كأنني أحاول استرداد حياة غامضة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

المفارقة

سأحاول الآن استعادة كيف كتبت قصتي الأولى .. ما أقصده بالقصة الأولى هو الكيان اللغوي الأول الذي كان لدي اطمئنان وقتئذ لتسميته (قصة قصيرة) بعد محاولات عديدة للانتقال من (موضوعات التعبير المدرسية) إلى (الكتابة الأدبية) .. زمن الانتهاء التدريجي لمرحلة مبكرة كنت أتخيل نفسي خلالها داخل حكايات مختلفة، متقمصاً شخصيات الآخرين سواء كانوا الغرباء في الشارع، أو أبطال الكوميكس والروايات البوليسية وقصص الخيال العلمي وأفلام ودراما التليفزيون .. بداية قمع لم يكتمل حتى الآن لرغبة التحدث مع الآخرين، والمشاركة حتى في ما لا أقدر على فهمه أو استيعابه من تجاربهم، وأخذ دور فيها بأي شكل .. المحاولة تعني أنني لست واثقاً من صحة النتائج التي سأحصل عليها، أو بشكل أدق من انتماء تلك النتائج للحظة القديمة التي سأستعيدها؛ إذ أنه من المحتمل جداً أن يكون المؤثر الأقوى في تشكيلها هو رؤيتي الآن للماضي وليس الماضي نفسه .. (الاستعادة) إذن هي مغامرة لاقتناص الاحتمالات، أكثر منها إيمان بخط مستقيم سيقود الالتزام به إلى يقينينات.

كنت في المرحلة الإعدادية، وشاهدت ذات مساء برنامجاً تليفزيونياً تستضيف فيه المذيعة رجلاً مشلولاً يجلس فوق كرسي متحرك .. أثناء التمعن في هذا المشهد معزولاً عن صوت الحوار كانت صورة رجل مشلول يجلس فوق كرسي متحرك تُرسم في ذهني .. مجرد انتقال مسالم من ما يُسمى بـ (الواقع) إلى ما يُسمى بـ (الخيال) .. لكن كان هناك سؤال ينمو أو ربما كان هذا السؤال هو ما يُعيد رسم المشهد دون تحريف في داخلي: (ما الذي ينقص هذه الصورة؟) .. الإجابة بديهية بالطبع: هذا رجل مشلول ويريد أن يمشي .. المشي بالنسبة له أمنية .. حلم ربما صعب التحقيق .. جميل جداً .. إذن فهناك سؤال آخر يجب أن يضيء داخل السؤال الأول: ما الشيء الذي يرمز إلى (الحلم) ويكون وثيق الصلة بالقدرة على المشي؟ .. طائر .. حصان .. الرجل لا يريد أن يطير ولا يريد أن يجري .. إنه يريد على الأقل أن يقف ويمشي .. ثم لماذا لا يكون الرمز أقل تحديداً وأكثر غموضاً، وبالتالي شاسع الدلالة فيما يتعلق بالتحرر من الشلل .. حسناً .. ربما كان في الحصان أوالطائر وضوح وواقعية أزيد مما ينبغي .. لماذا لا آتي بشيء ساحر، غير ممسوك ليكون رمزاً ثم أُكسبه صفات وسمات إنسانية دون أن يفقد خواصه الأصلية؟ .. كانت (النجمة) لائقة بهذا الدور .. ما الذي ينبغي أن يحدث إذن بين رجل مشلول يجلس فوق كرسي متحرك ويحلم بالمشي ونجمة؟ .. يمكن للنجمة أن تصبح امرأة جميلة، مغوية .. يمكنها أن تنادي على الرجل المشلول من وراء شباك الحجرة التي يجلس فيها وحيداً (الوحدة مرادف بديهي للشلل على المستوى النفسي) .. الرجل يستطيع أن يُحرك يده ليفتح الشباك حين يسمع نداءها له .. يمكنه أن يبتسم لها .. يمكنها أن تقترب منه .. أن تهمس في أذنه .. أن تتمايل بدلال وفتنة، وأن ترخي ثوبها الفضي (كضوء النجوم)، وأن تهمس له من جديد .. الرجل يمد يده إليها مثلما مدت يدها إليه .. سيحاول أن ينهض حين تتلامس أصابعهما، لكنه سيترنح ويتهاوى على الأرض الصلبة (الصلابة التي تعني أن هناك واقع متبلد خارج جسد الرجل المشلول، لا يهمه ولا تؤثر فيه معاناة كهذه) .. الرجل ينظر إلى النجمة بأسى .. النجمة تبكي وهي تنظر إلى الكرسي المتحرك.

كان هناك حرص على ألا يكتشف القارئ (الكرسي المتحرك) إلا في نهاية القصة .. هذه من النصائح الجوهرية التي تجعل من قراءة القصص البوليسية أهمية أساسية في بداية حياة الكاتب .. أنها تثبت في وعيك كيف تُخفي وتصدم .. كيف تعد مفاجأة سرية داخل حالة هادئة ثم تعلن عنها في الوقت المناسب من حيث لا يتوقع أحد .. لذا كان الرجل منذ بداية القصة (يجلس فقط) ولكن في النهاية تبين أنه يجلس فوق (كرسي متحرك).

لكن إذا كانت القصص البوليسية تُدربك على هذه الاستراتيجية فالموضوع ليس أداءً شكلياً بل كل ما في الأمر أنك في الكتابة تستخدم نفس ما يمكن أن تستخدمه في حياتك اليومية من حيّل دفاعية، وألعاب نفسية مع نفسك ومع غيرك .. في الواقع، ووفقاً للمحاذير والحسابات الذاتية أنت تكبت أفكاراً وأكاذيب، وتواري انفعالات وخدع ثم بناءاً على تقديراتك الخاصة تُفصح عنها وبكيفيات متعددة محاولاً أن تكسب بها لحظة الوجود مع الآخر .. إنها نفس المحاولة لتنظيم الكلمات في حوار ما لتوصيل رسالة بأكثر الأساليب الملائمة، أو للتحدث في موضوع أمام مستمع مكسباً إياه طباع الهيمنة والتشويق والإمتاع بفضل حصيلتك من خبرات .. القصص البوليسية تُذكرك دائماً باستعمال هذا الأداء (البديهي) في الكتابة أيضاً، وخاصة داخل عالم يتيح لك الأمان اللازم لترتيب هذه الإجراءات بحرية، ودون تهديد قد يُسببه تدخل شريك ما.

يقول (ديفيد بالداتشي):

(أتعلم من يفوز في المحكمة؟ الموكل الذي يمثله محامي يروي قصصاً أفضل من المحامي الآخر. عندما تقوم بإجراءات دعوى قضائية لا يمكنك تغيير الوقائع. يمكنك فقط إعادة ترتيبها لجعل القصة أفضل لتدعم موقف موكلك وذلك بالتأكيد على أشياء معينة والتقليل من أهمية الأخرى. فتقوم بالتأكد من أن الحقائق التي تريد للناس تصديقها هي الأكثر إقناعاً. والحقائق التي تؤذي قضيتك تتخلّص منها إما عن طريق تبريرها أو إخفاءها. هكذا تُروى القصة .. ويليام غولدمان، الذي كتب سيناريو “السلطة المطلقة”، أعطاني نصيحة جيدة جداً: “أكتب كل شيء كما لو كان أول شيء كتبته في حياتك. فاليوم الذي تعتقد فيه بأنك تعرف كيف تفعل ذلك هو اليوم الذي تنتهي فيه حياتك ككاتب”. كان محقاً. عندما تصبح الكتابة وظيفة لي – حينما أبدأ بالتفكير بأنني أفضّل لعب التنس وأقوم بأخذ طرق مختصرة وأكتب هذه المرة مثل المرة السابقة – سأتوقف عنها.(

لو أردت الآن التحدث نظرياً وبشكل عام عن ما يحيط بهذه التجربة وعن الاستنتاجات (المحفزة للجدل) التي قد تنجم عنها فإنه من الأجدر الإشارة إلى إيماني وقتئذ ـ أي وقت كتابة هذه القصة ولسنوات طويلة بعدها ـ بذلك الشيء الذي يسمى (الموهبة) والذي لن أخوض الآن في شرحه من حيث تداخل معناه مع فكرة أن الكاتب نبي بطريقة ما ويحمل رسالة إلى آخر هذا الكلام .. لكنني الآن أريد التركيز على أن الكتابة أصعب من مجرد حصول إنسان على مهارات خارقة كهدية من الغيب يتحول على إثرها إلى كائن نادر واستثنائي .. الكتابة قرار غير مشروط بشيء إلا برغبتك في الكتابة وبأن تفعل كل ما تراه ضرورياً ـ أياً كان ـ لخدمة هذه الرغبة .. إن توقفي أمام مشهد الرجل المشلول في التليفزيون وانتقال صورته إلى ذهني وما تبع ذلك من خطوات ليس صدفة .. لقد رأيت نفسي في الرجل المشلول، أما الكرسي المتحرك فهو كل الأدوات التي أستعملها في حياتي وتدعي أنها تساعدني على الحركة، ولكنها في الحقيقة تثبّت عجزي .. الكرسي المتحرك هو الأسرة والجيران والمعلمين والزملاء والوجوه التي لا أعرف أصحابها .. هذا لم يكن مدركاً أمامي وأنا استجيب للمشهد في التليفزيون وأعمل عليه لأخلق منه قصة قصيرة، ولكن هذه المحركات كانت ضمنية وتؤدي عملها في صمت تام دون أن أشعر.

النجمة هي تفصيلة من حياتي؛ فأنا منذ صغري أحب النظر طويلاً إلى النجوم سواء في السماء أو في الصور أو في الرسوم داخل كتب الحكايات والكوميكس وأفلام الكارتون .. كنت ولازلت أهوى رسمها فضلاً عن أنه من ضمن الأسباب التي جعلتني أقع في حب فتاة جميلة كانت معي في الفصل الابتدائي أنها كانت بارعة في رسم نجوم أروع من النجوم الحقيقية ..  لهذا اخترت النجمة كرمز للانفلات من الشلل، فهي كانت تناسبني أكثر من الطائر أو الحصان .. كنت أريد ما يتعدى الطيران أو الجري .. كنت أريد التحرر .. الحجرة هي حجرتي وبالتالي الشباك .. كل شيء في القصة يخصني، ولهذا فالكتابة قرار استخدام لما تملكه للقيام بأمر لا يمكن تحقيقه إلا بواسطة الكتابة .. القرار أيضاً سيدفعك بالضرورة ـ ومع استمرار الكتابة ـ إلى التوقف أمام المشاهد واللحظات المنتقاة ـ مثلما حدث معي أمام البرنامج التليفزيوني .. الصور التي تتنمي إليك .. أي أن الرغبة في الكتابة هي التي تقف وراء ما يمكن أن نُطلق عليه (توظيف الواقع) لصالح (التعبير عن همك الشخصي) أياً يكن ما تعنيه كلمة (التعبير) وما يُفهم من دلالة (الهم الشخصي).

أكثر القصص سحراً بالنسبة لي هي ما تنطوي على مفارقات مركبة، تتطور باستمرار .. خدع من المتاهات المتداخلة الممتدة في جميع الاتجاهات دون حواجز .. لا توجد مواصفات جاهزة بالطبع لما يسمى بالخدعة السردية .. كل كاتب يكوّن مصائده الخاصة وفقاً لما يعرفه عن المصائد .. أنت تؤسس وعداً كأنه هو الشيء الوحيد الحقيقي الصادق المتاح الذي بوسعك الآن أن تقدمه للقاريء، لكنك ستخالفه بشكل مفاجيء فيتبين أن ما كنت تؤسسه ليس وعداً وإنما ستار أعده فخ سري .. فخ يفتح أمام من يقع فيه سيلاً من الأبواب والنوافذ المتدفقة التي تؤدي لارتكابات غير منتهية .. هذا الفخ هو القصة القصيرة .. لا تنخدع بمصطلح (النهاية الكاشفة) فهناك اعتياد بأنه يعني وضع حل لمشكلة، ولكن من الأفضل في تصوري أن تبين النهاية ـ دون مباشرة ـ الصراع بين ما كان ظاهراً وما كان مخفياً في النص، وكيف يمكن لهذا الصراع أن يتطور وينمو ويمتد ويتسع وتتشابك أطرافه وتُخلق له تفاصيل جديدة تتصاعد دون نقطة ختام.

لاشك أن من أهم ما يعتمد عليه تشييد الخدعة القصصية هو مهارة الإخفاء .. ما الذي يجب أن تخفيه وكيف وأي آثار وعلامات وإيحاءات مراوغة ستتركها (خاصة الفراغات) لتشير إلى وجوده دون التورط في فضح، وما الذي ستكشف عنه وكيف ومتى ..  أنت من تحدد كل هذا فلا يوجد كتاب إرشادات لصنع خرائط المفارقات .. كيف تلعب بالمتناقضات للوصول إلى ما هو غير منتظر .. كيف تستخدم طريقة الشظايا (المقاطع التي تبدو للوهلة الأولى لا علاقة لها ببعضها) في عملية الإخفاء.. المفارقة تصبح هنا مرآة لجسدك الذي يتكوّن من أجزاء متناثرة ومتجمعة، ذات تواريخ متباينة .. تذكر دائماً أنه مهما كان الكم الذي صرحت به فهناك دائما ما سيظل مخفياً .. هناك طوفان من قصص قصيرة لم تُسرد أبداً في المتن سواء مارست الإخفاء الكامل أو التصريح الكامل .. في النهاية حساباتك لهذه المقادير هي رهانك الذاتي.

إن المسألة تتعلق بكونك شخص عادي لا يستطيع أن يستوقف الناس الذين لا يعرفهم في الشوارع ويقول لهم أن هناك وراء ملامحه أشياء ينبغي أن يعرفوهها .. أنت لا تستطيع أن تفعل هذا فقررت كتابة القصة قصيرة، أما الخدع السردية فهي المتعة التي تنظم من خلالها ما تريد قوله .. هي ليست متعة شكلية قطعاً وإنما كما قلت سابقا محاولة توصيل أو إبلاغ الأمر بأكثر الطرق تأثيراً وبأكثر الوسائل ملائمة وفقاً لما يناسب الكتابة.

ما تقرره أيضاً في الكتابة القصصية هو المنطق السببي الخاص بك، فأنت غير مطالب باتباع أي نظام من الدوافع المقررة للوصول إلى نتائج بديهية .. من الاتهامات التي قد توجه إليك بأن سلوك الشخصية غير مبرر، ولكن على من يوجه هذا الاتهام أن يمتلك أولاً التعريف الأكيد، الكلي، الذي ينطبق على كافة الحالات المماثلة، ولا يمكن التشكيك فيه .. يكفي أن يكون سلوك الشخصية مبرراً بالنسبة لك، وإذا لم يستوعبه أحدهم فهذه ليست مشكلتك .. الأمر يتعلق بافتراض أن الكتابة لابد أن تكون انضباطاً مضاداً لفوضى الحياة، فمن الغريب حقاً ـ أو ربما هو العادي ـ أن يصادف الفرد في كل مكان وفي كل لحظة أحداثاً وأموراً يعتبرها غير مبررة دون أن يتوقف أمامها كثيراً أو يحاسبها أويحاكمها في وعيه، وإنما يفعل النقيض حينما يصادفها في نص أدبي فلا يتوقف عن اتهامها بعيب مخالفتها للمنطق .. هناك من يريدك أن تنقذه بالكتابة من عماء الواقع ولا يجب عليك أن تفعل. 

من الدعائم الجوهرية أيضاً التفكير في أن الشخصيات والأفكار والأحداث هي وجوه لبعضها بطريقة أو بأخرى مهما بدت حدة التنافر بينها .. الانشغال بهذا سيجعل الأشياء انعكاسات متحالفة، كأن كل جزئية ترى تجليات متعددة لها في مرايا الجزئيات الأخرى، وهذا الانعكاس هو ما يسهل في تصوري استخدام المفارقة .. الانعكاس يوفر شعوراً قوياً بالتناغم بين المتناقضات، وبالانسجام بين التضادات ومن هنا تصبح الأشياء المتنافرة خامات يمكن توظيفها لصالح بعضها .. يمكن اخفاءها وتعيين دلائل لها والكشف عنها والكشف عن انتماء كل منها للأخرى .. هذا ما يخلق قوة المفارقة.

 

اللغة

استعملت في قصة الرجل المشلول قاموساً مكوّناً من جميع قراءاتي السابقة وهذه فرصة للتحدث عن موضوع (اللغة) لأنني لا أنظر للكاتب بوصفه صندوقاً مغلقاً على مفردات وتراكيب لغوية محددة يمكن تعريفه بها كهوية .. اللغة بالنسبة لي كالأسرة والجيران والمعلمين والزملاء والوجوه التي لا أعرف أصحابها .. اللغة كالكراسي المتحركة .. أي أنها أغراض خبيثة .. حالات متغيرة ومتبدلة لا ترضخ للثبات، وبالتالي هي مواد أوّلية تُستخدم وفقاً لتدابير لحظة استعمالها .. قد يسهل القول أن تنظيم مسارات اللغة يتم بناءاً على متطلبات أو ضرورة ما، ولكنني أريد أن أتفادى شبهة التحديد والفصل بين ما يمكن التورط في تسميته بـ (أنواع اللغة) داخل هذه العبارة .. لذا يطيب لي استبدالها بقول أقل تعسفاً وهو أن لغة النص هي نتاج صراعات غير محكومة بين تاريخ الكاتب وتاريخ قراءاته وهواجسه الحالية .. بين مزاجه وكوابيسه وأسراره .. اللغة هي صراع ذاكرة منزوعة الفواصل.

من حقك أن تمارس ما يمكن اعتباره حذلقة أو فذلكة أو نحتاً مبالغاً في اللغة .. لكن من الأسئلة الضرورية التي أجد أنه من الجوهري الاستمرار في طرحها طوال الوقت بداخلك: هل تتسم لغتك بالتنوّع أم بالجمود؟ .. هل تتحقق في لغتك اختلافات أم أنها تتخذ طبيعة ثابتة؟ .. هل يمكنك تبرير ـ لنفسك ـ استعمال أشكال معينة في لغة نص ما دون استخدام شكل آخر؟ .. كان أسلوبي في البداية (أي أواخر المرحلة الابتدائية وجميع سنوات المرحلة الإعدادية) محصوراً في مزيج واضح من (نبيل فاروق) وكتّاب سلسلة إشراقات أدبية في الثمانينيات والتسعينيات أذكر منهم الآن (مجدي البدر) و(معصوم مرزوق) و(أحمد حميده) وبعض الأعمال المبسطة للكلاسيكيين مثل (تشارلز ديكنز) و(روبرت لويس ستيفنسون) و(ألكسندر دوماس) .. منذ عدة أيام كان الكاتب الكبير (محسن يونس) يناقش مجموعتي (مكان جيد لسلحفاة محنطة) وقال أثناء الندوة جملة اتفق معه الموجودون فيها (أصبحت أعرف نص “ممدوح رزق” قبل أن أقرأ اسمه عليه) كان يتحدث من منطلق أنني أمتلك طريقة خاصة جداً في كتابة القصة القصيرة ليس لها شبيه عند كتّاب القصة الآخرين .. لم  يكن المقصود هنا تحوّل الكتابة إلى قوالب نمطية وإنما ما تستطيع استنتاجه من المناقشة هو أن المفاجآت غير المتوقعة التي أمارسها هي التي يمكن ألا يكون لها شبيه .. لهذا إذن أصبح هناك قراء حينما يصادفون خدعاً وألعاباً سردية صادمة فإنهم ينسبونها لي بشكل تلقائي .. بصمة أن تكون لك غرابتك المميزة.

 

المعنى

ستقابل بالتأكيد من يتهكمون على أن (لقصتك معنى) باعتبار أن المعنى المقصود يسعى لتوصيل غاية مثالية أو قيمة أخلاقية أو شعور وطني نبيل مثلاً .. أنا واحد من هؤلاء المتهكمين، ولكنني في الحقيقة لا أعرف أصلاً شيئاً اسمه المعنى سواء كان قيمة أو أي شيء آخر .. طالما أن الأمر كذلك فلا يجب على أحد أن يخجل من أن لقصته غاية أو مقصد إصلاحي ما، فالقيمة ليست معنى بل هي ببساطة ما تريد أن تكتبه الآن وفي ذلك تتساوى كل الرغبات سواء كانت تسعى للمساهمة في تحقيق العدالة الكونية أو الضحك للأبد .. الكتابة هي الدليل الذي تريد نحته في الفراغ على مرورك في الحياة وعلى ما حدث لك فيها وعلى ما كنت ترجوه منها حتى لو كان (قتل الأشرار والتخلص من المفسدين).

في كتابه الشهير (ما الأدب) طلب (سارتر) من منتقدي أفكاره حول (الأدب الملتزم) أن يذكروا له قصة جيدة واحدة غايتها خدمة الاضطهاد، وقصة جيدة واحدة كتبت ضد السود أو ضد العمال أو ضد الشعوب المحتلة .. هذه هي (الأخطاء) التي لا يمكن لأي انسان أن يقبلها أو يكتب دعماً لها (طبعاً) ، لكن المضحك بالفعل هو أن بإمكان أي قارئ أبيض ليس عاملاً ولا محتلاً أن يعتبر أي قصة خادمة لاضطهاده أو تمارس عنفاً غير مبرر لأفكاره ومشاعره وبالمناسبة قد يعتبرها (سارتر) قصة رائعة .. يمكن لأي كاتب أن (يضطهد) في كتاباته كافة ما يعتبره شروراً مؤذية طافحة من معتقدات وسلوكيات أي فرد أو جماعة بشرية تجاهه .. أن يكتب ضد ما هو أكثر كراهية بالنسبة له من السود والعمال والشعوب المحتلة دون أن يعتبره أحد عنصرياً أو فاشيا .. (تحديد الأخطاء) يؤسس دائما لترتيب ذهني للجرائم ينبغي عليه حتمياً الخضوع لسلطة تحكم تحوله من الشخصي إلى العام  .. يجعل جريمة ما أكثر وضوحاً من جريمة أخرى وبالتالي أكثر قسوة، فضلاً عن أن هناك جريمة تستطيع نقل جريمة أخرى من خانة (الخطأ) إلى خانة (الصحيح).

إن الفكرة ببساطة هي أنه لا وجود لمجموعة محددة من الموضوعات الصائبة التي يجب ألا تخرج كتاباتك عنها .. ليست هناك أفكار معينة هي التي تتحقق فيها ما يسمى بقيم (الخير والحق والجمال)، ولا يوجد أشخاص يمثلون الخير المطلق وآخرون يمثلون الشر المطلق، بل أنه من الأفضل أن تفكر في عدم وجود الخير والشر من الأساس، وإنما في وجود ظنون متقلبة تحاول تنظيف العالم .. إذا بدا لك أن هناك بالفعل أفكار وأشخاص يمكن وضعهم في خانات مقفولة للخير والشر فليس ذلك خطأً أو عيباً بل كل ما في الأمر أن هناك ما تولى إنتاج تلك الرؤية بالذات في ذلك الوقت تحديداً، وكل هذا قابل للتغير والتبدل، وبالتأكيد في اللحظة التالية سيكون عادياً أن تكتشف وتعثر على ما لم يكن مُدركاً بالنسبة لك في زمن فائت.

إن هذا ليس تحريضاً على عدم أخذ موقف أو تبني عقيدة أو الإيمان بنمط تفسير للعالم، وإنما محاولة لخلق كافة الاستفهامات الممكنة حول علاقة الكتابة بالمواقف والعقائد والأنماط .. سأحاول صياغة المقصد في معادلة سهلة تفترض أن الكتابة لا ترفض الملتزمين بثوابت فلسفية وسياسية مثلاً، ولكنها في المقابل تفتح أمامك ثغرات لتُبقي على أهمية الشك .. الشك الذي يرفض الاستقرار على ترتيب أو نظام أو نسق، ويخلخل المفاهيم والمعايير التي تحاول طوال الوقت ضبط مقاييس الجودة للكتابة.

 

العمق

إن سلطة كلمات مثل (الموهبة) و(الأديب) و(عبقرية الفنان) لابد أنها ستقودنا إلى موضوع الجودة وما يخلقه من فرز طبقي للكتابة .. المثال الأبرز في هذا الشأن هو الفصل بين الروايات البوليسية وقصص الرعب والخيال العلمي على سبيل المثال وبين (الروايات الجادة) التي تحمل (فكراً رفيعاً) .. في مصر هناك جذور لهذا الفصل، ولهذا أستعير ما جاء في كتاب (عصور نهضة أخرى) ـ وهو كتاب أنصح بقراءته ـ وتحديداً في الفصل المعنون “وسائل تسلية الشعب: الترجمة والرواية الشعبية والنهضة في مصر” حيث كتبت “سماح سليم”:

(تتأرجح هذه “النهضة” الأدبية من دون ثبات بين حنين أصيل إلى عصر ذهبي مفقود للحضارة الإسلامية الكلاسيكية ودافع حداثي محموم شكّلته وقيّدته ضغوط اللقاء مع الاستعمار. نشأت الرواية العربية من هذا الوعي المزدوج، تحديداً، كرواية تكوينية منتفخة تسرد أزمة الذات البرجوازية الحديثة بانتظام في عالم من التوترات والفرص المتصارعة بجنون، من جهة، كانت سوق الروايات الشعبية الرائجة في نهاية القرن التاسع عشر خافية عن الأعين بدرجة كبيرة في التاريخ الأدبي، لكنها حتى عندما ظهرت للعيان، أتى ظهورها كعلامة على التدهور الاجتماعي والثقافي الذي كان مشروع النهضة يحاربه).

كأن هناك قائمتين كونيتين: تم تعيين الموضوعات الهامة في الأولى، والموضوعات التافهة أو الأقل أهمية في الثانية.

بالعودة إلى (ديفيد بالداتشي) نجده يقول:

(يقتلني هذا التمييز ما بين الروايات الأدبية والتجارية، فهو أشبه بتقسيم الاتحاد إلى اثنين. مثل تقسيم الوحدة بين اتحاد العمال الأمريكيين وكونغرس المنظمات الصناعية. ومن سيشجع هذا الانقسام؟ الشركات الكبرى.

حضرت فعاليات كتابية في جميع أنحاء البلاد وقابلت الكثير من الروائيين الأدبيين الرائعين والذين يرحبون بالكتاب التجاريين مثلي بكل رحابة صدر. وكأن أحدهم يقول لي: “مرحباً يا رفيقي!”. ولكنني من جهة أخرى وجدت الكثير من العدائية. فالجانب التجاري يشكو: “أنا أكتب كتباً بجودة كتبك ولكنني لا أفوز بأية جوائز”. والجانب الأدبي يشكو: “أنا أكتب كتباً أفضل من كتبك ولكني لا أبيع أياً منها.(”

لا تصدق أن هناك مجمع مقدس غير مرئي يتولى إصدار الأحكام الأدبية .. لا تصدق أن هناك روايات أقل من روايات، أو أن هناك ثقافة أرقى من ثقافة، أو أن هناك قاريء ساذج طالما يقرأ (جي كي رولينج) وقاريء عميق طالما يقرأ (كونديرا) .. صدّق فقط ما تجربه بنفسك، وما تقتنع به .. من لم يعثر في كتاباتك على (فكر رفيع) فتلك ليست مشكلتك ولا مشكلته بل في الواقع مشكلة اللغة التي تُطلق صفات وأحكام وتصنيفات .. مشكلة تصديق الدعايات التي يأكل (اللاعبون في الثقافة) عيشهم عليها.

سيسأل أحدهم كأنه يقول (كش مات): هل يتساوى (نجيب محفوظ) بـ (أحمد خالد توفيق) مثلاً؟؛ فيجيبه أحد آخر: (ما حاجتك للمفاضلة؟، ما معنى التساوي، وماهي أدوات القياس؟، لماذا يجب على انحيازاتك أن تكون استحوذاية، أي تصير مقاييس ثابتة لانحيازات الجميع؟). 

لو كان تفضيل قارئ ما لـ (أحمد خالد توفيق) عن (نجيب محفوظ) جريمة لوجبت محاكمته إذن بتهمة الجهل قبل أن (نشفق عليه)، ونبدأ في معالجة طيشه بدلاً من العقاب حتى يغير رأيه ويصير (كياناً صالحاً).

هناك من سيوجه اللوم إلى نظام التعليم وثقافة المجتمع وكافة الأطر المعرفية الفاشلة التي تسمح بطغيان هذا (النوع من الروايات) كأنك لو درّست أدب (نجيب محفوظ) في جميع المراحل التعليمية ووزعت كتبه بالمجان على كل فرد من أفراد الشعب وعُرض كل يوم فيلم مأخوذ عن قصة له في قناة حكومية فإن كل هذا سيمنع قراء من تفضيل كتابة (أحمد خالد توفيق) عن رواياته.

سيقول أحد آخر أن المرحلة العمرية هي الحاكم فـ (أحمد خالد توفيق) موجّه للمراهقين والشباب في حين أن أدب (نجيب محفوظ) مخصص للكبار .. هذا المنطق ينسحب خجلاً أمام إعجاب المراهقين والشباب بـ (نجيب محفوظ)، وأمام شغف (الكبار) بـ (أحمد خالد توفيق) وبالطبع أمام إدمان كثير من العجائز لقراءة (أجاثا كريستي) مقابل نفور تام من أعمال (ساراماجو) مثلاً.

إذا أعجبتك (كمثقف) قصة لـ (أليس مونرو) فإنك معرّض للاتهام بالسطحية طوال الوقت من بعض من يعشقون (الروّاد): (تشيكوف) .. (موباسان) .. (همنجواي) .. لهذا فسؤال المتعة أكثر جدوى عندي من سؤال الفرز .. المتعة التي ترفض تحويل الذائقة إلى مطلق.

أرجو في هذا السياق قراءة مقال (كيف تحولت الموناليزا إلى أيقونة؟) لـ (إيان ليزلي) ترجمة (أحمد شافعي) على مدونة (قراءات).

 

الكاتب

الكتابة في جانب رئيسي منها تعني بالنسبة لي التمسّك بالرغبة الطفولية في خلق قصص تماثل الحكايات التي كنت أقرأها وأتخيل نفسي فيها، أو في حكايات تشبهها، أو مغايرة لها .. هذا التمسّك أكثر صعوبة مما يقال عن (الموهبة)؛ فالأمر عندي ليس قدرات مبهمة تأتي بها إلى العالم فيتحوّل الخلق إلى رفاهية قدرية لا دخل لك فيها، وإنما مطلوب منك ألا تهدرها، وأن تحافظ عليها، أو في قول مأثور سخيف (كيف تنمي موهبتك)! .. الرغبة الطفولية في خلق القصص وكتابة الحكايات المتخيلة ليست أعلى شأناً من الرغبة الطفولية في أن تصبح طبيباً أو ضابط شرطة كما أنها ليست أقل منزلة .. كل الرغبات الطفولية متعادلة في تصوري، ولا أعطي الكتابة قيمة (بالمعني التقليدي للقيمة) يجعلها (تسمو) فوق كل الهوايات والمهن .. وجاهة الفن والأدب وجميع الأفكار اللامعة المتعلقة بالكتابة أشياء لا أثق فيها مطلقاً، بالعكس أجد في نفسي دائماً لذة لهدم رومانسيتها وتعكير نقاءها .. قد تُحدد الفروق في أن الكتابة ربما لا تكون مهنة بالمعنى الشائع حتى لو صارت مهنة بالفعل عند البعض، كما أنها قد تُعد من أكثر الممارسات قابلية للهوس، وبالطبع فإن الكاتب معرّض لأن يكون من أكثر الكائنات حساسية وانشغالاً بالعالم .. لكن كل هذه الفروق أيضاً وهمية في ظني، ويمكنها ببساطة أن تتحقق دون ارتباط بعلاقة مع الكتابة، كما أن الأوصاف المعتادة التي استخدمتها الآن تبدو مرنة وعامة وغير دقيقة إلى حد لا يجب معه الاستسلام .. نعم الكاتب ينتج (هكذا يقال) ما يتجاوز فرديته، يتخطى الواقع المباشر، ويعرف كيف (يُعبّر) عن البشر وعن ماوراء الوجود .. لكن هذا بالنسبة لي كأنك تقول أن الكاتب يأكل ويشرب وينام أي أنه لا اختلاف بينه وبين أي شخص آخر .. كل شخص يتجاوز بالفعل فرديته، ويتخطى الواقع المباشر، ويعرف كيف يُعبّر عن البشر وعن ما وراء الوجود، ولكن بطريقته وهذه هي الكلمة التي أجدها هامة هنا .. (طريقته) بمعنى أنه لا يوجد قانون (لتجاوز الفردية والواقع) أو (للتعبير عن البشر وعن ما وراء الوجود) .. لا يوجد منهج صنمي يُصنِف من يلتزم به بأنه ناجح ومن يُخالفه بأنه فاشل .. (طريقته) أن أي شخص يقوم بما يؤديه الكاتب على المستوى التفكير والشعور دون أن يكتب .. الكاتب فقط هو الشخص الذي لم يكتف بذلك بل قرر أن يفضح الهوس والحساسية والانشغال عبر اللغة، وأن يوثق هذا الذاكرة ويُحركها في العالم كأنها ذاته أو وجه من وجوهه .. أي إنسان من الوارد أن يفعل هذا في أي لحظة إذا أراد، وإذا أتيحت له الفرصة، وإذا استطاع تحمّل الألم الناجم عن ذلك.

أتصور أن تحوّل المقارنات إلى هاجس مستمر، لا يهدأ هو أمر مفيد .. أن تظل تسأل نفسك دائماً: ما الفرق بين قصتك والمقال السياسي؟ .. ما الفرق بين قصتك ومحاضرة التنمية البشرية؟ .. ما الفرق بين قصتك وخطبة الجمعة؟ .. أسئلة من هذا النوع كفيلة وحدها بأن تبقيك متيقظاً ومشغولاً بنصك، ومحافظاً على أداء الواجبات الضرورية اللازمة لإبقاءه (نصاً) كما تعرف عن (النصوص) مهما اتخذ هيئة المقال أو المحاضرة أو الخطبة.

يقول الشاعر على لسان (ستيفن سبندر) في كتابه (الحياة والشاعر)، ترجمة د. محمد مصطفى بدوي:

(سأدرس لأعلم كيف أخضع حقيقة وجودي لحكم الزمن. سأكشف عن حدود مقدرتي في تفهم الحياة من حولي. أنا لا أستطيع أن أتظاهر برؤية أكثر مما أرى، لأنني في كل موضع تحدني حدود حساسيتي، ونوع حيويتي، وضيق ذكائي والرعب الذي وجدته في بيئتي الأولى، وما ترشدني إليه تجاربي التالية. أنا لا أقبل شيئا على علاته، ولكني أخلق كل شيء خلقاً جديداً من مدركاتي. لست أقبل دون تساؤل أي نظام يقال عنه أنه عظيم أو خيّر، إذا ما اختبرته، وجدته عظيماً أو خيّراً حقاً، وإذا كانت لدي القدرة على فهمه وخلقه من جديد، حينئذ تُبعث الحياة ثانياً في ذلك النظام الإنساني ـ الذي أُخذ على علاته وتوارثته الأجيال ـ في وهج الإنسانية التي كانت أول من خلقه. مهما كانت مواهبي محدودة أو فهمي ضئيلاً، فإنني إذا كنت صادقاً فلن أستطيع الفرار حتى ولو أردت من هبة واحدة: وهي أن لدي أشياء لا نهاية لها أود أن أقولها. لأنني أقف وحيداً في العالم وقد حُبست في وجودي الذاتي. لا أرى أي شيء إلا من خلال عقلي وعيني عاكساً في وعيي المنعزل جميع الوجوه والمناظر والطبيعة والنجوم التي هي خارج وجودي ومكملة له. ولي نظرة فريدة في الأشياء، نظرة تخصني وحدي وفي الوقت نفسه هي نظرة كل إنسان، لأن كل إنسان معزول مثلي. قليل من الناس من تتوفر فيهم الشجاعة اللازمة للإقدام على عمل. وأقل منهم من تتوفر فيهم الشجاعة اللازمة لإدراك طبيعتهم أنفسهم). 

سيكون داعماً قوياً لك كما أرى هو استمرار التفكير في هذا السؤال مع كتابة كل نص جديد: ماهي القصة القصيرة؟ .. لكن ما أقصده هنا ليس توجيه السؤال بنية الرغبة الحادة في الحصول على إجابة مؤكدة وإنما الحصول على تصورات ملهمة .. اكتشافات متغيرة كالتفتيش في منجم من الخطأ الظن أنك تعرف حدود ما يخبئه .. عن نفسي أتمنى لو اعتبرت أن القصة القصيرة تكمن في كل شيء .. كل شيء بمعنى أنها كامنة في أكثر ما تعتقد أنه يخلو منها .. القصة القصيرة حاضرة بكل هيمنتها في أمور وتفاصيل لا تبدو على سطحها (أحداث) أو (حوارات) أو (مشاهد) .. قل في نفسك أن هناك قصص كثيرة متداخلة تقف وراء الصور العادية والأقوال المجردة والتقارير الجامدة التي لا تحكي شيئاً، ولكنها تنتظر التنقيب الملائم .. إنها أيضاً نفس طريقة الأداء العقلي المعتاد؛ فالتفكير العادي هو نتاج قصص وتراكمات قصص عبر تاريخ خاص متقاطع مع آخرين.

أتذكر أنه خلال السنوات الطويلة الأولى في بداية عملي كانت الأفكار تأتي عن طريق المشاهد البصرية .. منظر يستوقفني فجأة فتحدث (التماعة ذهنية) بتعبير (ماركيز) تستدعى على الفور العناصر التي تنقصه (كما حدث في قصة الكرسي المتحرك) سواء كانت هذه العناصر من مشاهد واقعية مختزنة في الذاكرة، أو متخيلة، أو قادمة من نفس العالم الحاضر الذي ينتمي إليه المنظر، أو مناقضة له .. كان هذا طاغياً بشكل كبير لمدة طويلة جداً ثم بدأت الأفكار تأتي من كل الاتجاهات .. لم يعد الأمر حكراً على المشاهد البصرية، وإنما أصبح بإمكاني كتابة قصة وفقاً لتأملات ومشاعر وتساؤلات وأحلام ورغبات وحوارات وافتراضات وكتب ولوحات وأفلام وموسيقى وأغاني وألعاب الكترونية وبرامج كومبيوتر ووثائق قديمة وحوداث ومعلومات ونظريات وتحليلات وأكاذيب واختلاقات ومن الذكريات .. (فلايزي أوكونور) كتبت في إحدى مقالاتها أنه لا حاجة لمزيد من الحوادث في حياة الكاتب بعد بلوغه العشرين لأن كثيراً من المادة التي تزوّد الرواية تكون قد حدثت للكاتب قبل ذلك العمر، بل أكثر من اللازم .. رغم أنني لا أهوى التحديدات، ولكنني أعتبرها كلمات جديرة بالتأمل، لأن الماضي تحوّل عندي إلى ثروة كتابية بعد مرور سنوات طويلة من البدء في الكتابة وحينما أصبح لدي (سنوات كثيرة قديمة) .. صارت هناك وفرة متزايدة دائماً لمشاهد آنية تنتزعني فجأة نحو اللحظة الفائتة في ذاكرتي لأنها تخصها .. بفضل الصراع بين هاتين اللحظتين، والاستفهامات التي تشتعل نتيجة لاحتكاكهما ببعضهما كتبت قصصا قصيرة كثيرة جداً.

سؤال مثل (من أين تأتي أفكارك؟) هو وثيق الصلة بـ (الموهبة)، وبـ (عبقرية الفنان)؛ إذ يفترض أن الأفكار هي أطفال نورانيون، نتيجة علاقة سرية بين الكاتب وملائكة الكتابة التي كرّسها القدر لخدمته، ومن الطبيعي أن يصيب (البشر العاديون) رغبة أو هوس التلصص على خصوصيات هذه العلاقة تعويضاً عن عدم امتلاكهم القدرة على خوضها.

إنني أفضل سؤالاً أبسط ـ لو كان باستطاعتي التوصل لإجابات مريحة حقاً ـ مثل (كيف يمكنك أن تتحدث عن عالمك الكتابي؟) ولو أنه سؤال بالفعل وبالتالي يتطلب إجابة وتلك مشكلة، ولكنه على الأقل يعطي حرية للارتباك والاضطراب والتردد ـ لا أثق عموماً في من يتكلمون عن هذا الأمر دون لجلجلة .. في نفس الوقت فإن سؤالاً كهذا أكثر ملائمة في تصوري لعدم وجود علاقة للموضوع بالإلهام بقدر ما له علاقة بالتبعات والنتائج التلقائية لقرار الكتابة .. قرار الكتابة الذي اتخذته، وفعلت ما يلزم لخدمته هو ما سيخلق ما سميته من قبل (غريزة الكتابة) التي تجعل التفكير العادي وإدارة الشؤون اليومية والتعامل التقليدي مع البشر بمثابة بحث ضمني عن لحظة الكتابة .. عن المشهد الذي سيخلق علاقته بمشهد آخر في الماضي ـ حتى لو كانت علاقة عدائية أو غير متآلفة بالطبع ـ حيث تتم إعادة تكوين الذاكرة عبر الغرائب المكتشفة .. استمرار قرار الكتابة المتخذ في لحظة سابقة هو ما يجعل الكتابة تحدث داخلك دون دراية أثناء انغماسك في الحياة المألوفة حتى تظهر حصيلتها فجأة ودون توقع إثر إشارة مفاجئة أو حافز عابر أو تراكمات محتدمة من الأفكار والمشاعر والتخيلات.

يقول (نيل جايمان):

(نحصل على الأفكار من أحلام اليقظة. نحصل على الأفكار من شعورنا بالملل. نحصل على الأفكار طيلة الوقت. الفارق الوحيد بين الكُتاب وغيرهم من الناس أننا ننتبه لذلك بينما نقوم به).

ليست كل الأفكار تأتي مغلفة بوصفتها الشكلية .. أي نظام كتابتها وطبيعة تراكيبها اللغوية وأفعال شخصياتها .. كل شيء قابل للتغيير والتبديل والحذف والإضافة وليس هذا صيانة شكلية بل كما قلت سابقاً أنه بالضبط كتنظيم الكلمات في حوار ما لتوصيل رسالة بأكثر الأساليب الملائمة، أو للتحدث في موضوع أمام مستمع مكسباً إياه طباع الهيمنة والتشويق والإمتاع. 

عندي طفلة عمرها أربع سنوات .. ألعب معها كل الألعاب الممكنة، وأحكي لها كافة الحواديت التي يمكن لها أن تفهمها، لكن اللعبة الأساسية التي عوّدتها عليها بحيث أصبحنا نلعبها يومياً هي لعبة (السفينة وجزيرة الكنز) حيث يفترض أننا وهي داخل سفينة، وبينما نحن في وسط البحر نتعرض لعاصفة قوية تمنع من وصولنا إلى الجزيرة التي يختبيء فيها الكنز، ولكننا نتمكن في النهاية من التغلب عليها والوصول إلى الكنز بعد مصادفة كائنات مختلفة وأحداث عجيبة وكوميدية .. نستعمل أغطية السرير والوسائد والمكعبات في سبيل إنجاز هذه المغامرة البسيطة التي تعتبرها طفلتي الآن لعبة بينما في الواقع هذا هو الفعل العادي الذي أؤديه في رأسي طوال الوقت بأشكال متعددة، وهو ما يجعلني أستطيع إلى حد ما التحدث عن (كيف تأتي أفكار الكتابة).

لا توجد قفلة كتابة .. هناك فقط طريق مقطوع الآن بينك وبين الورقة أو الشاشة .. لكن الكتابة كما قلت تتم في كافة الأحوال داخلك .. قرار الكتابة يحولها من فعل إلى تفكير ومن تفكير إلى حياة ليس فيها شيء غريب .. إذا ظل الطريق مقطوعاً فابتعد عنه وعُد وقتما تجد أن لحظة العودة قد حانت .. ليس عندي كتاب وصفات لما يجب أن تفعله حين يظل الطريق مقطوعا فأنت الذي تقرر هذا، وهو أمر يخص المعمل المغلق للكاتب مهما كانت سهولة التسلل إليه .. فقط ابتعد ولن أقول لك مثلما يقال عادة: (درّب نفسك على تمارين كتابية أخرى) أو (غيّر مكان الكتابة) أو (شاهد فيلما معيناً أو اقرأ أو ارسم) أو (ابدأ النص من زاوية أخرى) .. افعل ما تراه صائباً فكل محاولاتك صائبة لأن العلاقات التي ترتب لتجسيد الفكرة هي نفس علاقاتك بالبشر والأشياء .. معقدة وغير منضبطة وخاضعة للتعثر والصدام والقطيعة .. لكن الكتابة في النهاية تمنحك ما هو أكثر وهي فرصة تصفية كل هذا والخروج منه لإعادة إنتاجه مهما تعرضت محاولاتك لنفس المشكلات .. في النهاية الكتابة ستتم حتماً طالما تمسّكت بحدوثها.

أكتب قراءاتي النقدية كأنني أكتب قصصاً قصيرة .. القراءة هي اكتشاف النصوص المخبوءة وصياغتها على مستوى الخيال ثم إعادة كتابتها.

يقول (بورخيس):

(ما الذي يعنيه بالنسبة لي أن أكون كاتبًا؟ يعني ببساطة أن أكون مخلصًا لمخيلتي. عندما أكتب شيئًا لا أطرحه على أنه حقيقي موضوعيًا (فالموضوعي الخالص هو حبكة من الظروف والأحداث)، وإنما حقيقي لأنه وفيّ لشيء أعمق. عندما أكتب قصة، أكتبها لأني مؤمن بها: ليس كما يؤمن أحدنا بشيء تاريخي محض، وإنما بدقة أكبر، مثلما يؤمن أحدنا بحلم أو بفكر).

قد يُلاحظ أنني طوال الوقت أتكلم بوصفي قاصاً دون التطرق لتجاربي الروائية، وليس في هذا إصرار على تثبيت حقيقة بل التحدث من خلالها باعتبارها أمراً بديهياً لا يحتاج للإثبات .. قلت في حوار سابق ورداً على سؤال (ما هي أقرب أشكال الكتابة لك؟) أن كل ما أكتبه هو قصة قصيرة .. في كل رواية من رواياتي الثلاث كنت أجرّب واكتشف كيف يمكن لقصة قصيرة أن تكتب رواية .. لا أتحدث عن توسيع الحدود الشكلية لمنطقة كتابة صغيرة أو استثمارها للارتفاع بطوابق بناء شاهق، وإنما أتحدث عن استخدام البصيرة المقتنِصة والإيقاع اللعوب المتوتر للقصة القصيرة في كتابة رواية .. أن تنسج هذياناً مقتضباً من اللحظات الشاحبة والمشاهد المخبوءة والأحداث الهامشية التي تحافظ فيها القصة القصيرة على طبيعتها المنزوية الساحرة، التي تخلق العالم من ثقب ضئيل مهما زادت الصفحات .. ما أقوله الآن شخصي جداً، أي أنه خبرة تبقى حقيقية حتى لو كان من العسير أن يدركها غيري .. يمكن كختام لهذه النقطة القول أنني في تجاربي الروائية كنت أبتعد بتلقائية خالصة عن الحشو الروائي الذي ذكر (بورخيس) أنه مصدر الإحساس بالملل رغم أنه قد يكون جزءاً جوهرياً من الرواية.

أريد في النهاية التحدث عن شأن يخص علاقة الأحلام بالكتابة .. هناك أحلام تريدك أن تكتبها، ولا تتعب نفسك بالبحث عن مبررات لذلك الإصرار .. أحياناً استيقظ من النوم بعد حلم لا يبدو أنه يختلف كثيراً عن سائر الأحلام العادية الزاخرة بالأحداث والحوارات غير المعقولة، وبالانتقالات الملغزة، وبتبدلات وتحولات الشخصيات دون تمهيدات أو أسباب ظاهرية .. لكنني لا أعرف فوراً لماذا قررت تدوين هذا الحلم كما هو، ودون أي تغيير باعتباره قصة قصيرة .. مع مواصلة استرجاع (بورخيس) فإنني الآن أؤمن أكثر من أي وقت مضى بتلك الكلمات الوحشية التي قالها: (حاول نقل الحلم وحسب. وإذا كان الحلم مشوشًا “وهو يكون كذلك عادة في حالتي”، لا أحاول تجميله، ولا حتى فهمه).

 إنني لا استوعب تماماً ما يمكن أن يعنيه الحلم قبل الكتابة، ولكنني في كل مرة أعثر على ما يقف وراءه .. اكتشف أثناء كتابته لماذا دفعني هذا الحلم بالذات لتدوينه، وأرى أسراره تتطاير وتتدافع كالألعاب النارية المتكاثرة التي لا تهدأ كلما أعدت قراءته .. عليك أن تثق في أحلامك، وأن تسجيب لقراراتها، أما عن المطالبات بتقديم البراهين النمطية لأحقية الحلم في أن يصير كتابة  فعليك قتلها بمجرد أن تطفو داخل عقلك.

أخيراً يمكنني تقديم إجابات عديدة لسؤال (لماذا تكتب؟) ستنطوي جميعها على كراهية للسؤال، لكنني أفكر الآن في أنني ربما عشت من قبل حياة غامضة كلياً، لا أدري أي شيء عنها، وأن ما أعيشه الآن هو انتقال لا يُصدَّق من هذه الحياة إلى الموت .. كأنني أحاول بالكتابة استرداد العالم المجهول قبل انتهاء الوقت حيث يجب أن أكون بالفعل .. الحياة التي تزداد غموضاً وابتعاداً مع كل محاولة لاستردادها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*شهادة عن الكتابة قرأتها خلال لقائي بأعضاء ورشة الكتابة الابداعية التي تنظمها (محطات للفن المعاصر) بمدينة (دمياط)، بدعوة من صديقي الكاتب (محمد عبد النبي).

مقالات من نفس القسم