اللعب يقتضي التحريف، الانزياح عن المقدس، تحويل الثقل إلى خفة والجاد إلى مزحة. اللعب أيضا يتطلب الحيلة، أي قدرا من الخداع والمراوغة، المقدس هنا هو كل الأعراف: العلاقة المتسقة، أو التي ينبغي أن تكون كذلك، بين الرجل والمرأة. المقدس هو تاريخ العائلة، وهامش العلاقات مع الآخرين، وهو ما يجري تلويثه طوال الوقت، وبدأب،عبر نصوص هذه المجموعة. بهذا المنطق يؤسس الراوي لعبارة مركزية في هذه المجموعة، رغم انها تحضر في آخر نص:” الله اختار لنا اللعب.. واختار لنا القصيدة وعلم شيطانها الايقاع.. لماذا ارقص عندما اسمعك؟ هل لأنني مصاب بمرض اللعب؟”.
تبعا للسارد، والذي يكاد يكون واحدا بامتاد نصوص المجموعة وتشعبها وتشابكاتها، فإن اللعب اختيار الهي. هو اذن مجبر عليه أولا، مسير باتجاهه، ومريض به ثانيا.
من العبارة المؤسسة في النص الأخير، يمكننا أن نقارب علاقة السارد بالله، توحده معه وحلوله في صفاته، الحاضرة في النص الأول” لست الوحيد”، في سطرين لا غير: “لماذا تتعاطفين معي على أني وحيد؟ الوحدة صفة الهية، والوحدة شرف الوحيد، فهل تعاطفت مع الله؟” . الذات هنا تدافع عن الوحدة، باعتبارها مرادفا للتفرد وليس للعزلة، وتتشارك مع الله في صفة أخرى هي الأزلية، الأبدية، العابرة والمتجاوزة للزمن.
السارد يستعين على لعبه بمخيلة الطفل، التي تؤول العالم حسب منطقها، حسب لعبها بمعنى أصح.. وهو ما يختفي بعذ ذلك للأبد. ربما لذلك يؤسس السارد لمنطقه في اللعب بمنطق” أمتطي لعبة الطفولة وأخوض بها معارك الأفكار على المقهى وأنام متأخرا عل الموت يمل الانتظار”،قصة”لعبة ساذجة”. علينا ألا نغفل في هذا السياق، ووفق هذا التحليل، العلاقة الوشيجة بين الأطفال والله، فهم في الوعي الجمعي أحباب الله ، وهم خارج منطق الحساب، وهم في الجنة.
هذا إذن تأسيس للسارد يستلهم الله بمنطق الطفل. تأسيس يبرر اللعب من ناحية، ويبقيه اخلاقيا من ناحية أخرى.
ـ ـ ـ ـ
اللعب المربك تترجمه، في مقاربة أولية، علاقة عنوان المجموعة، بعنوان القصة التي في الداخل، والتي اجتزأ العنوان العام من عنوانها. العنوان الآخر هو “مصاحبة رجل كفيف لثلاثة أيام”. المفارقة واضحة بين العنوانين، واستبعاد المفردتين الأولين من العنوان كي يخرج إلى الغلاف خلقتت غييرا كاملا في الدلالة.
الدهشة التي يقدمها العنوان المجتزأ تختفي من العنوان الفعلي للقصة، والوحدة في عنوان المجموعة تختفي بشراكة الصاحب للكفيف. لا يدل عنوان المجموعة ا يدل عنوان المجموعة ذن على القصة ، وإن دل، ربما، على فضاء دلالي يسم الكتاب برمته: انعدام الرؤية، تشوش المرئيات في عيون الشخوص، في ظل سياق مؤقت.
ـ ـ ـ ـ
35 قصة تحتويها المجموعة، تنقسم اجمالا الى تيارين، تبدو المؤاخاة بينهما للوهلة الأولى رهانا صعبا: تيار تجريدي، النصوص فيه كثيفة وأقرب للشعر.. أقرب لحالات شعورية تأملية تخلو إلى حد بعيد من عنصر الحكي.. وتيار تشخيصي بامتياز، يقوم على الحكاية المحبوكة، والشخصيات المكتملة او شبه المكتملة ، والحدث الذي يتقدم في الزمن للأمام.. وثمة تجاذب بين هذين المنحيين، بل ان بعض النصوص تبدو مرايا للأخرى.
