قصيدة النثر نوعًا شعريًّا

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 24
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. محمد بدوي

بين حين وآخر، تعود مسألة ما يسمى بقصيدة النثر إلى التداول والنقاش عبر أسئلة تتعلق بمدى انتسابها إلى الشعر، أو إلى النوع الشعري، على نحو ما مارسه الشعراء ونقده النقاد، وتلقته فئات المتلقين المختلفة. وعلى الأغلب تأتي الأسئلة من موقع بعينه شعري أو نقدي، هذا الموقع ينطلق من مفهوم محدد لمعنى الشعر أو لمعانيه المتعددة، إن شئنا الدقة، إذ يخيل لصاحبه أن هذا السيل من «القصائد» أو «النصوص» التي تُدرج تحت لافتة قصيدة النثر، ليس شعرًا على الإطلاق، أو هو على أحسن تقدير «شعر ناقص». رددت هذه الآراء نازك الملائكة في كتابها المعروف عن قضايا الشعر المعاصر في بدايات ما سُمي آنذاك الشعر الحر، حين تعرضت «للشعر المنثور» الذي يكتبه محمد الماغوط، ويردده في مقالات وحوارات شعراء، بعضهم من رواد شعر التفعيلة مثل أحمد عبدالمعطي حجازي، وبعضهم من أجيال لاحقة مثل محمد علي شمس الدين.

وعلى الفور يمكن للقارئ أن يلمس في طرح السؤال وفي إعادة طرحه ما يشي بالقلق على الشعر «الموزون» وهو قلق على «المكانة» و«الهيبة» و«الدور» لمن يطرحون السؤال، ما يكشف عن شكل التنافس في الحقل الأدبي، فها هو النتاج الذي كان هامشيًّا ويُنظر إليه باستخفاف لدى رواده الأوائل، أمين الريحاني وحسين عفيف مثلًا، وقد صار الأكثر حيوية، ويصبح شعراؤه نجومًا يملؤون الدنيا ويشغلون النقاد والمتلقين. بتعبير أدق انتقلت قصيدة النثر من الهامش لتحتل المتن، فكثر أنصارها، وأصبح لها تاريخ خاص، لم يكتب بعد، لكنه ماثل في الأذهان، يلمسه ويحسه الشعراء والنقاد من الأجيال التي ظهرت منذ عقد السبعينيات وما بعده من عقود.

لم يعد الأمر إذن أمر قصيدة هنا وقصيدة هناك، أو شاعر وحيد في بلد ما وسط مجموعة من الشعراء، كما كان الوضع في عقدَيِ الخمسينيات والستينيات، بل صرنا من إنتاج غزير رفيع المستوى من شعراء كثيرين، ومن كل بلدان الإقليم العربي، ولا سيما أن هؤلاء يتوزعون بين الأجيال، مع هيمنة لشعراء العقود الثلاثة الأخيرة.

وبرغم أهمية ما قيل وما يقال من نقد لمصطلح النوع، من فلاسفة وشعراء ونقاد، فإن الجميع سواء من رافضي المصطلح أو من الذين يتبنونه مع نقده، يضطرون طلبًا للنجاعة الإجرائية إلى استخدام المصطلح. من المهم للناقد أن يدقق في المصطلح، لكن هذه مهمة قائمة بذاتها، ولا تهمنا هنا. لقد تداولت الألسنة والأقلام تسميات من قبيل «الشعر المنثور» و«الشعر الحر» وهو مصطلح منقول من الثقافة الغربية ولم يلقَ رواجًا في ثقافتنا. لكن «قصيدة النثر» هو الذي قُدِّر له الذيوع والانتشار، لأسباب لا مجال لمناقشتها هنا، ولا سيما أن هذه المصطلحات صكّت في مجال سجالي عنيف، يصاحب غالبًا التغيرات الأساسية المهمة في الشعر والنثر على السواء. اهتمامي هنا ينحصر في انتساب قصيدة النثر إلى النوع الشعري والعربي على وجه الخصوص.

أَتُمَثِّلُ هذه القصيدة نوعًا قائمًا بنفسه رغم اندراجه في التسمية الواسعة أي الشعر الغنائي، لا الملحمي أو الدرامي أم نحن مع مجرد امتداد لتطور الشعر ومن ثم فهو حلقة من حلقاته؟ شعر المحدثين في العصر العباسي، بشّار وأبو نُوَاس وأبو تمّام، على سبيل المثال يُعَدّ تغييرًا مهمًّا في الشعر القديم، وكانت رومانسية أبولو والمُهاجَر تغييرًا أعمق في تاريخ النوع الشعري. أما شعر التفعيلة، فكان تغييرًا نوعيًّا أوسع وأعمق في تاريخ هذا النوع الشعري، ومع هذا كله، كان الانتساب للنوع الشعري واضحًا لا تخطئه العين. ذلك أن المنطق الحاكم للنوع الشعري لم يتغير، ظل المفهوم كما هو والخصائص المهيمنة كما هي، والحدود التي تغلق الباب في وجه أي نصوص خارجة عن التعريف، ظلت واضحة لا سبيل إلى النفاذ منها.

الأمر في قصيدة النثر مختلف عن هذه التغيرات. وهو ما أُجادِل هنا بشأنه من خلال الحديث عن علاقة النوع بالتاريخ والثقافة، وأثر ذلك في بنية القصيدة وخصائصها المهيمنة.

*   *   *

في تاريخ الأدب العربي، وفي غيره من الآداب ثمة تعارض أساسي بين نمطين من الخطاب. طرفا هذا التعارض هما الشعر والنثر. الشعر ببنيته الإنشادية وإسماعه الصوتي العالي، وتكثيف دوالّه، والنثر بترسُّله وتدفقه ونزوعه نحو الشرح والتقصي وأحيانًا الإسهاب… إلخ. ومنذ اللحظة التأسيسية للشعر العربي كان هذا الشعر غنائيًّا، برزت سماته الإيقاعية والمجازية وربما النحوية أيضًا، ناهضًا بمجموعة من الوظائف التي تتنوع ما بين الوظيفة الجمالية (الشعر ما أشعرك) على سبيل المثال، والوظيفة الأيديولوجية وثيقة الصلة بالهُويَّة القبلية والسلطة الأخلاقية، حيث الشعر ديوان العرب وعِلْمهم الذي لا عِلمَ لهم سواه. إلى ذلك أضيفت إلى هذا الشعر، بعد انتصار الإسلام، وظيفة بالِغة الأهمية وهي عَدُّه مرجعًا من مراجع تفسير القرآن.

مع دخول المجتمعات العربية في لحظة مختلفة بعد الحرب العالمية الثانية وقيام دولة ما بعد الاستعمار، حدثت حركة التغيير الكبرى التي يدعوها النقاد الشعر التفعيلي، التي زلزلت البنية المستقرة منذ قرون للنوع الشعري، وأدخلت تعديلًا جذريًّا في مفاهيم النوع. على مستوى الإيقاع مثلًا، تراجع النظم في البحور المركَّبة، وهيمنت البحور الصافية كالمُتدارَك والرَّجَز، بل انتهى مفهوم «البيت» بوصفه وَحْدة دلالية وبنائية، وحلَّ مَحلَّه «السطر الشعري» الذي لم يُحَدَّد طولُه، قد يكون تفعيلة وبعض تفعيلة، وقد يستطيل ليصبح سطرًا أو أكثر. وعرف هذا الشعر ما يسمى بالقصيدة المدوَّرة، التي ينبغي قراءتها بوصفها جملة واحدة مُسرِفة الطول حتى ينتهي المقطع.

وهكذا حدث تحول مهم في طبيعة الإنشاد نفسه وبدت أول ملامح ما يمكن تسميته باحتمالية البنية الإيقاعية، أي إمكان تعدد تلاوتها أو إلقائها. وإذا كان شعر التفعيلة قد بدأ تجربته بالخضوع لمقتضيات الإنشاد، فإنه سرعان ما أوغل في النأي عن هذه المقتضيات. وأصبح من الضروري أن يتلقى المتلقي الشعر على نحو يباعد بينه وبين الإنشاد. صحيح أن قصيدة التفعيلة تقرأ غالبًا من دون صوت موقع كما كانت تقرأ قصيدة كلاسيكية، لكن مع مراعاة ضرورة الإيقاع، لكن برغم هذا لم يعد إيقاع هذه القصيدة يماثل في قوته وانتظامة إيقاع القصيدة العمودية. فضلًا عن كسر توقع القارئ (المستمع) الذي كان يتوقع مدى الإيقاع وطوله، خصوصًا أن كثيرين من الشعراء المهمين لم يجدوا حرجًا في الإكثار من الرخص العروضية والإكثار من تتاليها. وهذه الخصائص الإيقاعية منحت الشعر ما قرَّبه من النثر. وكان تمهيدًا للنثر لكي يكشف عن «الشعري» فيه، بعيدًا مما يمكن عدُّه شروطًا خارجية.

التغيير الأهم الذي أحدثه شعر التفعيلة إلى جانب خلخلة البنية الإيقاعية التقليدية كان في الرؤية. فمنذ دخول الرومانسية إلى الثقافة العربية وتوغلها فيها، بحيث صارت نَسْغًا أو ما يشبه النَّسْغ في هذه الثقافة، لم يعد ممكنًا إدراك العالم وبخاصة في الشعر بعيدًا من سلطة الذات. وهذا يعني فيما يعنيه انهيار تقاليد نظرية الأغراض الشعرية، التي رأى فيها الشعراء (والمفكرون) جثومًا ثقيلًا يعوق الشاعر عن معاينة العالم بحُرِّيّة. ويمكن القول: إن نشر كتابي «الديوان» للعقاد والمازني و«الغربال» لميخائيل نعيمة كان أول الغيث لما سيسمى فيما بعد «الحداثة». بعبارة أخرى كان التفاعل البطيء لهذين الكتابين إعلان نهاية الرؤية الكلاسيكية للشعر والوجود.

انفتحت أبواب الثقافة إذن على الذات بقوة، ولذا انتشرت في هذه الحقبة مصطلحات مثل الخيال الرومانسي والتجربة، والانفعال وصولًا إلى الوعي واللاوعي. وإذا كانت رومانسية أبولو والمَهْجَر، قد ناوشت المفهوم الكلاسيكي فيما يختص بالموسيقا الشعرية، فقد كانت تلك المناوشة تمهيدًا لجرأة أكبر على معنى الموسيقا والإيقاع لدى شعراء التفعيلة، وهو ما مهَّد الطريق لمفهوم مغاير آخر لمعنى الشعر والشعرية، وهو ما تحقق في قصيدة النثر ولا سيما أن تنظيرات المدرسة الفرنسية وبخاصة لدى بودلير، قد وجدت بعض عناصرها فيما بشَّرَ به أنسي الحاج في مقدمة ديوان «لن» ومقالات أدونيس التي ضمها كتابه “زمن الشعر”.

ومن الضروري في هذا السياق الإشارة بوضوح إلى «الترجمة» وبخاصة ترجمة الشعر. ففي وقت متقارب ترجمت –نثرًا- قصائد من شعر إليوت وبودلير ورامبو ولوركا وبو وريتسوس وكفافيس… إلخ. ترجمة هؤلاء الشعراء المجيدين لمترجمين أكْفاء، وهي الترجمة التي رفضت إخضاع قصائدهم للعروض العربي، حررت هذه القصائد من سلطة النبالة اللغوية الكلاسيكية وأوهنت من الخيط الذي صار واهنًا بين الشعر والنظم. وقد كان معنى هذا أن مصادر الإبداع قد اختلفت عما كانت عليه من قبل. كان الشاعر الكلاسيكي العربي يَعُدُّ موروثه الشعري ما نظمه أسلافه، لكن الترجمة بوصفها تفاوضًا بين لغتين، مكَّنت الشاعر «الحداثي» من توسيع إرثه والجمع بين ما هو محلي وما هو كوني، لا في مفاهيم الشعر ونظرياته ومدارسه، بل في موروث الآخرين المتعددين. الأحرى أن الآخر الكوني المتعدد لم يعد آخر، بل صار عنصرًا من عناصر الذات المعقدة، وفي بعض الأحيان الذات المتعددة.

في هذا السياق لا يمكن إغفال انهيار التقاليد بالمعنى العميق للكلمة. وهو انهيار طال أكثر من ميدان من ميادين الثقافة بما فيها من محاولات إعادة قراءة الموروث الفقهي والفلسفي والأدبي واللغوي. ويؤشر السعي إلى إعادة قراءة الماضي، على حضور ضغوط قوية تضع الثقافة في موضع الاتهام، فتصبح إعادة القراءة إعادة تشكيل وإعادة إنتاج، بحثًا عن معانٍ مختلفة وجوانب هُمِّشتْ في هذا التراث، لأسباب لم تعد قائمة وفاعلة. بل قد تعني هذه القراءة الجديدة، محاولة ابتكار إرث آخر لا يتناقض فيه ما هو محلي مع ما هو كوني.

وعلى نقيض شعر التفعيلة الذي حرص شعراؤه ونقاده على توكيد نوع من العلاقة بالموروث، حتى لو كانت هذه العلاقة ذات طابع نقدي، بحثًا عن هوامش هذا التراث وتعضيدًا لنوابته، تبدو قصيدة النثر خارج هذه العلاقة، بمعنى أنها خارج شواغل الشعراء والنقاد، ربما رفضًا لأَدْلَجَة هذا التراث وربما سعيًّا إلى تعضيد العلاقة بما هو كوكبي، خصمًا من رصيد المحلي الوثيق الصلة بالحاضر المعيش من دون أن يعني ذلك خوض معركة مع الماضي، هي بطبيعتها معركة أيديولوجية. نقرأ قصيدة النثر فنجد أنفسنا مع فضاء محلي معيش تداخلت عناصره وأزمنته وأمكنته لكنه في الوقت نفسه خارج ما يمكن تسميته بميتافيزيقا الصراع مع الماضي أو ميتافيزيقا الصراع مع الآخر. إنه فضاء متعدِّد انهارت فيه الحدود بين الماضي والحاضر وبين الداخل والخارج.

أحد تجليات انهيار التقاليد هو سيطرة هاجس التجريب على الأدباء ومفكري الأدب، حتى أصبح التجريب علامة على الإبداع والحيوية والتجدد. هذا أمر بالغ الوضوح في كل الأنواع الأدبية سردًا ومسرحًا وشعرًا. وجزء من معطيات هذا التجريب كان نمطًا من التفاعل بين هذه الأنواع، بل بينها وبين فنون أخرى كالسينما والفنون التشكيلية، أي حدث تحول من الأنواع المغلقة إلى الأنواع المفتوحة، أو بتعبير إدوار الخراط أصبحنا مع كتابة عابرة للنوع. بل إن كثيرين من الشعراء والأدباء والنقاد أصبحوا يميلون إلى استخدام مصطلح الكتابة للدلالة على الأنواع جميعًا.

هذا المناخ الثوري لم يكن إلا تعبيرًا عن رغائب دفينة فردية وجماعية توقًا إلى التغيير والتمرد على البنى العتيقة في مناحي الحياة كافة. لم يعد الشاعر على سبيل المثال يُسأَلُ عن إجادته العروضَ، بقدر ما كان السؤال عن قدرته على كتابة العالَم وإعادة خلقِه من خلال اللغة، أي اكتشاف ما لا يقدر نوع أدبي آخر على اكتشافه في خبرة الوجود الإنساني المهيمن الواقع تحت سلطة التبدد. من منظور المبدع يبدو العالَم في حاجة إلى إعادة ترتيبه في دراما الحياة الحديثة التي يذوب كل ما هو صلب فيها. حيث العالم يبدو متقطعًا متشظِّيًا متأبِّيًا على التحدد واليقين. وكل هذا يفسر موت الغنائية التقليدية، وحضور السرد المُتشذِّر غير المُكتمِل في النوع الشعري النثري. صحيح أن الشعر لم يخلُ يومًا من السرد لكنه سرد مكبوح مُنتج تحت سلطة الإيقاع المنتظم. أما السرد في قصيدة النثر فهو متحرر من هذه السلطة، ولذلك نجد حضورًا قويًّا للتأتأة اللغوية وتفاصيل الحياة اليومية، التي تشير إلى قوة الزمن المعيش. السرد في هذه الحال ينتمي إلى اللحظة المعيشة التي انهارت فيها الحدود بين الداخل والخارج، وبين المحلي والكوني، لحظة توحد العالم في حاضره ومستقبله برغم الخصوصيات النسبية لكل ثقافة وهي خصوصية لا تتناقض مع الإيقاع العام الموحد للوجود البشري المهدد.

ومع «أيديولوجيا التجاوز» في شعر الحداثة التي تأسست على أن كل نص تجاوز لما سبقه، تصدَّرت اللغةُ المشهدَ، وصارت لغةً مطلقة متعالية عابرة للأشياء وبَدِيلًا منها. ذلك واضح جلي في تنظيرات أدونيس وشعر عفيفي مطر وسليم بركات، حيث اللغة بَدِيلٌ من أي فعل، اللغة تقدم نفسها هنا عالَمًا من الكلمات والشاعر نَبِيٌّ بياني، همه إرجاء الدلالة أو إبطالها. هنا نصبح مع اللغة وقد غدت سيمياء سحرية تتصدر مشهد القصيدة، تصبح هي العالم بعتامتها وتكثف دوالّها، كأن الشاعر تقني يخلق عالمًا من الكلمات التي ينفصل فيها الدال عن المدلول، واللفظة عن تداولها، ومن ثم تنادي مُتلقِّيًا من نوع الشاعر، مُتلقٍّ تقنيٌّ يحلق مع العالم الذي خلقته اللغة وصقلته، من ثم يصبح النص مغلقًا في وجه العالم، رافضًا الاندراج في التداول. وكان حتمًا أن تنغلق الدائرة وتصبح اللغة في موضع الارتياب، الذي يقود إلى الصمت.

من هنا نفهم أن تلوذ قصيدة النثر بالسرد، بالأشياء والتفاصيل ومن ثم بالتنوع الكلامي في الحياة اليومية، لتقترب قصيدة النثر في لحظة نضجها من اليومي والشخصي واللانبوي، أي من التعدد والتكثر بعيدًا من الصوت الواحدي المولع بتحويل اللغوي إلى عالم قائم بنفسه. ولا يمكن تحقيق هذا السعي ضد صنمية اللغة كما يعبر هنري لوفيفر إلا باستعادة العالم إلى القصيدة، أو بتحرير اللغة من أيديولوجيا الشعر بوصفه تعويضًا عن الفعل. إن رفض إيماء اللغة إلى نفسها بوصفها عالمًا بديلًا يقتضي أن تبدأ القصيدة من العالم لتندرج في سياقه، وتكتشف تنوُّعه وتعقُّده وتَأَبِّيهِ على الدخول إلى الخطاب، وذلك بالعودة إلى استعمال اللغة، لا تحويلها إلى مطلق فلسفيّ.

في هذا المنظور سيكون عملُ الشاعر على اللغة عملًا على العالم، وعملًا في العالم بعيدًا من أيديولوجيا الشعر بوصفه خادمًا لخطاب آخر، سواء كان هذا الخطاب الآخر يعمل في خدمة السياسي أو يعمل في خدمة نقيضه، حتى لو كان هذا النقيض رفع اللغة إلى مستوى المطلق الفلسفي. ذلك أن قصيدة النثر في تجلياتها العربية، وفي تنوُّعاتها جميعًا تفرق من التسييس ومن الأدلجة، لا بمعنى العداء لما هو سياسي، بل بمعنى التبعية للسياسي، بالقدر نفسه الذي ترفض فيه اليقين والتحديد. وفي هذا تبحث هذه القصيدة عن العالم بعيدًا من ضباب

اللغة المرفوعة إلى الأَوْج، اللغة المُصعدة لتصبح حضورًا يُكثِّف غيابَ الوجود البشريّ.

ليس من شروط هذا «الشعري» الموسيقا التقليدية المحدَّدة العناصر والوظائف سلفًا. الشعري كامن في الأشياء والتفاصيل، في العالم باختلافه وتنافره وانسجامه، كامن في تحجُّبه وانكشافه وصيرورته: عالَم غير معطى لمرة واحدة، بل يعطى في كل لحظة ويتجدَّد ويراوغ؛ لأنه عالَم غير مُنجَز وغير مكتمِل. لكنّ هذا العالَمَ الذي أصِفه هو عالَم كل إبداع وهذا صحيح بوجه عام؛ لأن الشعري هو ما تصبو كل الأنواع لتخطيبه، من دون أن يكون هناك ثمة طرائق مسبقة تجعله سهل المنال. في هذا ستلتقي مزايا هذا الشعر، مع كل شعر أصيل سابق أو لاحق. قد يخايلنا في فِلْم سينمائي أو لوحة تشكيلية لجويا أو هنري ماتيس، وقد نجده في شذرة «فلسفية» لنيتشه أو فالتر بنيامين هو في النهاية شعر محض، يجاوز الشروط الخارجية.

إذا عدنا لثقافتنا العربية، وإلى الشعر خاصة، سنجد أن قصيدة النثر احتازت كل طرائق التشكيل الشعري، لكنها أخضعتها لجوهرها بوصفها شعرًا محضًا، ينأى بنفسه عن أي وظائف تقليدية، وبخاصة الوظائف الأيديولوجية، سواء أكانت أيديولوجيات سياسية أو دينية أو بلاغية.

رفض قصيدة النثر لأي وظيفة غير جمالية جعلها بعيدة من المهام الأيديولوجية التقليدية اللصيقة بالنوع الشعري العربي منذ لحظات تأسيسه الأولى، وهي المهام التي حدث لها تغيير نسبي مع شعر التفعيلة المسكون بالهمِّ السياسي والهوياتي بوصفه إحدى بنى الثقافة بعد الحرب العالمية الثانية، وصعود حركات التحرر الوطني. كما أنها رفضت مهمة حراسة اللغة من التنوع الكلامي، وهي مهمة أيديولوجية، واضحة لدى شعراء «أيديولوجيا التجاوز» التي أشرت إليها منذ قليل. إن قصيدة النثر لا تعرف سوى وظيفة نابعة من جوهرها، بوصفها صوت الذات المنقسمة والمتعددة، أي الذات الإشكالية المضادة للهوية التقليدية في لحظة من الشك العميق في الأطر المغلقة، والسرديات الكبرى.

بدأت قصيدة النثر مسيرتها كأنها محض تمرد على قيود الوزن المعياري واللغة غير التاريخية المهيمنة في النوع الشعري، وفي صيرورتها اللاحقة أوغلت في تأسيس جمالياتها وثيماتها وموضوعاتها، وهو ما وسع الهُوَّة بينها وبين الصيغ الشعرية السابقة عليها والمتعاصرة معها. وقد تحول التمرد بعد ذلك إلى بنيةٍ تتسم بطابع الاستقرار النسبي، لكنها بنية مفتوحة لا على التاريخ فحسب، بل على الأنواع الأخرى والفنون الأخرى، ومن ثم أصبحنا مع سمات مهيمنة مغايرة لما هو مهيمن في الصيغ الشعرية الأخرى التي تأسست على مفاهيم مغايرة، ظلت مستقرة طوال تاريخ النوع.

*   *   *

من هنا صار لزامًا علينا أن نتعامل معها بوصفها شعرًا، ينطوي على اتصال وانفصال بالنوع الشعري. وأصبح من العبث نقدها وتأويلها من خلال التقنيات التي تأسست على مفاهيم غير مفاهيمها، وهذا ما يفسر رفض كثيرين من الذين لم تتسع ذائقتهم لها. وكما رفض العقاد يومًا عَدَّ قصيدة التفعيلة شعرًا لخروجها على المفهوم الكلاسيكي للوزن، يتكرر الموقف من قصيدة النثر، فالشعراء والنقاد الرافضون لها قامت الثقافة بتذويب مفاهيم وقيم أخرى فيهم، ولذلك تثير قصيدة النثر الاضطراب في نفوسهم التي تكونت ذائقتها تحت سلطة مفاهيم أخرى.

………………….

*نقلاً عن مجلة “الفيصل”

مقالات من نفس القسم