كرة الثلج

fff
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أليتث لسياجا

ترجمة: نجلاء الجعيدي

لا تستريح كلارا لفكرة القيادة ليلاً؛ حيث تبدو لها الأشجار المتطاولة على جانبي الطريق، كأنها تقترب أكثر، فأكثر، بعد غروب الشمس، نحو بحر الطريق. تستشعر أن الأشجار تمد أفرعها الطويلة نحوها، كأنها أذرع تحاول ان تلمسها في الظلام، لكنها تعلم أن ليس لديها خيار آخر غير اجتياز تلك الكيلومترات القليلة الأخيرة في تلك الليلة، إذ أرادت أن تصل بدون تأخير؛ فعيد ميلاد أمها هذا، أهم من أى عيد ميلاد مضى؛ عيد ميلاد مميز، حيث تبلغ  عامها الخمسين .

ظلت كلارا تكافح ضد ظلام الطريق، بأشجاره الجانبية المخيفة؛ بالاستماع للموسيقى من مسجل سيارتها الجولف، على أنغام صوت فريق (Blondie)، بأعلى صوت لأغنية One way, or another، بينما هي تدندن ممسكة المقود بإحكام، بدأت تصل إلى الجزء الأكثر إظلاما في الغابة. كان قد مر ما يقرب من الستين كيلومترًا منذ أن رأت آخر عمود إنارة، ولا توجد منازل، محلات أو أي شيء عن بعد ينم عن الحياة في تلك المنطقة. ليلة بلا قمر، والضوء الوحيد الباقي، هو ضوء المصابيح الأمامية لسيارتها التي ترميه في طريقها، تخفض صوت الراديو، ترفع قدمها عن الفرامل قليلا؛ خوفا من كونها قد ضلت الطريق.

تتمتم: “اللعنة، بهذه الطريقة لن أصل  أبدًا!”، وهي تحاول أن تتفقد الطريق مرة أخرى على نظام تحديد المواقع العالمي (GPS).

تتنهد كلارا محبطة، تزيح خصلة من شعرها الأشقر بعيدا عن وجهها، تنظر في المرآة الخلفية، فلا تجد شيئا سوى دخان العادم يرتفع في هواء الليل شديد البرودة، ثم تعاود التحقق من الطريق مرة أخرى على نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) للتأكد من أنها تسلك الطريق الصحيح، لكنه سيأخر وصولها أكثر مما كانت تعتقد، ومع ذلك قررت مواصلة الطريق مرة أخرى، لكن هذة المرة بدون أن ترفع صوت مسجل السيارة لتتمكن من الانتباه إلى أصوات الغابة من حولها.

فجأة، يومض فلاش على لوحة القيادة في السيارة، ضوء صغير أحمر وامض كأنه علامة في اتجاهين، ذلك الضوء الذي يستحيل تجاهله.

تحدج كلارا في ذلك الضوء البشع، كما لو أنها تستيطع إيقافه بعقلها  محدثة نفسها: لا، لا، الآن تحديدا لا، واليوم بالتحديد لا، اللعنة!

تدرس كلارا الطب، لا تعرف شيئا عن الميكانيكا، عدا ما تعلمته في مدرسة القيادة أثناء استخراج رخصة القيادة منذ العامين. باستسلام تسحب مفتاح المحرك، وعندها يصبح كل شيء ساكنا، حتى الهواء يصمت داخل السيارة، ترنو إلى هاتفها وكأنها تعرف ما ستجده بالفعل؛ إذ لا توجد تغطية شبكة للمحمول.

تتمتم بفراغ صبر: هاااايل.

تتردد فى اتخاذ قرار الخروج من السيارة؛ فبالخارج الليل قارس، حيث يمكن أن تشعر برطوبة الغابة، التي تتسرب لها من فتحات ضيقة بسترتها الصوفية، لكنه ما باليد حيلة، تتأكد كلارا من إحضار حقيبتها من المقعد المجاور، تغلق السيارة وتبدأ السير بالطريق المعتم.

 الخريف على وشك الانتهاء؛ يمكن بالكاد شم رائحة الشتاء في هواء الليل البارد، لا ترتدي كلارا ملابس ثقيلة دافئة، فبعد خمس دقائق من المشي، يلفح الهواء البارد حلقها ويجمد أنفها فترى أنفاسها كما لو أنها تطفو أمامها. متسارعة فى مشيها مع تردد صدى كعب الحذاء في الليل.

فجأة بعد منعطف، يظهر ضوء على جانب الطريق، من منزل عبارة عن كوخ.

“لقد وجدته اخيرا” تردد كلارا بابتسامة على شفتيها الباردة. لم يكن هناك منازل حول الكوخ الصغير، ولا مصابيح شوارع أو مبانٍ  ولا حتى أى أشخاص على بعد أميال، الشيء الوحيد الذي يفتح فسحة في الظلام هو ذلك الضوء الصغير على الشرفة، والذي يسحب ويجذب كلارا الآن كأنها حشرة.

تتسلق درجتين إلى الشرفة وهى على وشك الانزلاق بسبب الصقيع الذي تشكل على الدرج، لكنها  تتشبث بحقيبة كبيرة من القماش الأخضر الزمردي تحت كتفها وتدق الباب مرتين.

يظهر رجل على عتبة الباب. يسأل كلارا بابتسامة: مرحبا، هل أنت تائهة!

تنظر إليه بتمعن للحظة، رجل يكبرها بثلاثين عامًا تقريبًا ذو شعر بني رغم وخط بعض الشيب، عيناه بنيتان، بنفس طولها تقريبًا، يرتدي سترة مفتوحة مع قميص جينز أسفلها وبنطلون مضلع قصير، يبدو لطيفًا، طبيعيًا وابتسامته غير جارحة أو مهينة.

تجيب: نعم، ليس بالضبط، لكن سيارتي قد نفذ وقودها، وكان علي أن أتوقف على كتف الطريق (حارة توقف الطوارىء بالطريق السريع) وليس هناك تغطية لشبكة المحمول، فهل لديك تليفون أرضي، أو تمانع إذا اتصلت بشاحنة للسحب؟

ينظر الرجل إليها محاولا أن يقرر. ثم يجيب: “بكل تأكيد، تفضلي”، وهو يتنحى جانباً لتتمكن من دخول المنزل، يمكنك الاتصال بشاحنة السحب من هاتفي، والبقاء حتى وصولها، فالمكوث بالخارج في الظلام أمر مخيف ومقلق لا أحد يعرف ما قد يكون في الغابة بعد الغروب.

الضوء المنبعث من داخل الكوخ يغمر الشرفة الصغيرة، تشم كلارا رائحة قهوة مع صمغ الشجر وشيء آخر لا تستطيع أن تميزه. تردد وهي تدخل المنزل: “شكرا لقد انقذت حياتي”.

يغلق الرجل باب الكابينة خلفها وتشعر كلارا بقشعريرة عابرة في مؤخرة رقبتها، كما لو كانت كافية لتذكرها بسبب وجودها هنا.

يقترح الرجل عليها بلطف: “سأتصل أنا بعربة السحب إذا كان هذا يروق لك؛ وبذلك أستطيع أن أحدد لهم المكان بالكيلومتر، بالضبط الذي توقفت عنده السيارة؛ حتى لا يقضوا الليل كله في الدوران صعودًا وهبوطًا على هذا الطريق، فهو لا تمر عليه العديد من السيارات هنا.

ودون انتظار ردها، يتجه الرجل نحو طاولة خشبية صغيرة بجوار أريكة مخملية ويلتقط الهاتف.

تلقي كلارا نظرة سريعة حول الكوخ فهو عبارة عن؛ غرفة واحدة، فقط، بالإضافة لغرفة المعيشة والمطبخ، اللذان ينفتحان مع بعضهما البعض، أريكة مخملية مخططة بمربعات من الأحمر والأخضر، مدفأة، هناك، أيضًا، طاولة عليها لاب توب مفتوحا. تستمع إلى الرجل وهو  يعطي تعليمات لشخص ما على الطرف الآخر من الهاتف: هذا هو بالظبط، الكابينة الموجودة على جانب الطريق، الوحيدة الموجودة قبل الوصول إلى المدينة، بعد “كهف الموتى”. نعم… لا … لم تقولين لي اسمك.

تستدير كلارا لتنظر إليه وهو ينتظر بصبر شادا سماعة الهاتف إلى أذنه.

تهمس قائلة: “كلارا”.

ردد قائلا: “نعم.. أفهمك.. حسنًا.. أى  نعم.. أفهم ذلك.. واضح.

ينتهي الرجل من إعطاء التوجيهات لشركة سحب السيارات ويغلق الهاتف. يقول بنبرة المعتذر: “الخبر السار هو أن بإمكانهم الحضور الليلة لأخذ سيارتك، أما السيء هو أن الأمر سيستغرق ساعتين.

ترد فى دهشة: “ساعتان!”

يستطرد قائلا: “هذا إذا حالفك الحظ؛ فقد أخبرني أنهم ربما لا يتمكنون من الحضور قبل ثلاث أو أربع ساعات؛ فهناك حادثة كبيرة على الطريق الرئيسي، على بعد ستين ميلاً من هنا، وهم بحاجة إلى كل القوات المتاحة.

تفلت كلارا تنهيدة وتنظر إلى السقف الخشبي للكوخ، ثم تقول وهي تزيح خصلة من شعرها خلف أذنها: “اللعنة فلا أستطيع الانتظار كل هذا الوقت. يجب أن أكون في مكان آخر غدًا، إنه عيد ميلاد أمي وقد وعدتها بالحضور؛ فنحن لسنا قريبين بالقدر الكافي لبعضنا البعض، ولم تكن السنوات القليلة الماضية سهلة على عائلتي، فأنا أدرس بعيدًا، وكان لدي أمل أن أستطيع حضور عيد ميلادها. ياللحماقة! أليس كذلك!”

هز الرجل رأسه بالنفى قائلا: لا أعتقد أنها حماقة على الإطلاق؛ فأنا ليس لدي عائلة قريبة؛ لقد مات والداي منذ سنوات، لم أتزوج أبدًا  وأعيش وحدي هنا منذ ما يقرب العشرة سنوات، لكن أعتقد أنني أتفهمك.

حاولت كلارا أن تفتعل ابتسامة لترد وهي تتلفت حولها: “إنه كوخ مريح، فيه دفء وألفة البيوت الصغيرة بالغابة، البيوت التي يحكى عنها في قصص كانت تقرأها والدتي لي ولأختي عندما كنا صغارًا، غابة مظلمة ومنزل خشبي حيث يعيش حطاب طيب.

يرد وهو يبتسم: “حسنًا، لكني لست حطّابًا، أنا أعمل بمجال البيع  عبر الانترنت، هو ليس بالعمل الذي يجعل منك شخصا ثريا، لكنه يسمح لي بالعيش في سلام دون الحاجة إلى مغادرة المنزل.

تنظر إليه كلارا فى اندهاش: “لا تخرج أبدا من هذا المنزل! أعتذر هذا ليس من شأني”.

لكن يرد الرجل بابتسامة ودودة: ” لا عليك. طبيعي أن  يبدو ذلك غريبا،  غير مألوف، بالنهاية أنت شابة صغيرة وجميلة، تذهبين وتمرحين كما يحلو لك، لكن أنا ها قد وصلت حد العمر الذي تكون به أقصى سعادتي أن أبقى وحدي وأن أذهب دون أن يلاحظني أحد، هل تفهمينني!

أومأت كلارا برأسها ببطء.

ثم يتابع قائلاً: “هذا هو بالضبط ما جعلني أشتري هذا المنزل فأنا أدير عملي عبر الانترنت، ومرة بالشهر، تحضر امرأة من المتجر في المدينة بمستلزمات البقالة، ولوازم المنزل. تتركها على الشرفة إذا كان الباب مغلقا، وبذلك ليس علي حتى أن أخرج للتسوق.

تعلق كلارا: أحب ذلك، فهو مثل خلوة روحية أو ما شابه ذلك.

يضحك الاثنان معًا.

يرد: نعم، أعتقد أنه شيئًا مشابهًا لذلك! موجها سؤاله، هل تريدين قهوة؟ أقصد وبينما أنت تنتظرين وصول شاحنة السحب؛ فالليلة باردة، وأرى أنه ليس لديك معطف، بالتأكيد قد أصابك البرد أثناء السير عبر الطريق.

ترد: أود ذلك، أشكرك.

– عظيم إذن! تصرفي كما لو أنك فى بيتك.

لكن كلارا لما تجلس بعد، كما أنها تبحث طول الوقت عن شيء ما في حقيبتها.

– وما هو اسمك! تسأل الرجل، الذي وضع للتو قدر قهوة من الحديد على النار، أنا لم أسألك! وبمزح؛ فوالدتي لا تحب أن أبقى وحدي في منزل شخص غريب وسط الغابة وفي منتصف الليل.

– سانتياغو.. هذا هو اسمي، لكن الجميع ينادونني سانتي.

تمشي كلارا ببطء إلى المطبخ دون أن تترك حقيبتها، تمد يدها له: “تشرفنا”

– أرأيت! الآن لم نعد غرباء، وأنا رجل طيب، لا داع للقلق، ووالدتك يمكن أن تكون مطمئنة الان.

تجيب كلارا بابتسامة: نعم.. أتمنى أن أخبرها بكل ذلك، الحطاب الغامض الذي أنقذني في منتصف الليل أثناء عطل السيارة.

يضحكون و تبدأ القهوة في الفوران فوق النار.

يستدير سانتي لصبها: أتريدين لبن وسكر؟ يسأل، وهو يسحب كوبين من الرف الوحيد في المطبخ.

– لا شكرا، أنا أحب القهوة بدون إضافات.

يصب القهوة، ويعطي واحدة لكلارا: غريب فليس احتساء القهوة السادة بأمر معتاد للفتيات؛ أقصد، عادة ما تحبون القهوة مع قليل من السكر.

أجابت: حسنًا، أنا بخلاف الفتيات الأخريات، دائما يقولون أنني ناضجة جدًا بالمقارنة لعمري، وأعتقد أن هذا هو السبب.

تضع كلارا حقيبتها وتجلس على الأريكة المصنوعة من المخمل أمام المدفأة، بينما يترك سانتي كوبه الذى يخرج منه البخار الساخن على الطاولة الخشبية، بجانب كلارا، ثم يعود إلى المطبخ باحثا عن شيء ما في الخزانة.

يمزح وهو لا يزال فى المطبخ: أعتقد أنك كبيرة بما يكفي للشرب فأنا من أولئك الذين يعتقدون أنه سيتحسن الشعور بالبرد بإضافة قليل من الكحول إلى القهوة.

يحمل سانتي زجاجة كونياك في يده ويبتسم وهو يجلس بجانبها على الأريكة، قريبًا جدًا من ساقيها.

تقول بابتسامة خفيفة تطبع على شفتيها: نعم، بالطبع أنا كبيرة بما يكفي لأشرب، لكنني لست معتادة عليه فمنذ بضع سنوات، عانت والدتي من مشكلة صغيرة بسبب الكحول، ليست مشكلة خطيرة، لكن بعد ما حدث لها، لم يعد يروق لي كثيرا الكحول.

يرد سانتي: يا له من أمر محزن! أنا آسف، ويبدو أنه يتحدث، حقًا، متأثرا، بصدق شديد.

لكنه يفتح الزجاجة ويضيف جرعة كبيرة إلى كوبه، تراقبه كلارا في صمت. يمكنها أن تشم رائحة الخمور التي تفوح في جو الكابينة.

تستطرد: نعم، مرت عائلتنا بفترة صعبة، كنا الاثنتين، فقط، مع بعضنا البعض، أنا وأختي، لكن للأسف ماتت أختي، وتركنا والدي قبل بضعة أشهر؛ لذا…

يرفع سانتي كوبه ويرشف من القهوة، فيصيبه طعم الكونياك اللازع بحرقة في نهاية حلقه.

يثني على القهوة: حقا قوية ولاذعة. عذرا، كنت تحكين عن عائلتك، هل تخلى والدك عنك! يا للأسف! فإذا كان لدي ابنة جميلة مثلك، فبالتأكيد لم أكن لأتركها أبدًا، ولا أتخلى عن والدتك.

تناول رشفة آخرى، لكن على فترة أطول هذة المرة، بينما تراقبه كلارا وهو يشرب بعيون واعية، وهي لم ترفع الكأس إلى شفتيها لمرة واحدة.

تستطرد كلارا بابتسامة خجولة: لا أريد أن أجعلك تشعر بالملل بسرد دراما عائلتي، ماذا عنك أنت؟ أليس لديك صديقة، حبيبة، أي شيء!

– لا، لا شيء، لقد أخبرتك من قبل أنني أحب عيش حياة هادئة، هنا، في وسط الغابة، وعلى كل حال، فلم تكن علاقاتي، أبدًا، مع النساء سلسة.

ترف وتتسع حدقتا كلارا، متفاجاءة: علاقات سلسة! أنا لا أفهم.

يتنهد سانتي بمرارة آخذا رشفة أخرى من قهوته: بالطبع؛ فالرجال والنساء مختلفون تمامًا، كما تعلمين؛ وفي النهاية، دائما، تظهر التوترات والمشاكل.

على الرغم من وجود وهج المدفأة، لكن شعرت كلارا أنها غير مرتاحة ورغم سترتها الصوف، تشعر بالبرد وتشد الأكمام كما لو أنها تخفي يديها، بينما يتفحصها سانتياغو؛ تبدو ضعيفة، رقيقة، تجلس بجانبه بشعرها الأشقر الفاتح، أصابعها الهشة مختبئة تحت أكمامها وشفتيها الوردية بدون مساحيق تجميل. يرشف سانتيغو لعابه مع رشفة أخرى من قهوته لإخفاء رد فعله.

تشعر كلارا أن عينيه مثبتتين عليها، تنهض متحاملة ببطء من الأريكة لتتحرك عبر الكابينة. بينما اللاب توب مفتوحًا على المنضدة، يلفت انتباهها مجسم لامع؛ إنها ككرة ثلج، من ذلك النوع المصنوع كأن منظر طبيعي مصغر بداخله، يبدو به غيوم ثلجية عندما تهز الكرة، لكن داخل تلك الكرة على غير العادة، لا يوجد منظر طبيعي، لكنها راقصة شقراء ترتدي باليرينا وفستانًا ورديًا رقيقًا، استوقفتها، لتحدق بها من الجانب الآخر، بهدوء دون أن تبين رد فعلها في محاولة لإخفاء مشاعرها، تهز الكرة برفق فتثير عاصفة ثلجية وهمية في الداخل.

تتمتم دون أن تبعد نظرها عن الثلج الذي يطفو حول راقصة البالية: يا لها من كرة جميلة، عندما كنت صغيرة أحببت كرات الثلج؛ فقد كان يشدهنا أنا وأختي، كيف تبدو المدن المصغرة مغطاة بالثلوج. من أين أتيت بها! صراحة، لا أبتغي مضايقتك؛ لكنها لا تتناسب مع باقي الأثاث.

ينهض سانتياغو من على الأريكة، في يده الكوب متناولا رشفة أخرى قبل أن يصل إليها: “إنها من حب قديم؛ الشيء الوحيد المتبقي منها، كان المفترض التخلص منها، لكنني شخص عاطفي. الذكريات ووو ..الخ  كما تعلمين.

– نعم، أعرف… تهز كلارا الكرة مرة أخرى، على جانب آخر نحو القاعدة حيث يوجد مفتاح صغير، جعلته يدور ببطء. وتضيف: إنه لحن (من أجل أليسا) من معزوفة لبيتهوفن، كنت دائمًا أحب هذا اللحن.

تملأ نغمات الأغنية فضاء كابينة المنزل، يأخذ سانتياغو رشفة أخرى من قهوته لكن حينها أدرك شيئًا ما. يتساءل مندهشا: كيف عرفت أي أغنية  ستعزف داخل كرة الثلج! لقد ذكرت ذلك قبل أن يبدأ اللحن! لا تقولي أنك عرافة، أو شيء من هذا القبيل.

تضحك كلارا بهدوء تاركة كرة الثلج على الطاولة مرة أخرى والموسيقى لا تزال تصدح في الغرفة: لا، لا شيء من هذا القبيل، كانت أختي الكبرى تدعى أليسا، لذلك كنت أعرف. عرفت أي لحن ستصدره الكرة؛ فقد أهدتها أمنا كرة شبيهة يوم بلغت التاسعة عشرة من عمرها ومن المثير أن عيد ميلادها كان قبل أمي بيوم واحد.

يعبس وجه سانتياغو، ترتجف يده قليلاً وهو يعيد الكأس إلى شفتيه: يا للغرابة! فأنا لم أكن أعرف أختك، وسبق أن قلت لك عن كرة الثلج تلك،  أنها تعود لحب قديم… ثم تصبح يد سانتي مهزوزة، فاقدة التحكم، مرتخية، لا يستطيع حتى أن يمسك الكأس؛ فيسقط منثورا إلى ألف قطعة، لكن كلارا تبقى ثابتة لا تتحرك، تبتسم فقط.

تخرج كلارا ظرفا بلاستيكا صغيرا من جيبها، لا يزال به أثر مسحوق أبيض: هل تشعر بالمرض، سانتي! عذرًا، إنه بسبب جرعة زائدة من مادة اللورازيبام، وضعتها في قهوتك، علاوة على ذلك، قمت أنت بتسريع الأمور بتناول الكحول.

 حدق سانتي في بقايا الكوب المكسور على الأرض، حينها بدأ يعي ما حدث، لكن بعد فوات الأوان. حاول أن يمسك حافة الطاولة للوقوف إلا أن ساقيه كانتا تتعثران وركبتيه لا تقويان على الوقوف.

– ماذا، ماذا فعلت! يتلعثم مع ثقل لسانه.

– شيء أفضل بكثير، أظن، مما فعلته بأختي أليسا.

يسقط سانتياغو على أرضية الكوخ، ولا يستطيع سوى تحريك ذراعه، يتنفس بصعوبة، ينساب خيط رفيع من لعابه الساخن على ذقنه.

– أنت لم تواعد أختي، أبدا، حتى أنها لم تكن تعرفك قبل أن تقتلها، فبعد ظهر أحد الأيام، نزلت إليسا من الحافلة التي كانت تقلها إلى الجامعة، ولم تعد إلى المنزل مرة أخرى، كان هذا يوم عيد ميلادها، كانت معها كرة الثلج هذة في حقيبتها عندما اختفت، إذ أهدتها أمي إياها ذاك الصباح. لم يعثروا على جثتها.

يتمتم: سافلة… لكن كلارا تبتسم.

– هل تعلم! وأنا مازلت مجرد طفلة، كنت أراك جالسًا في قاعة المحكمة؛ بينما كانت والدتي تبكي، بعد ذلك عندما تم إطلاق سراحك، رأيتك في الصحف وعلى شاشات التلفزيون لعدة أشهر، تتحدث عن “الخطأ القضائي” الفظيع، الذي ارتكب بحقك، و”ظلم سانتياغو خيمينو”.

تتوقف كلارا، لبرهة، تستعيد فيها الذكريات: لكن قبل عامين، اختفت فتاة أخرى على هذا الطريق بالتحديد، بعد أن فوتت الحافلة، عرفت ذلك، حينها، قررت ما سيكون علي فعله.

يحاول سانتياغو الزحف على الأرض للوصول إلى الهاتف لطلب الإنقاذ لكنه لم يستطع.

– إذا كنت قد قتلت أختي، وتلك الفتاة المسكينة الأخرى، فقد كنت تود قتلي، أيضًا، اليوم. على العموم، يقول الجميع أنني الصورة الحية لأختي الكبرى، لكن كان علي أن أسهل الأمر عليك وأبدو كوحيدًة تائه في وسط الغابة.

يتذمر على الأرض: الرافعة، شاحنة السحب؛ فقد اتصلت وأعطيت رقم لوحة سيارتك واسمك وسيعرفون أنك كنت هنا.

– كلانا يعرف أنك لم تتصل بأي أحد.

كانت حقيقة، فقد تظاهر سانتياغو، فقط، أنه يتحدث على الهاتف.

يتمتم: لن أخبرك أين دفنتها، لن تجدينها أبدًا، ثم يتظاهر بأنه يضحك ولكنه يبدو أشبه باللهاث أو الحشرجة.

تنظر إليه كلارا بازدراء واقفة من فوقه: أنا لست هنا من أجل ذلك.

تمشي نحو حقيبتها على الأريكة، تقلب فيها بحثًا عن بعض الأربطة البلاستيكية، أعدتها بعناية من قبل، جلست بجانبه، ربطت يديه خلف ظهره وهي تميل على أذنه وتهمس: لن يجدوك أبدًا… لن يجدوك أنت أيضا، أبدًا.

بعد ثلاثة ساعات، تجلس كلارا خلف محرك سيارتها الجولف، انطفأ الضوء الأحمر على لوحة القيادة بعدما أضافت زيت محرك أخذته من الكابينة.

لقد دفنت سانتياغو بالفعل في مكان سري في الغابة، المكان نفسه الذي أعدت به الحفرة له قبل أيام قليلة، لم تكن تعرف ما إذا كان لا يزال على قيد الحياة عندما دفنته ووجهه لأسفل، داخل الأرض الرطبة، قبل أن تعود إلى الكوخ، نظفته بالمكنسة الكهربائية لتمحو آثار وجودها. قبل أن تغادر، أخذت كرة الثلج داخل حقيبتها.

الآن، كرة الثلج في المقعد بجانبها، تراقبها الراقصة وهي تغادر الطريق الفرعي؛ إذ كانت في عجالة من أمرها؛ فلا يزال بإمكانها الوصول قبل عيد ميلاد والدتها، ولديها هدية مميزة.

تنظر كلارا إلى كرة الثلج بابتسامة، وتدوس مكابح السرعة.

………………….

أليتث لسياجا: Alaitz Leceaga

  • كاتبة قصص قصيرة من مواليد بلباو اسبانيا عام 1977.
  • نشرت العديد من القصص القصيرة باللغتين الإسبانية والإنجليزية على منصات الإنترنت المختلفة.
  • اصدرت روايتين الاولى El bosque sabe tu nombre ( الغابة تعرف اسمك) عام 2018
  • و الثانية las hijas de la tierra ( بنات الارض ) عام 2019
  • اصبحت هذة القصة مؤخرا ضمن كتاب لقصص قصيرة مجمعة بعنوان Heroinas ( البطلات ) عام 2020 شارك فيه العديد من الاسماءالادبية لمناصرة قضايا المرأة .  

 

مقالات من نفس القسم