التشبث بقوس قزح

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

هشام يحيى

1

تتآكل المدينة تدريجيًا، فأختبئ طويلا داخل سينما قديمة؛ سينما خالية تماما من الأنس كقلب ميت تنتشر فوق جدرانها الباهتة أفيشات فيلمي (سبارتكوس ) و( عمر المختار ) ..تقاوم الزمن والاهتراء، تعرض شاشتها مواعيد عرض – لن تأتي – للفيلمين، وحينما يتصاعد ضجيج التآكل وترتج السينما ..أضع رأسي بين فخذى، وأتشبث بأحد مقاعدها مترامية الأطراف .     

ينبض قلب السينما برائحة يود وملح ..ووهج طفلة من نور، تنبت من عدم، تتساءل الطفلة عن قوس قزح سيظهر علي الشاشة أم لا ؟!. أخبرها بأن المدينة تتآكل، وأني أنشغل كثيرا بوضع رأسي بين فخذي حماية لنفسي، فلم أهتم أن يظهر قوس قزح علي الشاشة أم لا من قبل .أنصحها بأن تتشبث بمقعدها، وتضع مثلي رأسها بين فخذيها، حتي تنجي من الضجيج والتآكل .وأن تنتظر لربما يظهر قوس قزح علي الشاشة .                                                                            

لاتكترث الطفلة بأي من قولي، تقضي الأوقات اليسيرة صامتة، ترسم بين الأفيشات ياسمينات وعصافيرَ بيضاء، تصنع كورا نورانية، ترمي بها أنحاء السينما المظلمة، ترغب في فتح أبواب السينما علي مصراعيها للجميع وإلا ” كيف أستطيع مشاهدة قوس قزح إن لم تفتح الأبواب ” لا أعرف العلاقة بين الأمرين ، أدعم الأبواب وأقويها، نحن لا نعرف كم أصاب المدينة من تآكل !!.

أتابع أحيانا سبارتكوس وعمر المختار، يتنقلان بين الأفيشات، يجمعان ياسمينات وريش عصافير يلتقطان بعض الكور النورانية، يرتقان بهم جسد سبارتكوس المهترئ ..ولحية وعباءة عمر المختار ومتي يتصاعد الضجيج وترتج السينما من جديد ..يتشبثا بالجدران الباهتة. لكن الطفلة حينها تقف فوق مقعدها دون حذر، تعقد يديها وتقطب جبينها، تتطلع إلي الشاشة في إصرار وشغف، تتشبث بأمل مشاهدة قوس قزح ، تخاف إن تنحني معي يفتُها مشاهدته .                                      

تكسر الطفلة مرة الصمت بيننا، تسألني هامسة : ما مدي تآكل المدينة ؟.. تلومني .. كيف تختبئ هنا دون فعل شيء؟.يتوقف سبارتكوس عن رتق جسده ويخفي المختار وجهه بعباءته المهترئة. أجيبها: “ذاكرتي لاتتشبث بشيء” ، أحتد عليها ” أنا لا أرغب سوي مأوي “. يعود الصمت ليفصل بيننا أتركها لأتأكد من قوة الأبواب ..ولأدعمها أكثر، لكني أتشبث بأنس وإجابة، فأعود لأسألها عن سر تشبثها بقوس قزح ؟. لا تجيب.. تتركني لتعود لرسوماتها وكورها النورانية.                       

2

تمر رحي السنين والطفلة تبحث عن أمل واهٍ، يرميها في دوائر مفرغة، تفتش عنه في أنحاء السينما المظلمة، تمنعني من حرق بكرات الافلام أتدفأ بها، تحاول اصلاح ما طرأ علي آلة العرض من تآكل .. لا تستطع، فتدور في البكرات تفتش عن قوس قزح ..كادرا بعد كادر..فلا تجده، يصيبها ملل، فتعود لترمم ما أفسده التآكل بالجدران، ترسم ياسمينات وعصافيرا بيضاء، تركز رميها للكور النورانية علي شاشة السينما البكماء ..ربما تحدث معجزة، لكنها تعلق في دائرة حرف (م) في كلمة معجزة ، وتدورفي (م ) بعض الكلمات أيضًا مثل 🙁 أمل- مفرغة – مظلمة – ملل – صماء ) ثم تستقر مجددا في كلمة معجزة.                                                                         

تمر رحي السنين والطفلة تدور في (م) المعجزة، فيلحقها الوهن، يخفت وهجها حتي تقترب من الظلمة، تذبل بين يديها الياسمينات وتتفتت العصافير. يضرب سبارتكوس قبضتيه بالجدران المتآكلة غاضبا، فلم يعد يملك ما يرتق به جسده ولحية وعباءة المختار. أختبئ طويلا بين فخذي حتي أهمل أبواب السينما، تضعف الأبواب أمام التآكل، يهزمها ثقل المتقاتلين بالخارج، فينبثقون من قلب السينما، بيض حمر صفر وسود، يتقاتلون علي مقاعد السينما مترامية الأطراف، يقتاتون علي جسد سبارتكوس، يحيكون شعاراتهم من لحية وعباءة المختار، لا تجدي مقاومتهما ولا تشبثهما بالأفيشات الباهتة أمام المتقاتلين .                                                                                    

تستجمع الطفلة ما بقي من وهجها في كورة نورانية أخيرة، تضرب بها الشاشة البكماء بكل ما بقي لها من أمل، فتعرض الشاشة كادرا بعد كادر متمهلة شلالات نياجرا، تحمم عند مصبه امرأة هندية طفليها. تبتهج الطفلة ..”متي تظهر الشلالات سيظهر قوس فزح”. ترسم في الهواء فوقها خطوط قوس قزح ،تنتظر من الشلالات تلوينه بالألوان المختلفة في تناسق، لكن (م) المعجزة تتحول لأنشوطة كاوبوي، تبدد قوس قزح المرسوم فوقها، تحيط بعنق الطفلين بمهارة فائقة، يسحبهما الكاوبوي خارج الشاشة، فتحتضن الهندية طفليها، تتشبث بالشلالات .يجر الكاوبوي الطفلين والهندية والشلالات خارج الشاشة بسهولة .تغمر مياه الشلالات أنحاء السينما .يهرب كيرك دوجلاس من جسد سبارتكوس، يتركه مصلوبا علي أمتدادت الجدارن، لا يزال يصرخ صرخات الحرب، يراقب كوين الموقف من بعيد، يحتار في أي مشنقة سيعلق المختار .                                   

( طحن العظام + تمزع اللحوم )∞ × ( صرخات حرب سبارتكوس المصلوبة + تكبيرات المختار المشنوقة )∞ = (دوامة هائلة في بحر من دماء). تقتات الدوامة علي أطراف المعادلة ونفسها، تمتص الشاشة والمقاعد، تمتص مياه الشلالات والمتقاتلين،تنتزع كبرك دوجلاس وانتوني كوين من الأفيشات و الجدران، تمتصني والطفلة ووهجا وياسمينات وعصافيرا ميتة، تتشبث الطفلة بيدي فالزورق لا يسع الجميع، نيرانٌ خلفنا، ودوامة الهروب أمامنا، لا أجد سبيل سوي أن نغطس أنا والطفلة حتي تنتهي المعمعة، أقنعها إن أغمضت عينيها ستري قوس قزح كبير، وبعدما تنتهي المعمة، ترمينا الأمواج علي رمال ساخنة، يفوح من الطفلة رائحة يود وملح، ينطبع في عينها اليمني سبارتكوس مصلوبا، واليسري المختار مشنوقا، وتحيط بعنقها ياسمينات ميتة .              

             ____________________________________
*قاص مصري

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

قلب