لغة السرد، بالتوازي، تتحقق عبر لعبة خطرة، هي التهجين بين الفصحى العتيقة والعامية المبذولة. إنهما طرفا نقيض يجتمعان في أحيان كثيرة في جملة واحدة. نحن بالفعل أمام لغة هجين بين الفصحى والعامية، ولكن اللغة هنا لا تكتفي بالجمع بين الاثنتين في سياق من المزج أو التداخل، بل تتجاوز ذلك لصك صياغات فصحى تبدو ترجمة لتفكير بالعامية،أو العكس.. في إرباك يكون في بعض الأحيان حادا لوعي المتلقي.
ثمة التفات واضح لصك صياغات غير مألوفة، من قبيل ” لماذا تتعاطفين معي على أني وحيد”، “مثاليتي التي احكيها لها كل مرة”، ” امارس الشات بصفة يومية واقوم به بعد الواحدة من منتصف الليل”.
ثمة مفارقة أخرى مربكة، فالعناوين المصكوكة بالعامية المصرية تحضر في نصوص تهيمن عليها اللغة الفصحى، مثل “ممكن يكون الكيبورد معلق” ، “هقولك سر”، ” شهاب هيخش النار”.. بينما تحضر في أحيان أخرى العناوين الفصحى لنصوص تمثل اللهجة العامية عمادها اللغوي، مثل “الإيميل الرابع لفتاة مجهولة”، وهي القصة التي تحوي ضمن ماتحوي مقاطع أقرب للقصائد والأغنيات المكتوبة بالعامية ومنها أغنية راب صريحة، فضلا عن عالمها العامي المؤلف من عبارات كثيرة متداخلة هي عبارات الكلام الدارج في مواقف إنسانية مختلفة نحياها كل يوم، وغيرها.
إنها لعبة أخرى، مع اللغة وبها، تتحقق في المجموعة. لعبة مربكة تزيح الكثير من “القواعد” أو حتى “الأعراف” لتمارس قدرا من النزق الخاص بامتداد النصوص.
ـ ـ ـ ـ
المجموعة تتشكل من علاقة متوترة بين الأنا والآخر.
السارد، عندما يكون “أنا”، لا يتورط أبدا في التعاطف، أو التلاحم مع الآخرين.هو يتحرك بين حدين: إما التأسيس للقطيعة مع الآخر، أو الإصغاء إليه دون الإقدام على فعل يعضده أو يشي بتبنيه لموقفه. هكذا يبقي السارد على نقاء وحدته.
وعي الأنا يصطدم على الدوام بوعي الآخر، وغالبا ما تصطدم الإرادات.. غير أن الصراع لايغادر أبدا منطقة الوعي، أو ساحة الأفكار. لن نلمح السارد أبدا في موقف جسدي خاص كالشجار أو ممارسة الحب. لا تبدو لدى السارد أدنى رغبة في مغادرة مكانه. هو على الدوام في مكمن ثبات: على كرسي في مقهى، مضطجع على سريره، جالس أمام شاشة كمبيوتر، ملتصق بمقعد في مواصلة عامة. يمكنني أن أقول إن حركة السارد هي فقط حركة أفكاره وتصوراته، وعيه وتخيلاته، التي يقابلها سكون جسده.. أليست هذه، مجددا، خصيصة أصيلة في الوحدة؟
الآخر، عندما يتخذ صورة الأنثى أو تتخذه، يحيل لعلاقة مربكة للذات، علاقة منذورة مرة بعد أخرى للقطيعة وانعدام الأمل في التواصل. الذات بدلا من أن تسعى للاكتمال بالأنثى، تبدو حريصة تماما طوال الوقت على خوض صراع.” هي لها الحق ان تكرهني اذا فهمت حيلتي السطحية، اظنها لن تكرهني ابدا، لانني ابدل حيلي دائما. للاسف هي تقرأ بالإنجليزية روايات ماركيز وباموق وتظنهما انجليزيين.. انا اقراهما بالعربية واعرف جنسية كلا منههما بالطبع”. هذه صورة مقربة لطبيعة علاقة الانثى بالسارد. الحيلة من جديد هي ما يجعل الراوي جديرا بالمحبة.
اللعب ايضا هو ما يحيل لتحديد مصير علاقة يفترض فيها أنها جادة: “ابتسم بطفولة وقال تيجي نلعب لعبة؟ نظرت اليه في دهشة دون ان تتكلم ثم أومات بالموافقة، فقال : اللي يكشف التاني ينساه؟ فقالت: انت مريض. ابتسم وهو يودعها. وقال: لقد كسبت الحياة، انت الآن مع غيري”.
تنتهي مناورات السارد مع الذوات الأنثوية بتسليم كامل باستحالة الاتصال: “عارفة ان أول مرة اضحك كانت امبارح؟ عارفة ليه؟ لأن أول مرة أحس بإنك خلاص بعدتي وبقيتي مش شبهي. واسكتي بقى، ما خلاص عرفت اني ماانفعش أكون بحب”.
يحيلنا ذلك الى عنصر آخر لصيق بالذوات الساردة، هو التخفي. ويبدو المنطق متسقا: لكي تلعب جيدا عليك أن تجيد الاختباء، ألا تظهر.
ربما يفسر ذلك حرص الذات الساردة في كثير من الأحيان على ألا تعلن عن ماهيتها، قناعاتها الفكرية او الدينية، مرجعيتها الاجتماعية. السارد في أغلب الأحيان يمارس لعبة يكشف من خلالها من يشاركونه الحدث لكنه يبقي على غموضه وعدم تجليه الكامل، وهي بالمناسبة صفة الهية أخرى.
” من خلف الكادر جلست أنا أتابع قِبلة الملهى الليلي، لأكمل آخر مشهد لي في الفيلم..حتى أحببت هذه الطاولة وجلست عليها باقي العمر” قصة”جارسون مختبئ”، ” تجلس على سريرك داخل غرفة مغلق بابها، لا تصنع شيئا سوى ان تنظر في الأرض، وتسمع صوت أقدام تجري على السلم بسرعة …. وقد تعودت الخوف من الخروج، فتعتقد آنذاك بأنك صفحة داخل تاريخ متروك”، قصة” صفعة تائهة لا تؤلم”.”فتحت الباب البني بالعين السحرية التي لا تجعلك تشاهد من بالباب”، قصة”وجئت مرة”.
مرة بعد أخرى يؤكد السارد على اختفائه، يستكمل ألوهيته بإدارة خيوط اللعبة بأكملها، دون ان يراه أحد أو يتمكن شخص من كشف وجهه.
هل أذهب إلى مدى أبعد في التأويل فأقول إن كشف السارد يساوي موته؟.
التخفي يكتسب إحدى تموضعاته عندما يصير المكان الافتراضي هو ساحة الحدث. فقط في الواقع الافتراضي يبدو السارد آمنا، حتى أنه لا يخشى الإعلان عن تفاصيله في قصة مثل “ممكن يكون الكيبورد معلق”، “انا مصطفى يسري .اقيم بالجيزة وقضيت عمري بها . لا اجيد من اللغات سوى العربية”.
بالمقابل، تنكشف كل الشخوص الأخرى التي يراقبها السارد أو يدخل معها في مواجهة. في قصة رامي يستمع الراوي للشخص الذي يحضر طوال السرد. تنتهي القصة بكشف رامي بينما تظل وضعية السارد كما هي،الامر نفسه في قصة”شهاب هيخش النار” والتي لا يزال الراوي فيها وحيدا كما كان في النص الافتتاحي للمجموعة.
هكذا تبدو “كفيف لثلاثة أيام” نصا يحتفي باللعب على كافة مستوياته، يمارسه في شتى أداءاته الممكنة، كأن اللعب حكمة نهائية، وكأن اكتماله هو اكتمال الكائن البشري نفسه، وسبيل اتحاده بالحقيقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*قاص وناقد مصري