كازينو الشجرة

حسين عبد الرحيم
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسين عبد الرحيم

رأيته وهو يمشي في الظلام، لا أعلم كم من الأعوام مرت وهو بهذه الحال، نظرت إلى تلك الملامح التي أعرفها، دققت كثيرًا فلم أتبينه، ليس لقامته التي تطول وتقصر وتتلاشي في طريق كازينو الشجرة الذي مشى فيه كثيرًا، مسار طويل، يلازم الرصيف، الطريق حاد ومدبب يصل بين طلخا والمنصورة..

بيده البلطة تبرق في العتمة.

أسير بمحاذاته في الظلام، أتوقف مابين لحظة وأخرى، أدقق في الهيئة والملامح، يتوقف في ضجر، تحت عامود الإنارة تتأكد الملامح، بشعره الأشعث، هو الصبي والطفل، الشاب الذي تطوح وقت أن فرت العربة البيجو في سرعة لترمي بالغبار في الطريق.

 قلت إنه الحسين.

 خفت أن يعلو صوتي وأنا أتتبعه، خلسة خرجت من حارة سعيد بعد أن أمرني حسانين بالبحث عن ولده.

الأشجار ترتجف، غبشة الضوء تشير لأضواء هاربة قريبة من الكازينو، البيجو يتوسط بابها الأمامي الأيمن لوجو، صورة لفنار أزرق قديم وسط دائرة هوائية ونثار موج وفراغ وعبارة:

“أجرة بورسعيد”.

عينان تلهثان في دهشة وتوق، عاود الكرة وقد أبرز البلطة، يخاطب كائنات لا وجود لها، أسمع صوت السرائن، أضواء حمراء وزرقاء وسرينة إسعاف، ولوحة معدنية فسفورية “1967”

أتذكر ماحدث بالأمس:

_ لا أعلم ماذا حدث، وددت لو استوقفته في الظلام:

_ من أنت ؟

 أعرف أباه حسانين المستبقى.

لاح وقد وقف ينظر البونسيانا في شوق، يتتبع غمامًا طاف بالسماء، يصرخ وحده، يواصل المسير وقد خرج من داخله كل ماهو مكنون، اقتربت من وقفته، سألته:

_ إلى أين أنت ذاهب؟!

لم يجب، صار يهذي، يردد:

_  من أنا؟!

تبرز البلطة من جديد، في برقة سلاح ضوّى تحت عامود إنارة صدئ،  قال في غضب:

_ لابد من عودتي سريعًا حتى أرى جسدها، رقدتها!

 أنظر إليه في غرابة مشدوهًا وقد خرج من داخله أكثر من شخص يشبهونه، قال الصبي وقد استسلم لبكاءٍ مرير:

_ كان يجب أن أقفز من فوق السور. وقال آخر يكبره بأعوام:

– لابد من قتله. وقال شاب تتطابق ملامحه معه وبخاصة تلك الجبهة اللامعة الضيقة والشعر الغزير الناعم الذي طوّحه هواء الخريف والذي لاح في الضوء ببنطلون جينز وقميص سماوي و فوقه بلوفر نبيذي، وقال في هذيان:

 «أظننا قد تأخرنا كثيرًا على العودة لديارنا».

 أخرستني العبارة وكلي رغبة في القبض على هذا الكائن، وحِرتُ..أيهما هو الأولى بالمخاطبة والتحدث إليه، سؤاله عمّا حدث، صرخ وزعق حتى وصل صوته منتهى سماوات الله ودون نظر ولا مواجهة قال:

_ يجب ان أعود إلى حيث كنت.

 استدار، كان المستشفى العام على مقربة، الإسعاف يزعق بسرينة عالية وضوء أحمر هارب، فرار فمكوث فوق الردم والجدار الصلب المشطور، ناحية منزل رضا الليثي وخروجه للمرة الأولى حاملًا جسد أم هاشم المتفحم ملفوفا في بطانية صوفية سوداء، لا صوت يعلو فوق خرس الألسنة إلا من تطويح عكازين في الهواء لأحمد الكسيح وعينا مغمضة للغريب..

الحسين الذي نبش عينيه بأظافره وقت أن نادته الصديقة وسحبته من وسط الحارة عنوة ليدفعها بيده بغضب فتصفعه قائلة:

_ أين كنت عندما حدث ماحدث؟

 أين هذا الكوّاء الملعون؟

 الإسعاف واقف بلا حراك، الحارة ساكنة، الأدخنة تتصاعد سابحة في الغروب، فهمي المخبول يحرق أساس البيت، يرمي بأخشاب سريره الماهوجني، والحسين تكثر محاولاته لتفادي تكرار صفعات الأم، تلطمني على وجهي وصدغي وقفاي، أقول في نفسي:

_ أين أبي؟

 لا مجيب.

 الخلق منتشرون بطول حارة سعيد، من منحنى البازات وحتى آخر الحارة، قرب جسر النيل المؤدي للمرسى صار الغمام يحجب كل شيء، أدعك عيني فتتساقط الدموع في خرس، أتحسس موقعي في الحارة، أريد رد الصفعات للصديقة لتُرى في الظلام وقد تحولت لطيف شبحي يتعملق وسط الحارة، العم صفوان يناديني، يشدني، يخلصني من يد أمي ويقول في أسى:

 «عرفت كل شيء؟!».

 أتوه، أستعيد ماجرى منذ ساعات،

  ليال، سنوات، أيام،

 أستعيد ليالي وحدتي، جلوسنا معًا، تلك الأطياف الشبحية التي تخرج بشخوص خمسة من داخل جسدي، يشبهونني كثيرًا، إلا في لحظات الحلم.

  الإسعاف يتأهب للخروج من الحارة، أجري في الظلام وبيدي بلطة، شخص آخر يخرج من جسدي، يدعوني للولوج داخل عربة الإسعاف، أنظرها، أرفس أمي بقدمي، أتحسس دمًا ينزل من فمي، عيني المغمضة منتفخة، الدنيا ليل.

 خيالات تحرك بشرًا نائمين بجسدي، يرمون بمداد في روح طليقة، لا تعي أي مفهوم للزمن، ولا ماهية ما مقصودة للوقوف عند محطات بعينها أو مدن أو سنوات تمر منفلتة من بين يدي،

رأيت نفسي في صورة رجل يكبرني بعقد، بعيون عسلية و شارب كث، فتيّ وجسور، لا يخشى أحدا، يرمي بكراسات الصف السادس الابتدائي، يكفر بالكتب، يتعلق بكراسة التعبير، يقبض عليها، يقرأ بعين واحدة، شبه مفتوحة، شبه مغمضة، تاريخ جديد.

 أمكنة في انتظار المهجرين من مدن القناة وأولهم شعب بورسعيد البطل، أقفز متعلقًا بمؤخرة عربة الإسعاف، أنكفيء على وجهي، مع برق الضوء الأحمر وصمت السرينة، عند مطلع الجسر أسقط على صدري بكوعي ووجهي، لم أر إلا ذرات غبار شيطانية، تتطاير في حارة سعيد، تصعد لشرفات سامية الرقاصة الخرساء بنت الحامولي والتي نادتني فلم أرد، جريت في الظلام دون نية للعودة إلى بيتنا.

يسألني عم عابدين:

_ إلى أين كنت ذاهب وحدك منذ ساعتين؟

 لم أجبه، أسير وحدي وقد انتصبت خصلات شعري، طَفَتْ خيالات وهواجس تدعوني للرحيل، للهروب، لمساءلة هؤلاء الآخريين بداخلي، متى سيكون النسيان، متى ستكون العودة وماجدوى العودة !

_ أين الصديقة مما رأيت وعرفت؟!

 تناديني، أزوغ منها في الظلام، عيناي الكليلتان تحلقان بخيالاتي فيما مضي، أتذكر صراخها وحدها خلف سور الميضة.

  أنادي:

 «أم هاااااااشم».

العربة البيجو _ «أجرة بورسعيد».

 دائمًا ما تأتيني في الواقع قبل الحلم، في طرق وممرات، سكك لا أعرفها، لم أرها إلا في أحلام ما، لا أذكرها على وجه الدقة.

 تستطيل قامتي وقد سكنتني الهواجس، في سواد الليل وعتمة البيت، يختلط الحلم بالشطح، في طرقتي الوحيدة، هوت الضلفة الخارجية على الأرض.

 وحدي في عنوان الكائن أيًّا كان.

 ( 18حارة سعيد- طلخا)

 كرهت وجود أمي..

 بت أتحسس الطريق، سريري، الجدران والحوائط سوداء، لا ضياء، شعاع  نورٍ ضئيل يضوي في النافذة، منشور ضوئي من سماء الله، يحدد ملامح الخمسة القابعين بداخلي وقد توزعوا في وجوه وأطياف وخيالات وأشباح زادتني خرسا.

 أنصت لهؤلاء الخارجون من جسدي يلومونني وقد استوقفوني في محطات زمنية مضت، وأخرى آنية، وأخرى قادمة تتشابه مع فيوض من رؤى أحلامي الشبحية، في ذاكرة يقظة، نادتني الصديقة وأنا قرب النافذة أتحسس البلطة، أسأل نفسي:

 _ منذ متى، كيف وأين عثرت على هذا السلاح اللامع وحجبت الماكث في الظلام.

 

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون