وردةٌ زرقاْء وأثرُ بَجَعة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

محمد عبده

    اصطفت البنايات العتيقة على جانبي طريقٍ يُفضى إلي نهر. لم تحمل تلك البنايات المصفوفة في دقة بالغة النظام قدراً من الجمال مثلما حَملت قدر عظيم من الضخامة و العملقة آثارا شعوراً بالصِغر في صَدر كهلٍ صبي! يرى العالم رُغم اتساعه بأفقٍ في غاية الضيق إلى حد الاختناق.

 

           هذه تجربة يومية يُمارسها الرجل، بعدما راوده خياله مرات أن نهاية هذا الطريق الطويل نهرٌ تتلئلاً صفحاته العذبة على ضوء القمر، حيثُ يطغى هدوءٍ ما متجاوزًا حواسه التي يعرفها، وحيثُ تتزين السماء بلونٍ بديع، ونجومٍ سيطرب لرؤيتها قلبه.

       في صبيحة يومٍ كانت قد أطَبَقت على قلبه كوابيسٍ أضجعت نومه؛ قرر أن يسلك هذا الممر المميت بعد دوامهِ، ليرى بأم عينيه هذا المشهد الذي كثيراً ما سَمَع عنه ودَاعب روحهِ الحبيسة في جوفٍ مُحاط بأشباحٍ تحجب رؤية ما وراءها، وقد أعتزم أن يبدء اليوم، فأرتدى ثياباً خفيفة تساعده على تحمل حرارة الجو و جهد المشي. وقف حائراً أمام الحذاء المناسب لتلك المهمة، وما إذا كان ذلك الحذاء الرياضيِ سَيلقَى إستحسان الناظرين، أم عليه أن يتحمل ثقل الحذاء الأنيق بدلاً من أن يثير أضحوكةً؟.

      في المساء خرجَ فرأى جموع من الناس بشكل شبه آلي ومضظرب أسفل أقبية عالية. كان صعبًا عليهم أن يحددوا جهاتِهم، أو أي طريق يسلكون. صخبٌ شديد، والتحامات المارة كعراك ديكة. يمُر هو في عكس سيل جريانِهم. رجل لا يختلف عنهم البتة. لا يُميزه عنهم سوى عرجٌ خفيف في خطواته المهرولة، وبعضٌ من سمات القلق على قسمات وجههِ. ظل يعبرُ خلالهم بحرصٍ شديد مُفادياً أصطدام تلك الكتل الصماء بجسدهِ النحيل، وهو يقف هنينه بعد كل شوطٍ قصير من الزحام لينظر في أفقٍ بعيد، ولا تنعكس على عينيه الفزعتَّين إلا ضياء المَحَال التِجارية. يشحَذ عزيمته متجاوزاً عن ثِقل قدميه، ويهمُ بالسير. لا يُثنيه عن خضم تركيزه سوى رقة قلبه لرؤية وجه طفلٍ باسم. تجرُّه أمٍ على وجههِا مسحةُ حزن فوق عربة بعجلاتِ أربع بلاستيكية. تُخلف ورائهِا ضجيجٌ خافت. أفواه أخرى تمر سريعاً أمام عينيه. تتحرك بشكل صارم لا يحدد أويتعرف كلماتِها التي تبدو للوهلة الأولى حماسية. يشعر بوحدةٍ مباغتة، ويتراكم الخواء بداخله. يتردد قبل أن يقف مُنزوياً، ويتسأل دون وعيٍ: أهم أيضاً يشعرون بالانتماء لأمكنةٍ أخرى غير تلك؟ أنهم يُبدون ألفةً على نحوٍ كبير، وكأنه لا تُثيرهم أية مشاعر اغتراب!. بعضهم يعتريه الحزن كما خُيل إليه، والبعض الأخر ذوي ملامح جامدة. لو أنهم يتوقفون للحظات، وتهدأ تلك الحركة اللانهائية، لربما أستطعتُ أن ألحظ شيئاً مختلفاً، لكنهم لا يبرحون حتى تتضاعف أعدادهم مُصاحبة بهمهمة أشد فتكاً مما كانت عليه منذُ ساعةٍ. ها قد أُصيبت رأسي بدوارٍ مؤلم. يجب أن أُسرع خُطاى لعلني أصل إلي النهر اليوم.

   أدار وجهه، فاصطدم بآنعكاسِه في المرآه، فرأى كم هو آخرٌ عما يراه داخل نفسه. أشاح سريعًا، وتحامل على أنين أصابع قدميه مُتجهاً نحو النهر الذي لم تتلئلأ صفحاته الزرقاءُ بعد. مَر وقتٌ كسيح، يبدو الناس فيه مبتهجين. أصابه عدم أكتراثهم لخطواتِه الحثيثه بالضجر، وشَعر بإنهاكٍ لا يقدرُ على مقاومته أكثر مما سبق و عاناه، فإنحرف إلي إحدى مداخل المباني شديدة الضخامة، وسَقط متعباً على درجات السلم الرخامي. أصاغ السمع لسكونٍ نسبي أنتشر في جنبات المدخل الفسيح. خلع نعليه في ألم، ومد قدميه على طولهما فوق باقي درجاتٍ سُفلية لدقائق، إلي أن قطع استرخاءه ارتطام حُدوةِ مُهرٍ ممشوق فوق رخام الرُدهة. مَرت بجوارهِ في إنتصاب نخلة، ثم رمقته سريعاً بإزدراء، فانكفىء داخل نفسه حتى خرجت من البناية، وذابت في الزحام.

 توقف مُتعباً، حينما قرر الدوران إلى البيت، على أن يعاود الكَرّة بعد الدوام في غدٍ جديد.

    في عودته كان طريقِه يسيرًا، بل أنه وصَل إلى منزله الصغير في بضع دقائق، لكنه لم يتوقف كثيرًا عند ملاحظة كتلك من كثرة التعب، وقد أشغلته قدماه بالألم عن أي سؤالٍ أخر، فارتمى فوق السرير مخبئاً بالوسادةِ وجههِ، لعلّعه يختبىء من أشباحٍ، قد تُقلق مضجعه.

     في مساء اليوم الثاني والثالث قد أعاد الكَرة بالفعل، لكن دون أن يصل لمبتغاه. في اليوم الرابع صباحاً تأنق، وأرتدى بَدلَةٍ سوداء، وأضاف إلي صُدريتها وردةٌ زرقاء تُناسب ياقة البَدْلَة.

  ما أصابه الأيام السابقة كان كثيرٌ من فقدان الأمل في تحقيق رؤياه بالوصولِ إلي النهر. نَزل إلي الشارع مغموماً، ومارس عمله بشكل إعتيادي، وحينما دقت الساعة السادسة كان أول مغادري مقر العمل، لعلّه يشاهد ما يُثيره قبل زحام الطريق، لكن إعتقاده خاب كما أعتاد. لم يشعر بإستياءٍ أخر، بل أرتسمت على شفتيه إبتسامةٌ ساخرة، وأكتسى وجههِ بمسحةِ حزن مألوف لعينيه، وسلك طريقه إلي المنزل بخطى ثابتة .. هادئة.

*****

      خطت بجعةٌ عشرينية جمعًا من المارة بثلاثِ قفزات سريعة أشبه برقصةِ فتاةٍ رشيقة. كانت حركتها مُتلهفة عكس اتجاه المارة. كانت تتقافز إلى رأسِها صورٌ عديدة. كلِها في آنٍ واحد. تلهثُ من فرط التوتر والسرعة، لكنها لازالت على رشاقتها ودِقتها في الاختراق من بين ثنايا المارة، إلى أن اصطدمت بهذا المتخبط، فكادت أن تترنح. اعتدلت مُتصلبة، وقد فَقَدت بعض خِفتها، ثُم أكملت السير.

 

     توقف الرجل كثيراً مُترقباً فتاة تسير في اتجاهٍ عكسي. خَلَفت وراءها فضولًا غريبًا لمراقبتِها. أدار جسده حذّوِها، ولاحقها بالخطواتِ نفسها. آخذ يُسرع أكثر، وبدء شعور جديد من الخوف يتسرب بداخله. لا يُريد فقد أثرها، فشَحَذ عقله كي لا تفقدها عيناه. ميّزها بموجاتٍ ثورية مُتطايرة خًلفها شَعَرها على إثر شق الصفوف التي مارسته في اتجاها المُعاكس.

    كاد أن يقترب، وهو لا يعلم بعد ما هو الشيء الذي على وجه الدقة قاده لاتباعِها، ولا بماذا سيختلج صوتِه عند اللحاق بها، لكن جمعًا آخر قد خرج لتوهِ عن يُمناه من إحدى المباني قاطعًا طريقه وإياها. توقف على درجة سُلم عالية كي لا يفقد رؤيتها، وما أن هدأت الحركة، حتى أستمر على وقع رقاصاتِها جاريًا.

      توقفت الفتاة هناك، في إحدى زوايا الطريق، وقد أخذ صَدرها يعلو ويهبطِ. كانت تنظر إلى الوراء، وكأنها تقيس كم من مسافةٍ قَطعت. بعد ثوانٍ أكملت السير، لكن سيدًا أربعينيًا أوقفها، حينما رَبت على كَتفها، وسار بمحاذاة يسار ريشِها الناعم. لم يقل شيئًا .. نظر ملّيا، ثم قدَّم لها وردة زرقاء، وابتسم. أكملت هي السير، وتوقف هو ساكنا لبرهة، ثم استدار مُبطئًا، وقد مرّت برأسه شظايا كُثر عاد بها إلي سريره. في الليل أشتعلت أكثر، وتوحش في حشاه شعورٍ بالوحدة ساقه إلي الانتفاض من الفراش، ونَزل مُهرولاً إلي الشارع، وعلى وجههِ مسحةُ حزن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

قاص مصري      

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون