الكاهن الملعون

لافكرافت
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

هوارد فيليبس لوفكرافت

ترجمة: بلعلى يونس

كان الرجل الذي قادني إلى غرفة العلية ذو مظهر حاد ونظرة ذكية وملابس بسيطة ولحية رمادية كالحديد، خاطبني بهذه العبارات:

“نعم، هذا هو المكان الذي عاش فيه. لكني لا أنصحك بفعل أو لمس أي شيء. ففضولك يجعل منك شخصا غير مسؤول. نحن لا نأتي إلى هنا أبدًا في الليل، وما علينا إلا أن نحترم رغباته الأخيرة في المحافظة على هذا المكان كما هو. أنت تعرف ما فعله، فعندما كان على وشك الانتهاء من تجاربه تولت تلك الجماعة البغيضة زمام الأمور في النهاية، ولا نعرف حتى مكان دفنه، ولم يكن هناك من سبيل للقانون أو لأي شيء آخر يمكن أن يصل إلى هذه الجماعة.”

 “آمل ألا تبقى حتى حلول الظلام. وأرجو منك أن ألا تلمس هذا الشيء الموجود على الطاولة والذي يشبه علبة أعواد الثقاب. لا نعرف ما هو، لكننا نشك في أن له علاقة بما كان يفعله. حتى أننا نتجنب التحديق فيه بثبات شديد.”

بعد فترة تركني الرجل وحدي في غرفة العلية، كانت قذرة ومغبرة للغاية ومؤثثة بشكل بسيط وبدائي، لكنها كانت أنيقة ومرتبة مما يظهر أنها ليست في الأحياء الفقيرة. كانت هناك أرفف مليئة بالكتب اللاهوتية والكلاسيكية، وخزانة أخرى تحتوي على أطروحات سحر: باراسيلسوس، وألبرتوس ماغنوس، وتريثيميوس، وهيرميس تريس، وبوريلس، ونصوص أخرى مكتوبة بأبجديات غريبة لم أتمكن من فك رموزها.

كان الأثاث بسيطًا جدًا، وكان هناك باب لكنه يؤدي فقط إلى مقصورة صغيرة. كان المخرج الوحيد هو الفتحة الموجودة في الأرضية والتي تقود الى سلم خشن وشديد الانحدار. كانت النوافذ على شكل عين الثور، وعوارض البلوط الأسود تكشفت عن قدم لا يصدق. من الواضح أن هذا المنزل كان من العالم القديم. بدا لي أنني أعرف أين كنت، لكن الآن لا يمكنني تذكر ما كنت أعرفه حينها. بالتأكيد لم تكن مدينة لندن فأنا احتفظ بانطباع وجود ميناء بحري صغير.

سحرني بشدة الشيء الصغير الموضوع على الطاولة. بدا أنني أعرف ماذا سأفعل به، لأنني سحبت مصباحًا يدويًا من جيبي أو بالأحرى شيء مشابه له واختبرت ومضاته بعصبية، لم يكن الضوء أبيض، بل بنفسجيًا، بدا وكأنه توهج إشعاعي أكثر منه ضوء حقيقي. أتذكر أنني لم أعتبره مصباحًا يدويًا عادياً (في الواقع كان لدي مصباح يدوي عادي في جيب آخر).

كان الظلام قد حلٌ، بدت الأسطح القديمة والمداخن في الخارج غريبة للغاية عند النظر إليها من خلال زجاج نافذة عين الثور. أخيرًا استجمعت كل شجاعتي وسندت الشيء الصغير على الطاولة مقابل كتاب ثم وجهت أشعة هذا الضوء البنفسجي الغريب عليه. بدا الضوء الآن وكأنه مطر أو بَرَد من جسيمات بنفسجية صغيرة أكثر من كونه شعاعًا مستمرًا. عندما اصطدمت الجسيمات بالسطح الزجاجي في مركز الجهاز الغريب أطلقت فرقعة مثل شرارة تمر عبر أنبوب مفرغ، وانبعث من السطح الزجاجي الداكن توهجًا ورديًا، ويبدو أن شكلًا أبيض غامضًا يتشكل في وسطه، عندها لاحظت أنني لم أعد وحدي في هذه الغرفة – وأعدت جهاز عرض الأشعة في جيبي.

لكن الوافد الجديد لم يتكلم – ولم أسمع أي صوت أو ضجيج مهما في كل اللحظات التي أعقبت ذلك مباشرة، كل شيء كان إيمائيًا غامضًا كما لو كان يُرى من مسافة بعيدة عبر الضباب المتداخل – على الرغم من أن الوافد الجديد وجميع القادمين اللاحقين كانوا يلوحون في الأفق بشكل كبير وقريب كما لو كان قريبًا وبعيدًا في الوقت نفسه وفقًا لبعض الهندسة غير الطبيعية.

كان الوافد الجديد رجلاً نحيلاً داكن اللون متوسط القامة يرتدي الزي الإكليركي للكنيسة الأنجليكانية، يبدو أنه كان يبلغ من العمر ثلاثين عامًا تقريبًا، لم تكن بشرته الخضراء الشاحبة كلون الزيتون مزعجة، كانت ملامحه مبهجة الى حد ما رغم جبينه المرتفع والبارز بشكل غير طبيعي. كان شعره الأسود مقصوصًا بشكل جيدًا ومصفوفاً بكل بدقة، وكان حليق الذقن نظيفًا على الرغم من ذقنه الزرقاء التي يخلفها النمو الكثيف للحية. كان يرتدي نظارات بدون إطار بأقواس معدنية، بنيته وملامح وجهه السفلية لم تكن مختلفة عن رجال الدين الآخرين الذين رأيتهم، لكنه كان لديه جبهة أعلى بكثير، وكان أكثر قتامة وذكاءً وأكثر دقة وغموضا من الآخرين، كان هناك شيء شيطاني حول مظهره. كان قد أشعل لتوه مصباح زيت خافت، بدا متوترًا، وقبل أن يتاح لي الوقت لتوقع إيماءته كان قد ألقى بكل كتبه السحرية في مدفأة على جانب نافذة الغرفة (حيث كان الجدار مائلًا بحدة). التهمت النيران المجلدات بشراهة ومع ارتفاع ألسنة اللهب اتخذت ألوانًا غريبة وأطلقت روائح مقززة لا يمكن وصفها، حيث استسلمت الأوراق الهيروغليفية الغريبة والأغلفة الدودية للعنصر المدمر. ثم لاحظت في الحال أن الأشخاص الذين رافقوه الى الغرفة يرتدون زيًا دينيًا، يبدو وكأنهم رجال قبور، وكان أحدهم يرتدي عصابات (السديلة) وسروالا أسقفياً قصيراً. على الرغم من أنني لم أسمع شيئًا إلا أنني استطعت أن أدرك أنهم كانوا يتخذون قرارًا بالغ الأهمية للوافد الأول (الكاهن). بدا أنهم يكرهونه ويخافونه في الوقت نفسه، فكان يقابلهم بنفس المشاعر، فاتخذ وجهه تعبيرا قاسيا وقاتما، رأيت يده اليمنى ترتجف وهو يحاول الإمساك بظهر كرسي. أشار الأسقف إلى الخزانة الفارغة والمدفأة (حيث خمدت ألسنة اللهب وسط كتلة متفحمة)، وبدا مليئًا بالاشمئزاز، ثم رسم الوافد الأول (الكاهن) ابتسامة ساخرة وجافة ومد يده اليسرى نحو الشيء الصغير الموضوع على الطاولة. عندها بدا الجميع خائفين. بدأ موكب رجال الدين ينزلون السلالم شديدة الانحدار عبر باب المصيدة في الأرض، وأثناء مرورهم استداروا وقاموا بإيماءات التهديد وهم يغادرون، وكان الأسقف آخر من غادر.

ذهب الوافد الأول (الكاهن) الآن إلى خزانة على الجانب الداخلي للغرفة واستخرج لفافة من الحبل. صعد على كرسي وربط أحد طرفي الحبل بخطاف كبير عالق في العارضة المركزية الكبيرة من خشب البلوط الأسود، وبدأ في صنع حبل المشنقة بالطرف الآخر. بعد أن أدركت أنه كان على وشك شنق نفسه تقدمت لثنيه أو إنقاذه، حينما رآني أتقدم إليه توقف عن استعداداته وحدق إلي بنوع من الانتصار الذي حيرني وأزعجني. نزل ببطء من الكرسي واقترب نحوي بابتسامة ذئب شريرة على وجهه الداكن وشفتيه الرقيقتين.

شعرت بطريقة ما أنني في خطر مميت، واستخرجت مصباح عرض الشعاع الغريب كسلاح دفاعي، لا أعرف لماذا اعتقدت أنه يمكن أن يساعدني. قمت بتشغيله وارسلت الشعاع في وجهه مباشرة، ورأيت ملامح وجهه الشاحبة تتوهج أولاً باللون البنفسجي ثم بالضوء الوردي. لقد افسح تعبيره عن الابتهاج الشيطاني ليتحول تديرجيا الى نظرة من الخوف العميق، والتي مع ذلك لم تحل بالكامل محل الابتهاج. توقف عن التحرك إلى الأمام ثم بدأ يتأرجح إلى الوراء وهو يرفرف بذراعيه بقوة في الهواء. رأيت أنه كان يتجه نحو الباب المسحور للسلم المفتوح على الأرض، حاولت أن أصرخ لتحذيره لكنه لم يسمعني. وفي اللحظة التالية ترنح للخلف وهوى في الفتحة واختفى.

وجدت صعوبة في التحرك نحو فتحة السلم، لكن عندما وصلت إلى هناك لم أجد أي جثة محطمة على الأرض التحتية. على العكس من ذلك كانت هناك مجموعة من الناس يصعدون بالفوانيس لأن تعويذة الصمت الشبحي قد انكسرت، وسمعت مرة أخرى أصواتًا ورأيت أشكالًا ثلاثية الأبعاد. من الواضح أن شيئًا ما قد جذب الحشد إلى هذا المكان. هل كان هناك ضجيج لم أسمعه؟ في الوقت الحالي رآني الشخصان اللذان كانا على رأس المجموعة (ويبدو أنهما قرويان بسيطان) ووقفا مشلولين وصرخ أحدهم بصوت عالٍ وصدى :

 “آه!… ماذا ! ماذا ! مرة أخرى؟”

 ثم استداروا جميعًا للخلف وهربوا بشكل مذعور، كلهم ما عدا واحد. عندما اختفى الحشد رأيت الرجل الحاد ذو اللحية الذي أوصلني إلى هذا المكان، كان واقفًا بمفرده حاملا فانوسا ويحدق في وجهي وهو يلهث مندهشا ومنبهرا، لكن لا يبدو أنه خائف، ثم صعد السلم وانضم إلي في العلية وهو يقول لي :

“إذاً لقد لمستها أنت لم تتركه بمفرده! أنا آسف ! أعرف ما حدث. حدث ذلك مرة واحدة من قبل، لكن الرجل خاف وأطلق النار على نفسه. ما كان يجب عليك إعادته، أنت تعرف ما يريد. لكن ليس عليك أن تخاف مثل الرجل الآخر، لقد حدث لك شيء غريب ومخيف للغاية، لكنه لم يصل إلى الحد الكافي لإيذاء عقلك وشخصيتك. إذا حافظت على هدوئك وتقبلت الحاجة إلى إجراء بعض التغييرات الجذرية في حياتك، فستظل قادرًا على الاستمتاع بالعالم وثمار معرفتك، لكن لا يمكنك العيش هنا ولا أعتقد أنك سترغب في العودة إلى لندن، أنصحك بالذهاب إلى أمريكا.

“يجب ألا تجرب أي شيء آخر مع هذا الشيء. لا شيء يمكن إرجاعه الآن. سيؤدي ذلك فقط إلى جعل الأمور أسوأ إذا فعلت أو استدعاء أي شيء. أنت لست في وضع سيئ كما يمكن أن تكون – ولكن يجب عليك الخروج من هنا في الحال والإبتعاد، من الأفضل أن تشكر السماء أنها لم تذهب أبعد من هذا….

“سأحاول أن أقوم بإعدادك بأقصى قدر ممكن من الصراحة. لقد خضعت لبعض التغيير في مظهرك الجسدي. إنه دائمًا ما يتسبب في ذلك. ولكن في بلد جديد يمكنك التعود على ذلك. هناك مرآة في الطرف الآخر من الغرفة، سأخذك إليها. ستصاب بصدمة على الرغم من عدم وجود شيء مثير للاشمئزاز فيما أنت على وشك رؤيته.”

كنت أرتجف الآن من خوف قاتل، وكاد الرجل الملتحي أن يحملني وهو يسير عبر الغرفة إلى المرآة، أمسك المصباح الخافت (أي ذلك الذي كان على الطاولة سابقًا، وليس المصباح الخافت الذي أحضره لي ) في يده الفارغة.

وإليكم ما رأيته في المرآة: رجل نحيل داكن البشرة متوسط ​​القامة يرتدي الزي الإكليريكي للكنيسة الأنجليكانية، على ما يبدو أنه في الثلاثين من العمر، وبنظارة بدون إطار، بأقواس معدنية تتلألأ عدساتها تحت جبين شاحب زيتوني اللون بارتفاع غير طبيعي.

كان الوافد الأول (الكاهن) الصامت الذي أحرق كتبه.

بالنسبة لبقية حياتي في الشكل الخارجي كان علي أن أكون ذلك الرجل!

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم