أعتذر لكم

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الحميد الغرباوي

هذا الصباح مشرق..

ليلة البارحة، نمت طويلا كما لم أعتد في السابق من حياتي..

خلدت إلى نوم عميق وأنا متحرر من سطوة الاستيقاظ باكرا في اليوم التالي، والتهيؤ للذهاب إلى العمل الممل.

قلت وأنا أتمدد على سريري:

" سأنام ولما أستيقظ، أقوم بالتالي:

1 ـ أحلق ذقني الذي لم تمسسه شفرة الحلاقة مدة طويلة.

2 ـ آخذ لي حماما وأزيل عني أوساخ أشهر من الإهمال.

3 ـ أرتدي ملابس جديدة تليق بوضعي الجديد.

فهذه الليلة حد فاصل بين شخص كنته و شخص آخر سأكونه..شخص رمى خلفه حمقه وعبوسه وملابسه الرثة.."..

***

عمري خمس وأربعون سنة، غير متزوج..

في الحقيقة أرفض الزواج.

لأزيد من عشر سنوات وأنا أضرب على طوابع بريد ألصقتها ألسن أصحابها على ظهر مظارف الرسائل، بطابعة يكاد عمرها يوازي ربع عمري.

أطفأت الأنوار، وأملي ألا يتواصل ضرب الطابعة اللعينة على طوابع البريد في منامي.

هذا ما كان يحدث لي في السالف من الأيام، رغم أني كنت أثبت إبرة المذياع على محطة تبث موسيقى هادئة طوال الليل، في محاولة لطرد دقات الطابعة التي تظل تقرع داخل رأسي قرع طبول ضخمة، حتى أكاد أجن. وكنت أستغرب لنفسي كيف أنها تتمكن من اقتناص سويعات نوم، رغم الضجيج الذي يصخب بداخلي ويأبى أن يفارقني..

لم أكن أعلم متى نمت..لكني كنت أعلم أني نمت، ودليلي، تلك الأحلام التي كنت أراها في منامي، وتتلاشى، تنمحي من ذاكرتي،  بمجرد ما أن أفتح عيني مستيقظا..

 ربما في كلامي غرابة، و هذا بتأثير من الحمق الذي عشته لأشهر عديدة.

 لمدة خمسة أشهر ، تقريبا، وأنا ألهج بكلمات وعبارات لا تآلف ولا تناسق بينها، تضرب في كل الاتجاهات… أكلم نفسي، وأبتسم مصدرا أصواتا لا معنى لها، وأتجهم وأشد على رأسي. أفعل كل ذلك وأنا أضرب بالطابعة على المظارف، إلى أن جاء يوم صرت أضرب على كل ما أجده أمامي من أوراق، أضرب على سطح المكتب أيضا.

وذات مرة، أخذت أدق رأسي على سطح المكتب وأبكي وأتأوه، ثم أخذت الطابعة وضربت بها على جبهتي فانطبعت عليها دائرة زرقاء، صائحا:

 أرسلوني، أرسلوني سريعا، لابد أن أصل في أقرب وقت“…

وبلغ بي الأمر حدا أهملت فيه هندامي، تركت شعر رأسي و لحيتي يسترسل..أصبح شكلي لا يليق بوظيفتي، وكان له بالغ التأثير على زملائي في العمل..

 كنت أتألم في داخلي، فقد أضفت إلى معاناتهم في العمل معاناة رؤيتهم لي وأنا فاقد عقلي..

وكنت، بداخلي، أشفق لحال زميلتين في العمل، الأولى أرملة، مات زوجها في حادثة سير، والثانية حظها سيء في الزواج رغم أنها تتمتع بقسط لا بأس به من الذكاء والجمال، وحسن التصرف. كنت ألحظ دموعا في عيني كل واحدة منهما..كانتا تبكيان في صمت لحالتي..

 قلب المرأة رهف، حساس، سريع التأثر..

 غير ما مرة، كنت على وشك أن أفشي لهما بسري، رحمة بهما، لكني، في اللحظة الأخيرة، كنت أتراجع عن ذلك، مخافة أن يتحول بكاؤهما إلى ضحك، لاسيما أن لسان المرأة لا فرامل له، سريع الانفلات والانزلاق..

هذا رأيي، فلتعذرني كل النساء..

 وبمبادرة من زملائي، كانوا، كلما دهمتني نوبة أعصاب، يرفعونني برفق من فوق الكرسي، ويدخلونني إلى مكان خاص بالأرشيف، يعطونني كأس ماء لأخمد به لهب هياجي

 وباتفاق مع رئيس مركز البريد تم التستر على حالتي النفسية، مؤجلا رفع تقرير إلى الإدارة العامة..

مسألة التأجيل، كانت تغيظني، لم أحسب لها حسابا، لم تكن في خطتي، لم تكن لصالحي البتة، فكلما تأخر التقرير، كلما ضاعف ذلك من محنتي وتعبي..

 ذات مرة سمعت الزميلتين تتحدثان في ما بينهما حديثا يقرب الهمس، والأرملة تمسح أنفها الدقيق بمنديل ورقي وتكفكف دمعا انحدر من مقلتيها:

 ـ هو مريض جدا

ـ الرأفة به وبنا يا رب!

 ـ أين يكمن الحل في شفائه؟

ـ لا أظن أنه يستطيع الخروج من محنته

ـ ليس ثمة شيء مستحيل

وغطت سيئة الحظ عينيها وانفجرت ببكاء يائس.

 أنا متأكد أنها لم تكن تبكي لحالتي فحسب، بل لحالها هي أيضا..

 حتى الأرملة، فضياعي في متاهات الجنون والحمق، يذكرها في زوجها الذي ضاع بسبب حادثة سير مميتة.

وذات صباح، وأنا أدخل مركز البريد، وجدت كل الموظفين في استقبالي، الأحرى، وجدتهم في انتظاري..

كانت حالتي مزرية. تقدم إلي أقدمهم، تأبط ذراعي واتجه بي صوب مكتب الرئيس. حانت مني التفاتة إلى الخلف، فرأيت باقي الموظفين يتبعوننا. وما إن وقفت أمامه، حتى سلمني وثيقة بالإعفاء من العمل مع تخصيص مرتب أتسلمه عند نهاية كل شهر، سلمني الوثيقة راسما ابتسامة لطيفة على شفتيه، ثم تقدمت إلي الأرملة وحشرت في جيب سروالي الفضفاض مظروفا، طبعا لم يكن يحمل طابع الطابعة الملعونة، لما فتحته في البيت وجدت بداخله مبلغا ماليا محترما مرفقا برسالة تعبر عن مدى محبة الجميع لي داعين لي بالشفاء العاجل..

 أخيرا..

أخيرا سأستريح..

لكني كرهت نفسي..

 كرهتها لأني خدعت زملاء طيبين في العمل..

 انطلت عليهم خدعتي..

 كيف أعتذر لهم؟

الأمر كله كان تمثيلا وأنا برعت في تقمص شخصية أحمق درجة أن الجميع صدقني.

شاءت الظروف، بل شاءت الخطة أن أتظاهر بالحمق، كي أتخلص من عملي الروتيني في مركز البريد.

***

هذا الصباح ربيعي جميل.

 من زمان لم أر شقائق النعمان..

الآن أمتع بها نظري وهي تتمايل بطيئا على وقع هبات نسيم عليل..

 أنا الآن بعيد عن ضوضاء المدينة..

 أنا الآن في قرية نائية، تحف بها الجبال من كل جانب، أقيم في بيت ورثه عن والدي..

الآن..

أنا شخص آخر،

ولا أفكر في العودة قريبا إلى المدينة..

***

في ليلة البارحة قلت:

سوف أنام نوما هادئا..وعندما أستيقظ سأكون في كامل تعقلي واتزاني..”..

ولم أطفئ الأنوار..

رغم ضوء القمر المتسلل من النافذة..

 لا أعرف السبب..

 كل ما كنت أخشاه أن أصاب فعلا بالجنون..

………………

*روائي وقاص من المغرب

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون