحد المؤثرين في منهجه. السمة الثالثة أن هذه الانفتاحية كانت بمثابة دعوة إلى إعمال العقل، فحتى لو أخطأ طه حسين في بعض نتائجه، إلا أنه هدفه الحقيقي هو إثارة الذهن وشحذ العقل إلى التفكير والتمحيص، بعيدًا عن طريقة الحفظ والتلقين، وهو الهدف الحقيقي من وراء كتاب الشعر الجاهلي، لذا نراه طبقه في كتابه “في مرآة الإسلام” وكان أكثر وضوحًا في كتابه عن الفتنة الكبرى، حيث قام بتمحيص الروايات، ليخرج بصورة أقرب إلى عصر الخلاف، والأهم لبيان أسباب الخلاف التي لم تكن بعيدة عن واقعه وهو يكتب، نفس المنهج سار عليه في كتابه “الشيخان”(1960) فهو يعلن منذ البداية أنه ينأى عما كتب عن الرجلين، فكل ما كتب عنهما “أشبهب القصص منه بتسجيل الأحداث التي كانت في أيامهما”، وبالمثل في كتابه “على هامش السيرة” (1933) فقد ابتغى كتابة السيرة بطريقة تجعله “يتحرّر من ربقة الروايات المتداولة، ليبدع روايته الخاصة، في كل ما الوقائع والأحداث والمجريات، اللهم إلا ما يخص سيرة النبي عليه السلام”. هكذا صار المنهج وأحد فروعه الشك ديدنه في كل ما يكتب سواء نقدًا أو فكرًا، بل نراه يتسرب أيضًا إلى أدبه، حيث تكثر “عبارات الظن، وعدم اليقين” ولا يجب أن ننسى استهلاله لسيرته الأيام ومقولته: “لا يذكر لهذا اليوم اسمًا، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله في الشهر والسنة… وأكبر ظنه أن هذا الوقت كان يقع من ذلك اليوم في فجره أو في عشائه…” (الأيام: طبعة مؤسسة الأهرام، ص 15) وغيرها من عبارات تشكك في مواقف وأفعال أبطاله.

ويرى الدكتور عمّار أن المنهج الذي حارب طه حسين من أجله، ارتكز على ثلاثة أمور هي:

  1. ربط الوقائع بسياقها الاجتماعي، وهو ما كان حافزًا مهمًا لحكم على تطور الأحداث، ومعرفة التأثير الشديد فيها.
  2. العودة إلى الأصول، إذ لا يمكن – في نظره – التأريخ للإسلام من دون العودة إلى خريطة الأديان التي كانت موجودة في الجزيرة العربية قبل ظهور الدعوة، وتأثير هذه الأديان في تهيئة عملية تلقي العرب للرسالة المحمدية.
  3. تمحيص الروايات، فطه حسين رغم عودته للمصادر والمراجع، إلا أنه لا يقتبس منها، أو نقل عنها، دون أن يخضعها إلى التفكير العقلي، أو المنهج العلمي.

حالة التوسع التي يظهر بها استخدام طه حسين لمنهج الشك، تجعل عمّار علي حسن ينتقد هذا التوسع على حساب اليقين، خاصة إن في رصيد طه حسين الكثير من القصائد التي يطمئن إلى نسبها إلى شعراء الجاهلية. كما كان لها تأثير (سلبي) آخر تمثّل في نسب أحمد هيكل تأصل منهج الدراسات الأدبية عن طريق حسين، ورغم أهمية الدور الذي فتحه في حقل الدراسات الأدبية والنقدية اعتماد طه حسين على المنهج، إلا أن الفضل الحقيقي يُنسب إلى حسن توفيق العدل، ثم محمد دياب، والأول هو ابن دار العلوم الذي سافر إلى ألمانيا، وقد اطلع هناك على طرائق تأليف الكتب، ولم عاد طبق ما رآه أثناء تدريسه للطلاب، ويعتبر كتابه “تاريخ آداب اللغة العربية” (1902) من أوائل الكتب التي التزمت منهج التأليف، وقد استقى هذا من علاقته بالمستشرقين الألمان (من الممكن مراجعة: مصطفى بيومي (دوائر الاختلاف: قراءات في التراث النقدي، كتابات نقدية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2007، ص 109، 110، وكذلك: حمدي السكوت: قاموس الأدب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط 2015،  ص 222).

لكن، لا يمكن كما يقول عمار على حسن إنكار القيمة الفكرية والنقدية التي أرساها طه حسين، فلقد كان بمثابة المعلّم أو المُلهم لغيره ممن جاءوا بعده؛ إذ خلق وعيًّا نقديًّا جديدًا بالبحث عامة، بما اتبعه من مناهج علميّة حديثة في تحليل وتجديد التراث العربي وكتابة تاريخ له يتوافق ومعايير النقد الموضوعي الذي يعتمد على الوثائق قبل كل شيء، وكذلك على الحجج والبراهين العقلية، إضافة إلى تطويره مفهوم البحث العلمي في تاريخ الأدب، وصار ممنهجًا بعدما كان مشوشًا وغامضًا يقوم على حشد الروايات دون تمحيص ولا غربلة. إضافة إلى كسره النظرة لتقبل غير المألوف وغير السائد، بأن وجه الباحثين لأن يفكروا بطريقة مختلفة، وألا يقعوا أسرى السلف وآرائهم، بل عليهم التفكير بحذر في كل ما يعرض عليهم.

نعم، أثر الرجل باقٍ ولا يمكن إنكاره (بل واضح كل الوضوح عند منتقديه، الذين ما زالوا يكيلون له الاتهامات ويروّجون عنه الأراجيف، فلولا أثره لأنصرفوا عنه وتركوه وشأنه)، وكذلك ممتد إلى الأجيال الجديدة، التي رغم كل ما قيل عن الرجل (بالحق أو بالباطل) تنشد كتاباته، وتلوذ بها، والدليل على ذلك الطبعات المتتالية لأعماله التي تؤكد حالة شغف بقراءة الرجل، من أجيال مختلفة. وباقٍ لأن طه حسين كما يقول عمّار على حسن صار أمثولة أو نموذجًا بشريًّا، فهو لعب دور المثقف العضوي بتعبير جرامشي، في تشكيل الوعي إجمالاً سواء بأفكاره، أو بمؤلفاته، وفي كليهما أثار العقول، وشحذ الأفكار بالقضايا المهمّة. وكونه الشخصية التي وجدت فيه التيارات الفكرية على اختلاف أيديولوجيتها، غايتها وأنه يُمثّلها بشكل من الأشكال، حيث تقاطعت أفكاره ورؤاه مع ما يؤمنون به؛ فاليساريون جذبهم دفاعه عن العدالة الاجتماعية، والليبراليون ردّدوا أفكاره عن الحرية، وانفتاحه على مختلف الثقافات والحضارات، وكذلك بعض الإسلاميين، الذين ثمّنوا توبته وأوبته بكتاباته الإسلامية، هكذا وجد كل فريق غايته في الرجل، واعتبروه خير مَن يمثلهم في الدفاع عن قضاياهم لما يمتلكه من براعة الحديث، وقوة الإقناع بالحجة والدليل، والأهم امتلاكه جمهور عريض من المستمعين والقراء.

والحقيقة أن ما بقي من طه حسين كثير، وأكثر مما يتوهم حصره في مقالة أو ندوة أو كتاب، فحضوره ليس بما أرسى من أصول منهجية، وآراء جريئة وفقط، بل بتحفيزه العقل على التفكير وعدم الركون إلى السائد والمألوف، وهي الدعوة التي لم يدخر وسعًا على إعلانها منذ كتابه الصدمة في الشعر الجاهلي، إضافة إلى أن مشروع طه حسين النهضوي لم يكتمل بعد، لعوامل عديدة، وما زال مفتوحًا ينتظر مَن يرممه ويستكمله، لذا سيبقى طه حسين حاضرًا، والأعجب أن هذه الأفكار لم تحدها حدود أي كتابٍ، بل تسرّبت ونجحت في التسلّل إلى المجال العام، وأصبحت – كما يقول عمّار على حسن – جزءًا من المناخ العام، بل لها أنصارها ممن يدافعون عنها إذا تعثّر بعضها في التطبيق؛ لأنهم وجدوا أن فيها طريق الأمل والخلاص، حتى وإن أخذ عليه أنه لم يهتم بالروحانيات مثل اهتمامه بتفكيك التاريخ والسير الشخصية للصحابة، وشاكس المقولات الفقهية القديمة، وإهماله الرافد الثاني من الثقافة الإنسانية ألا وهو “الموروث الشعبي”، وإن كان في الأخير وجه تلميذته “سهير القلماوي” لأن تتهتم بهذا الجانب، وهو ما تحقق في دراستها عن ألف ليلة وليلة.

………………

*نقلاً عن “العرب”

مقالات من نفس القسم