متحف ميرال الطحاوي للنفايات البشرية

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سيد محمود

نالت الروائية ميرال الطحاوى تقديرا كبيرا من الأوساط الأدبية عند نشر أعمالها الأولى نهاية تسعينيات القرن الماضى وحظيت بفرص كبيرة فى ترجمة رواياتها إلى لغات عدة.
ويعرف متابعو حركة الأدب العربى فى العالم كيف ظهرت روايات مثل «الخباء» و«الباذنجانة الزرقاء» ثم «بروكلين هايتس» فى دور نشر أجنبية مهمة، إلا أن استقرار الطحاوى فى أمريكا حيث عملت طوال العشرين عاما الماضية مدرسا للادب بعد حصولها على الدكتوراه غيبها عن جيل جديد من القراء ظهر خلال السنوات العشر الأخيرة وحدد نجومه الذى يتابع أعمالهم باهتمام، لذلك خاضت الطحاوى فى روايتها الجديدة (أيام الشمس المشرقة / دار العين ٢٠٢٢) تحديات كثيرة ربما كان أولها الرهان على انتزاع إعجاب الجمهور الشاب الباحث عن نغمة جديدة، ليست هى النغمة التى سادت خلال التسعينيات وعبر عنها بامتياز جيلها من الأدباء الذين كان يطلق عليه جيل شرقيات ثم أخذته دار ميريت وانتج معها أعمالا مهمة، لكن اغلب كتاب هذا الجيل استجابوا لنداهة الهجرة والاغتراب وبعضهم توقف عن الإنتاج وانشغل بهموم أخرى.
وكما يحدث فى صراعات الأجيال الفنية والأدبية اكتسب هؤلاء المبدعون مكانة رمزية، لكنها ظلت شبيهة بسلطة الأب التى سعى كتاب احدث لتجاوزها، عملا بنظرية قتل الاب.
ومن ثم بدأ البحث عن مواصفات لكتابة مختلفة تتحرر من هذا الميراث الغنى لأنه كان يرمى بظلاله أو (كابس على نفسهم) وعلى تجاربهم.
وبالتدريج حدث نوع من الازاحة والصراع على المكانة فقد اختفى الشعر وجاءت الجوائز الأدبية العربية لدعم صعود الرواية ووسعت فى نفس الوقت من دوائر هذا الصراع بالمساهمة فى فتح المشهد الادبى على مساحة جغرافية أوسع مما كانت عليه
لم تعد المنافسة محلية قاصرة على التمثيل فى المؤتمرات أو الفوز بجوائز الدولة أو منح التفرغ وانما امتدت إلى فضاءات أوسع بامتداد العالم العربى كله وشملت التكريم والسفر لمعارض ومؤتمرات خارجية والترجمة إلى لغات أجنبية بطبيعة الحال.
وأوجدت ثورة الانترنت والوسائط الرقمية معايير لم تكن موجودة من قبل أبرزها ظاهرة الكتاب الاكثر مبيعا، التى لا تربط انتشار أى كتاب بقيمة محتواه التى كان يحددها نقاد الأدب التقليديون فى الماضى استنادا إلى خلفياتهم الأكاديمية أو المساحات التى يشغلونها فى الصحافة.
والحاصل اليوم ان أحكام القيمة صارت تصدر من جمهور التيك توك أو المنصات الرقمية الأخرى التى منحت المدون الالكترونى تأثيرا لا يملكه الناقد التقليدى الذى كاد يختفى مع انحسار حضور صحافة المجلات الأدبية المتخصصة.
وأصبح من النادر اليوم العثور على كتاب رائج يجمع بين القيمة الفنية والتجارية التى تحوله من نص إلى علامة تجارية أو إلى ماركة جذابة فى دوائر الانتشار الجماهيرى.
ولكل تلك الأسباب أصبحت ميرال الطحاوى وربما كتاب جيلها كله كمن يتعلم المشى لأول مرة، لانه بالفعل يزرع شتلات فى أرض جديدة. ولم تعد أشجاره هى ذاتها الأشجار التى أثمرت من قبل لذلك كان من الطبيعى جدا أن تبتكر الطحاوى ذاكرة جديدة ليست هى ذاكرة عالم البدو التى بدأت منها وحصرت عالمها فى فضاء بيئى مستند على استعارات من الطقوس والمأثورات الشعبية الغرائبية بطبيعتها.
صحيح انها خطت فى روايتها السابقة (بروكلين هايتس)خطوة مهمة لمقاربة عالم الهجرة الا انها فى (أيام الشمس المشرقة) صنعت طفرة كبيرة بكل المقاييس ورقصت على ارض جديدة تماما تختلف عن عالمها، لكنها رقصة على إيقاع الألم وليست رقصة تنتصر للحياة.
خلقت ميرال شخصية روائية جديدة تماما على الأدب العربى ومن الصعب نسيانها وهى شخصية نعم الخباز البطلة التى صاغت حول حكايتها عالما متكاملا يوازى فى تشوهه الثمن الذى دفعته الخباز بعد أن قام والدها بتشويه وجهها وهى طفلة فعاشت بعاهة جعلتها تجتهد لصنع عاهات من بشر التقت بهم فى غربة قاسية.
ولأن الغرباء يصنعون تاريخا متخيلا ويكذبون بشأن ماضيهم كما تقول الرواية فالأمل فى مسيرتهم نحو المستقبل محاط بالالم، فهم يتعلقون بفرص نجاة لا تكتمل ابدا.
ينظر القارئ فى تجارب الابطال ( فاطيما / أحمد الوكيل / ميمى / ام حنان ) ليكتشف أن الندوب التى تملأ وجه نعم ليست سوى مسارات لخرائط من التيه وعلامات على ألم راسخ رسم رحلة كل هؤلاء الذين انتهت حياة أغلبهم بطريقة بشعة.
إنه الالم الذى يفسر رحلتها كلها، كامرأة نادرة تعيش على النفايات وعلى حصر الغنائم التى تجمعها من حملات إغارة على البيوت المنكوبة، تاجرت نعم الخباز فى الموت فمنحتها ميرال الطحاوى حياة لا تحلم بها ابدا.
وفى هذه الرواية بالذات تحررت الكاتبة عند كتابتها من قيود كثيرة (سابت إيدها) وانطلق لسانها بسباب وشتائم اصبحت رغم بشاعتها معطى شعريا بامتياز وهذه ميزة اللغة الخشنة بفضل ما فيها من مجازات واستعارة دالة على قسوة العالم.
ولا يمكن لقارئ الرواية أن يغلق صفحاتها دون أن يتأمل ما فيها من شجن وانكسار وانسحاق ومصائب صاغت مصائر وكتبتها بلغة فاتنة جاءت من خيال جامح جعل من الرواية الفاتنة مكبا للنفايات البشرية ومتحفا للخراب ومصنعا للفجيعة.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم