خيري .. أغلال وطريق متعرّج

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

رانيا مغاوري

أيام الصيف لاتحمل وعوداً كاذبة. لاتحمل ورود الربيع ولانسمات الخريف ولا أمطار الشتاء. أيام الصيف صادمة..متشابهة..طويلة. أيام الصيف بحاجة لمن يأخذ بيدها ويقودها إلى الخارج. خارج أسوار الشمس والحر والرطوبة. خارج الصناديق والعلب التي تضيق بما تحوي. أيام الصيف متكاسلة  تجرعقاربها الثقيلة ببطء. النهار لايرحل.  والليل يقتله الشك..يدق الأبواب على أمل اللقاء بنسمات رقيقة هاربة من قيظ اليوم. يأفل الليل سريعاً جاراً وراءه أذيال الخيبة. تاركاً السماء لشمس تحتلها مع أول أنفاس الفجر. وشمس الصيف صَلِفة لاتغيب ولا تتوارى وراء غيوم. السماء مرتعها. تتخذ فيها موقعاً أول النهار ثم لا تلبث أن تضجر وتنتقل إلى مكان آخر. والشمس مشغولة طوال النهار تحيك نوراً وتشع حرارة. وفي الظهيرة تستقر في عنان السماء. يتلاشى أمامها كل شيء.وينفضح أمر كل شيء. تبدو قريبة كبيرة ساطعة..تمتد إليها الأيدي تكاد تلمسها..ولاتجرؤ العيون على التفرس في وجهها الناري. وحدها الطيور البرية تشق عنان سماء الصيف.. تكسر حواجز الحذر وتقترب من القرص الجهنمي في خرق...يصعقها اللهيب فتفر هاربة وهي تصرخ في فزع. وهنا يزأر القرص ويفغر فاهه منذراً مسلطاً ألسنته النارية على الحياة..فتطول التربة والشجر والرؤوس. تخلو الشوارع من البشر والقطط والكلاب . ويختفى اليمام والعصافير من الأجواء. وتدور الأشعة.. تميل وتستوي، تتوارى ثم تظهر وتنعكس فوق سطح الأرض والمياه. ويخيم سكون يائس منهك يبث أنفاثاً حارة تلهث في جميع الأرجاء.

وكعادته في أيام القيظ الرطبة وقف خيري في أحد الزوايا ساكناً مكبلاً بأغلال الحرارة. مهدداً بأشعة الشمس الحارقة المتسلطة. اتكأ بقامته الطويلة الهزيلة إلى ذلك العمود الرئيسي الذي يرفع بناية شاهقة يعتني بحديقتها. وحدها كانت البناية قادرة على مواجهة الشمس والقيظ. وكان عمودها الرخامي الضخم هو الملاذ الوحيد لخيري. فجعل خيري يستند إليه لعله يحظى ببعض برودة الحجر. أو لعله يستمد من تلك الاسطوانة الكلسية الصلبة طاقة تشحذ قواه التي خارت مع صهد الجو. أو لعله يركن إليه فقط ليستريح.

وقف خيري أمام الحديقة الصغيرة المجدبة التي ظل يعتني بها شهوراً. وهاهي موجة الحر العاتية تعصف بالحديقة وتقضي على كل ما زرع. سقطت الأوراق فتركت أجساد الأشجارعارية تنأى عنها العيون. وصارت الأغصان شائخة تنكسر مع أقل لمسة أو دفعة أو هبة ريح فتتحول إلى نشارة جافة بلا هوية. ذبلت الورود وتساقطت تويجاتها لتغطي وجه الأرض الأصفر المتشقق. انكمشت الحشائش وتحولت إلى لون مفقود. اختفى زهر الريحان الذي كان يسكن كل ركن. اختفى عبقه وحلت محله رائحة حشائش محروقة وحر جاثم وذرات تراب عابثة. هاهو التراب يغزو ويخترق كل ما يعترض وجهته هاهو يترك بصماته على كافة الوجوه . لا شيء يضاهي التراب في الركود والبقاء والإنتشار والتراكم.

حفرت الهموم خطوطاً عريضة على وجه خيري وتركت ظلالاً سوداء تحت عينيه. وسقطت شفتيه في تعبير حزين مشمئز بات لايفارق وجهه. كل من يعرف خيري لاحظ كيف كان يذوي يوماً بعد يوم. حتى تحول إلى عود جاف مثل نباتات الحديقة المجدبة. كما سقط كاهليه وانحنى ظهره تحت وطأة الهموم وقسوة الأيام. كان يفقد وزنه بشكل ملحوظ. فصارت ملابسه واسعة.  كما ضعف بصره وأصبح لايميز الأشياء أو وجوه الأشخاص. فكان كثيرا ما يحيي أحدهم ثم يكتشف أنه شخص آخر. ولذلك صار يوقف الناس ويتفرس في وجوههم. بل أنه أصبح يسألهم أحياناً عن أسمائهم. وزاد معدل بربشة عينيه إذا أطال النظر في وجه. ثم أصبح لزاماً عليه أن يرتدي نظارة. ظهر خيري بنظارة ثقيلة تحمل عدستين سميكتين. ثم لم تلبث أن سقطت منه وهو يزاول أعماله اليومية. وبمرور الأيام فقد خيري قدرته على التركيز وزاد سرحانه ونسيانه وانفصاله. أصبح يقول كلاماً في غير موضعه ويسمي الأشياء بغير أسمائها. وامام انحسار قدراته، اضطرب خيري وآثر الصمت والعزلة. وصار يبتعد ويختبيء إذا رأى القادمين. فقد أدرك أن خطباً ما ألم به. كان خائفاً من نفسه ومن الآخرين.  لكن خيري لم ينظر إلى نفسه في المرآة. لو نظر في المرآة لرأى كل ذلك ..لحاول اخفاءه.. لافتعل ابتسامة ..لزَيَّف نظرة عينيه..لكن خيري لم يكن لينظر أبداً في المرآة. 

كان خيري يحدق في الأفق البعيد متخطياً ببصره حدود الحديقة المجدبة والطريق المقفر ليستقر بصره على بقعة السراب. تلك البقعة البعيدة الممتدة بلا بداية ولانهاية. كانت لامعة وجديدة. هي بلا شك أكبر من بقعة الأمس. لكنها افترشت نفس البراح.  أخذته البقعة إلى البحيرة في مدينته الساحلية الصغيرة التي لم يعرف سواها. تلك المدينة التي حوت أيامه. كما حوت البحيرة والشاطيء والشباك والسمك والناس. وحوت الريحان، زهر الجنة المنتشر في البيوت..في الدواليب والأدراج وعلى الموائد.

وفي زحام وجوه مدينته لم تلتقط عينيه سوى وجه أبويه. فكان كثيراً ما ينتزع صورتهما من شريط ذاكرته ويتلمس ملامحهما الطيبة. فيبتسم أحيانا لابتسامتهما الصافية ويضمهما إلى صدره الأجوف. وفي أحيان أخرى كان يبكي دموعاً حارة ملتمساً فيها دفئاً لروحه المقرورة. كان يبكي وهو يراهما مبتسمين. يبكي لأنه استوحش لهما..يبكي لأنه خذلهما. نعم خذلهما ..مازال يتعرقل بكل حجر عثرة..مازال ينكسر مع كل ريح. لقد أسمياه خيري..أرادوه وأرادوا له الخير. لكن الخير لم يكن يأتيه دوماً، وكثيراً ما ضل الخير طريقه إليه.

ظل خيري واقفاً مستسلماً لحتمية الصهد والسكون والخواء، منفصلاً عن الكون من حوله. وقع فريسة للشمس التي استفردت برأسه الضئيل فصبت جام أشعتها عليه. احمرّ وجهه واكفهر كأنه يوشك على الانفجار. وبدت ملامح وجهه المطموسة مصهورة كقطعة من الصلصال المعجون. بينما اعتصرت الرطوبة جسده النحيل فابتلت ملابسه بالعرق. وبعد ساعات قضاها تحت نار الشمس دلف خيري إلى باب البناية واختفى لدقائق ثم ظهر من جديد وقد استبدل ثيابه وأخذ يدفع أمامه عربة يدوية صغيرة تحمل تلاً من الحجارة الجيرية المكسورة. كانت العربة قديمة متهالكة فألقت ثقلها على جسد خيري. كادت ذراعيه النحيلتين أن تتمزقا وهما تدفعان العربة.  بينما أوشكت قدماه على الانهيار من جراء دفع  الحمل الثقيل. وبعد بضع خطوات تساقطت الحجارة من جوانب العربة المكسورة. فتوقف خيري عن الدفع ونظر إلى الحجارة المبعثرة في يأس وجنون.  ركع خيري على ركبتيه في استسلام وأعاد ترتيب الحجارة. لكنه ما أن عاود الحركة والدفع حتى سقطت الحجارة من جديد. وقف خيري ينظر إلي الحجارة مستفسراً ثم انحني ليلتقط الحجر تلو الآخر في رتابة ووهن. أعاد ترتيب الحجارة ثم مضي ثم.. سقطت الحجارة وانحنى يجمعها مستسلما لعمل شاق مؤبد. غطت بقع العرق الكبيرة ظهرخيري وبلت ثيابه. بينما سال عرقاً غزيراً من رأسه على جانبي وجهه وتساقط زخات على سطح الأرض الساخن.

تلكأت الشمس في الرحيل، وبدأ الليل يتسلل في تَرَقُب. لكن الجو ظل حاراً قاسياً، وأبت الرطوبة أن ترحل. أخذ خيري يطوف في أرجاء المكان وعيناه تبحثان عن أشياء لايجدها ويعرف جيدا أنه لن يجدها. كان يسير ببطء يجر قدميه الثقيلتين. يستبد التعب بخيري فيبتعد. يسير في ظلام الليل بين أضواء المصابيح الواهنة يتلمس طريقه نحو حجرته الصغيرة بخطوات منهكة. كان يتعثر في بعض الحجارة التي سقطت منه في الظهيرة وتركها متجاهلاً وجودها. وفي الظلام انحنى لينتقي قطع الحجارة الصغيرة وينظمها. كان يضع الحجارة في خط متصل طويل متعرج.. يتبع خطوات خيري ليقوده إلى طريق يعرفه جيدا ويسلكه جيئةً وذهاباً، عشرات المرات كل يوم. كان خيري يرتب الحجارة بحرص من يخشى أن يضل وجهته..كمن يرسم طريقاً يقوده إلى وجهة جديدة. لعل شيئاً طال انتظاره يتبع ذلك الخط المتعرج ويسلك طريقه إلى خيري.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 قاصّة مصرية 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

قلب